صرخة من أعماق قصبة البليدة

معالم صرح حضاري في طريــق الاندثـار

البليدة: لينة ياسمين

يعجب كل من يزورها ويفتن بنمط عمرانها المصفف في أزقة عتيقة، تعود بالانسان الى زمن بعيد  هادئ وتاريخي، والجميل فيها أنها صورة تكاد تطابق في أصل هندستها، العمارة التي هي عليها قصبة «العاصمة»، يقيم بها سكان من أهالي البليدة، ويطلقون على المكان «الدويرات أو حي أولاد السلطان»، ورفضه احتلال بلاده وقتها، وإن اختلفت الأسامي والألقاب، لكن اتفاق سري على أنها إحدى المعالم الاثرية النادرة بثالث أخصب سهل في العالم، سكنها أهالي المنطقة خارج أبواب البليدة السبع، ونشأ فيها علماء في الفقه المالكي ونجوم في المسرح والغناء الملتزم وأبطال رياضيين في ألوان من الرياضات المعروفة، وهي اليوم تبكي وترثي حالها ووضعها، بعد أن أشرفت معالمها على الاندثار والمسح النهائي.
بقلب مدينة البليدة يحدها جنوبا باب الرحبة العتيق، واحد من الابواب السبعة وشمالا يحدها باب دزاير، ترتفع في فضاء خال غير بعيد عن الطريق المؤدي الى حظيرة الشريعة السياحية من الشرق، أسوار بنيت بعناية فائقة، تشعر بالراحة والسرور وأنت تتجول بين أزقتها المتشابكة في فعل هندسي مدروس ومحسوب، تعود بالواحد منا إلى زمن لطيف، وإن دخلت أحد بيوتها فالاثارة تزداد ونبضات القلب بالبهجة تتسارع، ديار من طابق أرضي اختار سكانها أن يغرسوا وسط «السحين» أو الساحة شجرة «الليمون» بالخصوص، فيما غرف توزعت ميمنة وميسرة، واختار المهندسون أن تكون طولية لا عرض فيها كبير، وأسقفها صنعت من أطوال من الخشب تعرف محليا باسم «العدة»، تفنن ربات البيوت في ترتيبها وتوزيع ابنائها عليها، مع حرص لازم وثابت، أن تكون غرفة للضيوف يستقبلون فيها، أما الابواب فاختاروا لها شكلا مقوسا، نمقها وجملتها في عناية فائقة، والاسوار الطينية تجعل المناخ باردا صيفا ولطيفا شتاء، أما بعض الدور التي تعود لعائلات ميسورة، فتجد فقلب تلك الدور، نافورة فوارة بالماء تمتع الناظرين، وتستغل في وضع الفاكهة وسطها في موسم الحرارة، وهو تقليد ما تزال بعض العائلات تسنه لاستذكار الزمن الجميل، لكن وسط هذا الرونق الممتع، تحوّلت «الدويرات» هذه الأيام إلى ورشات بناء، زالت فيها آثار البناء العتيق الذي يعود الى زمن الأتراك، وحولها أصحابها الى بنايات مبعثرة لا جمالية فيها ولا رونق يسعد الناظر إليها، بعد أن كانت حسب مؤرخي المنطقة محجا لسياح من أوروبا وإفريقيا.
 وأيضا بعد أن احتضنت أسماء لامعة في الفقه الإسلامي وعلوم الدين، أمثال الشيخ ابن جلول وبابا أعمر والزوبير والبليدي، فضلا عن ضمها في زواياها على المدارس القرآنية المشهورة بها، ونجوما في فنون الغناء الجزائري والمسرح، على سبيل الذكر الحاج المحفوظ ودرياسة وسلوى والفنانة الراحلة  كلثوم، والمخضرمة فريدة صابونجي والكوميدي محمد التوري، فضلا عن اعتبارها احدى معاقل الثورة التحريرية وقواعدها الخلفية، رغم أنها تتوسط المدينة، حيث حاصرها العدو الفرنسي وسيجها في مداخل أزقتها، وسلط عليها مراقبة مشددة، لمنع حراك الثوار والتربص بأي نشاط ضد فرنسا الغاصبة.
وهي اليوم تستصرخ المسؤولين وتدعهم من خلال ابنائها المتمسكين بها وكبارها المحافظين على ما تبقى من معالم لإرث تاريخي، أن ينقذوا بقية المعالم حتى لا يتم المساس بها وهدمها وبناء مكانها عمارات وأبنية بعيدة في طابعها الهندسي عن خصوصية الحي العتيق، ويتم ترميم الديار المتضررة بفعل ظروف الطقس والمناخ، خاصة وأنه معروف عن الحي العتيق ممارسة انشطة تقليدية مثل صناعة الدربوكة و الحناء وأنواعا من الافرشة، برع فيها أصحابها وكسبوا زبائن وتموقعا بين المهرة من الخياطين، وما يزالون يواصلون الاستفادة من إرث لا يزول، ثم أن المكان في حقيقته، يصنف ضمن المعالم السياحية، التي يمكن استغلالها وجعلها مكسبا سياحيا، خاصة أنها كانت منفى لاحدى ملوك افريقيا يحج اليها احفاده إلى غاية يومنا، رغم إزاله قصره، إلا أن الشكل العام للحي ما يزال قائما، والوقت لم يتأخر بعد لتدارك الحال.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024
العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024