لم يكن عدد سكان الجزائر يتجاوز الـ 15 مليون نسمة قي حقبة ما، وبالتالي نظريا لم تستوع أغلب المدن الجزائرية سكانها لا من حيث الإيواء ولا من حيث المرافق الضرورية كالمدارس، والمستشفيات وفضاءات حيوية أخرى.وبقيت هذه المدن الرئيسية هي الوعاء الوحيد الذي يستوعب سكان الجزائر الذين بات عددهم في ازدياد مطرد، فتم توسيع الأحياء الحضرية مع كل حاجة للإسكان، إلى إن التهمت هذه الأحياء الأراضي الفلاحية المحاذية للمدن، ولم تعد المدينة قادرة على احتواء هذا العدد الكبير من سكانها لا من حيث المنشآت ولا من حيث الخدمات التي توفرها هذه المدن للسكان، فأصبحت المدينة تختنق وهذا كله على حساب راحة المواطن.
فما البديل للتخفيف عن هذا الاختناق الذي بات يشوّه أكبر المدن الجزائرية؟ وماهي السياسة الواجب انتهاجها للارتقاء بمستوى الخدمات المقدمة للسكان؟
يقول الدكتور عبد الرحمن من قسم علم الاجتماع، تخصص ديموغرافيا عن جامعة عنابة، إشكالية اكتظاظ المدن لها العديد من الأبعاد اجتماعية، تاريخية وسياسية كذلك.
فمن الناحية التاريخية، يعتبر المجتمع الجزائري مجتمعا ريفيا بامتياز، أي بنسبة 75 % من توزيعاته الحضرية يغلب عليها الطابع الريفي، والذي النشاط الأساسي فيه يعتمد على الزراعة، كما أنّ هذه التجمعات الحضرية في تماس مع المجتمع الزراعي، بمعنى أنه من يسكن في هذه المدن هم في الحقيقة أغلبهم فلاحين أو لهم ارتباط بطريقة أو بأخرى بالأنشطة الفلاحية، وبالتالي هؤلاء السكان أغلبهم كان يقطن بالريف، أو هم في وجودهم عبارة عن أجيال متتابعة لأسر الفلاحين الذين كانوا بالأمس القريب يسكنون القرى والمداشر.
هذه الأسر الفلاحية توسّعت وكبرت وزادت حاجياتها، وبات النشاط الزراعي غير كاف لتغطية حاجياتها، فاتجه أبناؤها صوب المدن من جهة بحثا عن الرزق والعمل، ومن جهة أخرى طلبا للسكن والإيواء، وبقيت في ارتباط دائم وأسرها في الأرياف، ومن جهة أخرى الريف الجزائري بقي على حاله منذ عهد الثورة الزراعية، وزادت حالته تدهورا إلى أن جاءت العشرية السوداء والتي حتّمت على سكان الأرياف النزوح باتجاه أقرب المدن إليهم، الشيء الذي ضاعف من متاعب المدينة وزاد من كثافتها السكانية، فتم إنجاز الأحياء الشعبية لتخفيف الضغط لكنها بقيت غير كافية، خاصة من جهة الخدمات المقدمة للمواطنين.
العامل الثاني وهو عامل اجتماعي صرف، إلى وقت قريب كانت الأسرة الجزائرية تؤمن بالعائلة الكبيرة المكونة من الجد والجدة والأعمام والأبناء والأحفاد، كلهم ببيت واحد إلى غاية سن متقدمة للأحفاد ودخولهم للمدارس والعائلة الكبيرة متعايشة بين بعضها البعض، لكن الأسرة الحديثة باتت تكفر بهذه التقاليد، بل أضحى السكن الشرط الأساسي لإقامة عائلة حديثة، باتت الأسرة الصغيرة المستقلة عن العائلة هي المطلب الأساسي للأزواج الجدد، وبالتالي هذا الأمر زاد من حاجة المجتمع إلى المزيد من الانجاز للسكنات الاجتماعية، ممّا زاد من درجة اختناق المدن أكثر فأكثر.
العامل الثالث وهو عامل سياسي، فالمركزية الكبيرة في توزيع الإدارات العمومية والوزارات والمؤسسات السيادية، والتي اقتصرت على العواصم في اغلب دول العالم الثالث، كانت لها تبعات وخيمة على توزيع السكان، فلو نأخذ النموذج الديمغرافي الأمريكي، فكل ولاية أمريكية تتبعها مؤسسات وهيئات عمومية ووزارات حسب طبيعة هذه الولاية والنشاط الرئيسي الذي تشغله في الدولة القطرية الأم، فواشنطن مثلا العاصمة السياسية، وكاليفورنيا العاصمة التجارية.
