“ثمشرط“ و“الوعدة“، “اورار نلخلاث“ و“اللمة“

هكذا يحتفل سكّان جرجرة بليلة عاشوراء

نيليا.م

تشهد مختلف قرى ولاية تيزي وزو عدة تحضيرات لإحياء مناسبة عاشوراء، وهذا قبيل أيام قليلة من حلولها، هذه المناسبة الدينية التي ارتبطت بعادات وتقاليد احتفالية تميز منطقة القبائل عن باقي ولايات الوطن، حيث تكتسي القرى مظاهر احتفالية تنظم خلالها عدة تظاهرات تعمها الفرحة والبهجة وتجمع شمل سكان القرى الذين يتفاءلون خيرا بهذه المناسبة التي يطلق عليها اسم «السبوع» في منطقة جرجرة، حيث يحتفل بها على مدار ثلاثة أيام انطلاقا من تاريخ السابع من محرم إلى اليوم العاشر من محرم.

تعتبر عاشوراء احتفالية جمع للشمل وهي عادة راسخة يحتفل بها سكان المنطقة منذ الازل، فهي عادة ارتبطت بتقاليد الاسلاف التي توارثها السكان منذ الفتح الاسلامي الى شمال افريقيا، لتدخل في اجندة العادات والتقاليد التي حرص الأسلاف على احيائها وتوارثتها الأجيال عنهم، لتعود الى الواجهة في كل سنة وتعود معها مظاهر الفرحة والبهجة، واوصر التكافل الاجتماعي، فهي تحمل دلالات عميقة للتماسك والتآخي بين سكان القرى.
منطقة جرجرة التي تعرف عدة عادات وتقاليد تختلف من مناسبة الى أخرى، تعيش هذه الأيام على وقع التحضيرات لإحياء عاشوراء في اجواء من الفرجة والفرحة والزينة التي اضفت صور جمالية على القرى، التي بدأ سكانها في تنظيف الأزقة، المساجد والزوايا، إلى جانب التحضير للوعدة التي تجمع الشمل وتؤلف بين القلوب لإنهاء المشاحنات والمشاكل بين المتخاصمين، وهو الهدف من احياء هذه العادة في منطقة القبائل، حيث لا يتخلف أي شخص عن هذا الموعد الهام خاصة المغتربين أو الذين يسكنون بعيدا عن قراهم، لتتحوّل هذه الاحتفالية إلى موعد لتجديد اللقاء والعودة إلى احضان القرى وشَمِ رائحة وعبق الاصالة والاجداد.

“ثمـشرط“عادة متأصلـة.. تجمع شمل الــعائـلات

تتصدّر عادة الوزيعة «ثمشرط» مشهد الاحتفاليات بمناسبة عاشوراء في مختلف قرى ولاية تيزي وزو، لما لها من عدة اعتبارات اجتماعية، تضامنية وتكافلية تتعزز خلالها أواصر الاخوة، التكافل الاجتماعي وانهاء الخصومات والمشاحنات لتسود اجواء الاخوة والفرح والمحبة بين السكان.
عادة الوزيعة يتمّ التحضير لها بعد اجتماع اعيان القرية، أين يتقرّر جمع التبرعات والتصدق بالأموال من اجل شراء العجول وحتى الكباش، كما انه يتمّ التصدق بها من طرف اغنياء القرى على ان يتم ذبحها في اليوم الذي يسبق الاحتفاليات بعاشوراء أو في صبيحة يوم عاشوراء، وهذا يختلف من قرية إلى أخرى.
عملية الذبح تتمّ في اجواء تعمها الفرحة والبهجة، حيث يجتمع رجال القرية في ساحة كبيرة مخصصة لذلك وتوزع عليهم الأدوار، في حين تكلف النساء بطهي الطعام الذي يكون عادة في طبق الكسكس باللحم والذي يجتمع حوله سكان القرية الذين ينظمون موائد للعشاء تحيط بكامل أزقة القرى، ليجلس حولها السكان حيث يتناول الرجال العشاء بمفردهم وتتناول النسوة العشاء أيضا بمفردهن، حيث لا يختلط الرجال والنساء.
 في حين تفضل قرى اخرى توزيع اللحم على العائلات لتحضر كل عائلة وجبة العشاء بمنزلها ويجتمع عليها افراد العائلة، فيما تقوم قرى أخرى بتحضير طبق الكسكس وتقوم بتوزيعه داخل قصعات من الفخار ووضع ملاعق على ان توضع في مختلف ارجاء القرية ويجلس حولها الرجال، الأطفال والنساء حسب العدد أو المجموعة، هذه العملية التي يتعاون عليها الرجال والنساء ما يضفي على القرى مظاهر من الاخوة والفرحة والتنظيم المحكم حيث لا يتخلف أي أحد على هذا الموعد الهام.

