يخطئ من يعتقد اليوم بأنّ ذهابه في اليوم الأول من رمضان إلى القصبة قد يجد جوّا مختلفا أو مميّزا عن باقي الأيام، بل أنّك تتفاجأ بالحركة العادية جدا توحي بأنّ كل ما كان سائدا من تحضيرات حثيثة واستعدادات مكثّفة سابقا لاستقبال هذا الشّهر اختفت للأسف كلية، وذهبت مع أهلها الذين رحلوا عن الديار إلى جهات أخرى، حاملين معهم كل تلك العادات والتقاليد العائلية التي توارثوها أبا عن جد.
عندما انتقلنا بعد الزّوال للاطّلاع على الجو العام في هذا الفضاء العمراني القديم، اصطدمنا بصمت مطبق يخيم على زوايا الأزقة لا يصدّقه المرء الذي يعرف المكان جيدا وديكوره المادي والبشري منذ السبعينات إلى غاية منتصف الثمانينات أي قبيل الشروع في ترحيل السكان الأصليّين، فمن شارع النصر بأعالي باب جديد إلى غاية ما يسمى بـ «الدوزيام» ومن «الدوزيام» إلى ما يعرف بـ «زوج عيون» أي من القصبة العليا الى القصبة السفلى، لا تنبعث تلك الروائح الطيبة والزكية الصّادرة عن إعداد الأطباق كالشربة بالفداوش، المثوم، الدولمة، الدويدات وغيرها، ناهيك عن غياب حركة الانسان، لم نجد من نتكلّم معه كل المحلات مغلقة ماعدا القلة القليلة، ونقصد هنا الحرفيّين فقط.
وكلّما أردت النزول إلى أعماق هذا الصرح إلا وتزداد الصورة المكبّرة لذلك المشهد، بنايات منهارة، أكوام من الأتربة تعرقل السير عبر الممرات الضيّقة تشهد على الحالة المزرية الذي وصلت إليه.
في زاوية من زوايا «زوج عيون» كان السيد مصطفي بولعشب المدعو حسيسن، منهمكا في عمله بمحلّه يضفي لمسة الابداع بأنامله على منتوجه في قطع من الجلود، وهو ابن القصبة أفنى فيها عمره ومازال إلى يومنا هذا يشتغل فيه كحرفي مهني الوحيد الذي كان مفتوحا في هذا اليوم الممطر من بداية رمضان ودون أي حاجز نفسي انطلق في التعبير عن أسفه لما وصلت اليه القصبة اليوم، مرجعا ذلك الى قرار الترحيل خلال منتصف الثمانينات الذي لم يتبع بعملية الترميم الذي وعد بها المشرفون آنذاك. ومن هنا بدأت المشاكل التي امتدت الى غاية يومنا هذا خاصة عندما تم إغلاق «الدويرات» بالاسمنت المسلح استغل البعض غياب المراقبة ليدخلوها مرة أخرى ليقيموا فيها رفقة عائلاتهم لم يراعوا حد أدنى من الشروط منها عدم وضع قنوات المياه حتى لا تتصدع الجدران الترابية لأن مصدر التزود بالمياه أصلا من البئر غير أن الرياح جرت بها لا تشتهيه السفن.
ويتذكّر جيدا السيد بولعشب مصطفى أنّ المقاهي كانت لا تعد ولا تحصى بالقصبة، كمقهى جربوع، الرياضة، أكلي، موح صالح العريش، رابح اوقانة، البساكرة، بوزوران، ملاكوف كانت لكبار الشيوخ أي الفنانين وهناك مقاهي أخرى يستحيل تعدادها نظرا لكثرتها، كانت ملتقى يؤدي لسكان القصبة للسّهر ليلا بعد الفطور في أجواء من التسلية والترفيه الى غاية مطلع الفجر.
كل هذه الأجواء الرمضانية لم يعد لها أثر اليوم، ومن تتحدث معه يتأسّف تأسّفا جديدا لما آلت اليه العلاقات الانسانية في هذا الفضاء الحضاري، لا يحدّثونك إلا عن حالة البنايات ونسي الجميع تلك العوامل التي رسخت القيم والأخلاق والتربية لدى الفرد وجعلته دائما يقظا.