لكن هذا ما تفتقر إليه المدن الجزائرية وأغلب مدن العالم الثالث، والتي أضحت العاصمة هي العصب الرئيسي لسير جميع المقاطعات والولايات الأخرى. وهذا التوزيع من الأخطاء الكبيرة كذلك، فإذا حدث أي عدوان أو هجوم فهو يستهدف العاصمة كأول نقطة في الدولة لطابعها السيادي، فسقوطها يعني سقوط الدولة السريع، وبالتالي كان واجبا وحتميا أن يتم توزيع الهيئات والوزارات والمؤسسات الكبرى للدولة على أهم نقاط القطر الوطني. كما أن طريقة انتقال المواطن باتجاه الإدارات يكون مركزيا، فالعاصمة الجزائرية مثلا يدخلها يوميا أزيد من مليون مواطن من الولايات الأخرى، وهذا العدد أكيد له خدمات يطلبها يوميا مما يشكل عائقا كبيرا في سير المدينة الطبيعي.
بات ضروريا على الدولة الجزائرية أكثر من ذي قبل أن تتجه نحو سياسة عمرانية رشيدة، تقوم على مبدأ التوزيع المتكافيء للسكان بناء على الخدمات الاجتماعية المتوفرة، والمرافق الضرورية الموجودة وفق ما يتطلبه كل تجمع سكاني جديد.
لا بد أن تتجه الدولة إلى إنشاء المدن الحديثة التي تراعي توفر اغلب الخدمات الصحية والتعليمية، وكذا اغلب الإدارات العمومية وتقريبها إلى المواطن، كذلك من الناحية الحضرية أن تتضمن هذه الانجازات مدن بطابع حضري عصري له صبغة المدينة العصرية يراعى فيها الجانب الجمالي، وكذا البنية التحتية الصلبة التي تؤهل هذه المدينة لاحتضان أي إنجاز في المستقبل.
فلا يخفى على أحد ماذا عانت العاصمة الجزائرية من اكتظاظ ومن تشويه طيلة إنجاز الميترو بوسط المدينة، نتيجة البنية التحتية الهشة التي باتت غير قادرة على تحمل المزيد من الانجازات عليها.
المدينة الجديدة ذراع الريش
تمّ نهاية الأسبوع الفارط بمقر المجلس الشعبي الولائي لولاية عنابة، تنظيم يوم دراسي تحت الرعاية السامية للسيد والي ولاية عنابة محمد الغازي.
المؤتمر تضمّن عرضا للمخطط الأولي للمدينة الجديدة ذراع الريش ببلدية وادي العنب ولاية عنابة، والمزمع إقامتها على هذا التل على مساحة تزيد عن 1340 هكتار، وفق معايير المدينة الحديثة بطاقة استيعاب تتجاوز 200 ألف نسمة بما يعادل أزيد من 40 ألف وحدة سكنية، وكذا جميع المرافق الأساسية التي تتضمنها المدينة الحديثة على غرار مستشفيين جامعيين وكذا مدارس الأطوار الثلاث.
المخطط تمّ عرضه من طرف مكتب الدراسات الأجنبي ألجوي ألجري، أين تضمّن إعطاء تفاصيل كبيرة عن أهم المرافق التي سوف تقام على هذا التل الذي تم الإعداد في تهيئة أرضيته، أين عقدت مقارنات بين مخطط مدينة الجزائر العاصمة من خلال عروض للعديد من الخرائط الجيولوجية وكذا العديد من التصاميم الهندسية التي تشكل المدينة الحديثة، كما تطرّق مكتب الدراسات وبإسهاب عن أهم مقومات المدينة الحديثة انطلاقا من التصاميم التي اعتمدتها فرنسا في إنشاء المدن الجزائرية الكبيرة، مركزا على أهم معالم المدينة الحديثة بتوفر أهم عناصر البنية التحتية الأساسية من وفرة المياه وكذا الأرضية ومدى ملائمتها للانجاز، وقدرة هذه الأرضية على مد قنوات المياه والصرف الصحي، وكذا شق الطرقات من والى خارج هذه المدينة التي سوف تكون مثالا يحتذى به في الجهة الشرقية من الوطن، كما يترقب سكان عنابة أن تكون هذه المدينة منفذ النجدة الذي من خلالها يتم القضاء عن أزمة السكن.
كما تمّ إعطاء إشارة الانطلاق لإنجاز ما يقارب 6000 وحدة سكنية في هذه المدينة خلال الموسم 2013 ــ 2014.
كما تولي ولاية عنابة العناية الكبيرة لتقدم بداية الأشغال في إنجاز هذه المدينة الجديدة، والتي يأمل الجميع أن تكون النموذج الذي يجب أن تسير عليه باقي مدن القطر الجزائري، وكذلك المنعطف الكبير الذي سوف يشهده قطاع العمران في الجزائر، وهو التوجه نحو إنشاء المدن الحضرية ذات الطابع العصري الحديث ببنية تحتية صلبة تراعي الرؤية المستقبيلية للنمو الديمغرافي في الجزائر.
ذراع الريش...المدينة البديل بعنابة
تحكم أكثر في التوسع العمراني
شوهد:2769 مرة