“يـا أمي عـاشور، عاشور أعطيني قليل مــن الحــدور“

تشهد قرى منطقة القبائل قبل يوم من بداية الاحتفال بعاشوراء، أجواء من الفرجة يكون أبطالها الاطفال الصغار الذين يجوبون القرية، يطرقون كل الأبواب حاملين في ايديهم القفف التقليدية، بغية جمع كل ما تحتاجه النسوة لتحضير طبق الكسكس، هذه العادة التي تعود صورها سنويا يتغنى الاطفال فيها بأغنية شهيرة وهم يتجولون في مختلف الازقة «يا أمي عاشور، عاشور أعطيني قليل من الحدور، ربي يحفظ لك ابنك، يصعد على الجدران ويأتي لك بالبلوط»، الأمر الذي يدفع النسوة بالخروج عند سماع طرق الباب.
 وتقوم كل واحدة بإعطائهم «الكسكس، السميد، البيض والقديد، إلى جانب زيت الزيتون»، وبعد انتهاء المهمة يتوجهون إلى المسجد لوضع كل ما جمعوه، لتستلم النسوة المهمة التالية والمتمثلة في تحضير «الوعدة» وهي وجبة طعام يجتمع عليها سكان القرية في اليوم الموالي وهو يوم عاشوراء، هذه العادة التي اندثرت في عديد القرى ولكن ما تزال راسخة في اذهان سكان بعض القرى والتي تعود الى الواجهة في هذه المناسبة على غرار قرية بوحمدون في معاتقة، والذي يحضرون لها في اجواء احتفالية تصنع صور من الفرح والضحكات التي تملئ ارجاء القرية.

إخراج الطفل محملا بقفة من الطعام

تعرف منطقة القبائل بعادة لا نجدها في مناطق اخرى من الوطن، تتعلق بالأطفال الصغار او حديثي الولاية، حيث تمنع الاعراف اخراج الطفل الصغير من المنزل الا في مناسبة عاشوراء، اين تحضر الجدة او الأم لهذا الحدث الكبير في العائلة وذلك من خلال شراء ملابس جديدة للطفل والقيام بإجلاسه على هيدروة كبش العيد في الليلة التي تسبق عاشوراء، على ان يحيط به كل افراد العائلة وهم يرمون عليه مختلف حبوب البقوليات والحلويات، وفي صبيحة اليوم الموالي تحضر له العائلة قفة مملوءة بمختلف انواع الطعام والأطباق التقليدية، ويخرج الاب او الجد الى القرية اين يحضر اجتماع القرية لأول مرة وبعدها يمحنهم مبلغ من المال كدلالة لالتحاق رجل اخر بلجنة القرية عندما يكبر، وهذا في اجواء احتفالية ويتكفل شيخ القرية بقراءة القرآن على رأسه وهذا لإبعاد العين على الطفل الصغير.

الامتناع عن القيام بالحرف التقليدية

عند حلول مناسبة عاشوراء تمتنع النسوة عن ممارسة بعض الحرف التقليدية المتعلقة اساسا بالصوف او الفخار، وهذا لما له من تأثير مباشر على صحة المرأة واصابتها ببعض الامراض، هذه العادة التي توارثتها النسوة عن الجدات والأمهات حيث تمنع السيدات من غزل الصوف، او القيام بصناعة البرانيس وحتى الزرابي، ناهيك عن امتناعهن عن صناعة الاواني الفخارية، او الاقتراب من كل ما هو حرفة تقليدية، في حين تستثنى العجائز أو المسنات من هذا التقليد، حيث تروي النسوة في المنطقة ان القيام بممارسة نشاطهن في مختلف الحرف التقليدية يسبب لهن الاصابة برعشة على مستوى اليدين، في حين يمكن للعجائز والكبيرات في السن بالقيام بذلك وهذا لكبر سنهن.
هذه العادة ما تزال راسخة في الاذهان الى غاية يومنا هذا وبالرغم من اندثار العديد من الحرف التقليدية في عديد القرى، الا انه تمنع المرأة من الخياطة او مسك إبرة الخياطة الى غاية مرور ثلاثة ايام من عاشوراء بداية من اليوم السابع من محرم والى غاية اليوم العاشر من محرم الذي يصادف يوم عاشوراء.

“الـلمّة“ و“اــلحنة“ مـظاهر احتفالـية طــاغــيــة

طبق عشاء ليلة عاشوراء في منطقة القبائل يحمل العديد من الدلالات والقدسية لدى سكان منطقة القبائل، فلا يكتفي الاجتماع على طاولة واحدة وتقاسم نفس وجبة الطعام التي تتمثل اساسا في طبق الكسكس باللحم والبيض، او القديد بالبيض، الا انه يحمل من الدلالات الكثير حيث لا يستثنى من هذا الطبق أحد، بدليل أنه عند حلول ليلة عاشوراء الجلوس على طاولة العشاء تقوم الجدة او الأم بوضع ملاعق اضافية تسمى بأسماء افراد العائلة المسافرين او المتواجدين خارج القرية وفي ديار الغربة.
يُحسب نصيبهم من اللحم والبيض ويوضع في صحن الطعام، كما تقوم المرأة بترك جزء من اللحم في قدر الطعام، اعتقادا منهم أن عاشوراء تقوم بزيارتهم في الليل وهذا لتفقد كل اواني المنزل، لهذا يفضل ان يترك الطعام داخل القدر، كما يمنع غسل اطباق المنزل او كنس المنزل الى غاية اليوم الموالي، وهذا لزيادة البركة والوفرة في المنزل على مدار السنة.

“اورار نلخلاث“ و“المدائح الدينية“تصدح في أرجاء القرى

 الزائر لمختلف قرى منطقة القبائل في يوم عاشوراء، يعيش اجواء من الفرح والفُرجة التي تصنعها النسوة وهن مجتمعات في ساحة القرية حيث يتزينن بأجمل الجبات القبائلية والمجوهرات الفضية، وايديهن مصبغة بالحنة، هذه القعدة النسوة التي تصل إلى مسامع الحاضرين على بُعد أمتار من القرية، وهذا من خلال مجموعة الاغاني الشعبية التقليدية التي تتغنى بها النسوة بمرافقة آلة الدف ناهيك عن الزغاريد التي تزلزل الارجاء.
هذه القعدة النسوية الجميلة تعيد إلى الاذهان قعدات الجدات والامهات وهن يرددن اجمل الوصلات الشعرية الملحونة التي تفننت النسوة بتأليفها وغنائهن بحناجر من ذهب، ليجتمع حولها الزائرون وسكان القرية للاستمتاع بهذه الأجواء على انغام «اورار نلخلاث» الذي اعاد رونق وجمال القرى التقليدية بمنطقة القبائل.
الرجال بدورهم يتفننون في أداء اجمل المدائح الدينية التي يتذكرون من خلالها مختلف قصص الانبياء ورسالة الرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ، هذا التقليد الذي يعود سنويا الى القرى حيث يبادر مشايخ وكبار اعيان القرية الى التجول في مختلف ازقة وطرقات القرية وهم يرددون هذه المدائح الدينية، على ان تقوم النسوة بالخروج من المنازل ومنحهم مبالغ مالية تجمع داخل منديل او قماش احمر، وبعد الانتهاء من هذه المهمة يتوجهون الى المسجد من اجل تسليم المال الى كبار القرية بعد ان يتمّ عد المبلغ، ليستغل بعدها في انجاز مختلف المشاريع التي تحتاجها القرية.
تعتبر الاحتفاليات بعاشوراء في منطقة القبائل أكثر من مجرد احتفالية فهي عادة وتقليد يُآخي بين سكان القرى، وتجمع شمل العائلات بعد الافتراق، كما انها تضفي مظاهر من الجمال والفرح والفُرجة التي لا نشهدها الا في هذه المناسبة التي توارثت الاجيال عاداتها وتقاليدها من الاسلاف.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024