تسيير أعرج ومستقبل غامض

الاحتراف .. بين المال والسياسة

عمار حميسي

دخل الاحتراف في الجزائر مرحلة الموت السريري بسبب بدايته العرجاء والارتجالية، بعد جفاف منابع الدعم المالي بسبب الأزمة المالية التي تعاني منها الجزائر بعد تراجع أسعار البترول وإتباع الدولة سياسة التقشف وترشيد النفقات، وهو ما انعكس على الأندية التي كانت تعتبر عقود الإشهار الوهمية البقرة الحلوب.

بداية الاحتراف في الجزائر كانت خاطئة ولا تمت للكلمة بأي صلة، حيث يمكن وصفها بالبداية الفوضوية أو الشعبوية التي كان الغرض منها دخول مرحلة جديدة بشتى الطرق، رغم أن الجميع كان متأكدا أن النهاية لن تكون كما ينتظرها الجميع مشرقة ومزدهرة بل العكس تماما.
منح 32 فريقا صفة نادي محترف مع وضع دفتر شروط يتضمن العديد من النقاط التي يتوجب على الأندية استيفاءها بعد أن منحوا اللقب الفخري «نادي محترف»...والغريب أن الكثير من رؤساء تلك الفرق كان غرضه الوحيد هو الحصول على المال بشتى الطرق حتى لو استلزم الأمر بيع وشراء المباريات.
فهم رؤساء الأندية الاحتراف على نحو خاطئ، وهو جعل الفريق غنيا وغير مدان، إضافة إلى رفع أجور اللاعبين والمدربين لكنهم نسوا أمرا مهما وهو استمرارية المشروع، وهل يمكن مواصلة صرف الأموال بهذه الطريقة لفترة طويلة دون ضمان عودتها في شكل استثمارات رياضية؟

تراجع الهوة بين الأندية

في كل دول العالم وعلى مستوى جميع الأندية هناك تفاوت مالي، وهو أمر منطقي وطبيعي بحكم تباين مداخيل الأندية، وهناك مثلا من تكون مداخيله كبيرة والعكس صحيح ممّا ينعكس على أجور اللاعبين والمدربين التي تكون هي الأخرى مختلفة من فريق لآخر بالنظر إلى اختلاف المداخيل.
في إسبانيا مثلا من المستحيل أن تجد لاعبا في نادي يحتل المركز الأخير يتساوى في الراتب مع فريق متواجد في الصدارة لأن الفريق المتصدر ينافس على البطولة، وهو مواظب على المشاركة في المنافسة الأوروبية مما يجعله يحتاج لاعبين من طراز عالي وهو ما يستوجب دفع أجور مرتفعة.
عندنا في الجزائر الأمور مختلفة والعكس هو الصحيح، حيث تجد لاعبا في فريق متصدر يتقاضى راتبا يتساوى أو يقل عن لاعب ينشط في فريق متواجد في مؤخرة الترتيب بسبب أن كل الأندية تتحصل على أموال ضخمة تجسيدا للشعبوية والفوضى في تسيير المال العام رغم أن الفريق المتواجد في المؤخرة يفترض أن تكون مداخيله أقل.
الهوّة المالية تراجعت بين الأندية خلال بداية عهد الاحتراف في الجزائر بسبب قيام المسؤولين حينها بضخ أموال طائلة للعديد من الأندية من أجل تهيئة الأجواء لبعض الأحداث السياسية التي لها علاقة بالسلم الاجتماعي، وهو ما استدعى التعامل بسخاء مع الأندية التي وجدت العديد منها صعوبة في كيفية صرف الأموال الطائلة التي تحصلت عليها.
العديد من وكلاء اللاعبين وجدوا أن الأمر يجب أن يستغل على نحو جيد لمصلحتهم، وهو ما جعلهم يقومون بالتنسيق مع رؤساء الأندية برفع أجور اللاعبين إلى مستوى غير مسبوق، حيث أصبحت كتلة أجور اللاعبين على مستوى الأندية كبيرة جدا، ولم يكن هناك اختلاف كبير بين أندية المقدمة والمؤخرة.

المستوى الفني في خبر كان

لهث رؤساء ومسؤولي الفرق خلف المال جعلهم يهملون عاملا مهما لنجاح الاحتراف، وهو العامل الفني حيث تقهقر مستوى البطولة وأصبح يلامس الحضيض بعد أن فشلت الأندية الجزائرية في الوصول إلى المراحل المتقدمة من المنافسات الإفريقية رغم أنها تتحصل دوريا على أموال ضخمة.
انعكس اللهث وراء المال على اللاعبين، الذين أصبح همهم الوحيد هو الحصول على الأموال والتفاوض على قيمة الأجور التي يتقاضونها مع إهمال الجانب الفني والعمل الجاد في التدريبات من أجل تحسين المستوى والظهور بشكل جيد خلال المباريات من أجل إضفاء عامل المتعة والفرجة.
تراجع المستوى الفني للبطولة كان ملحوظا بعد تراجع نسبة تمثيلها على مستوى المنتخب الوطني، الذي أصبح يعتمد في مجمله على اللاعبين المحترفين الناشطين في مختلف البطولات الأوروبية وكان لزاما على مسؤولي الأندية عدم إهمال العامل الفني الذي كان آخر اهتماماتهم رغم انه من المفروض أن ينال كل الاهتمام، خاصة أنه الواجهة التي يتم من خلالها تسويق صورة جيدة على الكرة الجزائرية.
في البلدان التي تطبق الاحتراف بحذافيره لا يتم الاهتمام بالجانب الفني فقط بل يتم تطبيق منهجية في التدريب على كل الأندية، وتكون ملزمة بتطبيقها من الفئات السنية إلى الفريق الأولى، وهو ما يمنح الفرق والبطولة على حد سواء صورة فنية معينة تميزها عن البطولات الأخرى.

رجال الأعمال زادوا الطّين بلّة

دخل بعض رجال الأعمال مجال الاستثمار في الأندية من خلال شراء اغلب الأسهم ليصبح بذلك المالك الوحيد للفريق، ورغم أن هذا الإجراء جاء بهدف إنقاذ الاحتراف إلا انه كان بمثابة رصاصة الرحمة التي أدخلته إلى الإنعاش، ومن بعدها لمرحلة الموت السريري المتواجد عليها الآن.
فئة رجال الأعمال لم تكن إلا واجهة لفئة أخرى كان هدفها استغلال هذه الأندية لتلميع صورتها لدى الرأي العام من أجل تمرير العديد من الأفكار التي كان الغرض منها تنويم الشباب وإلهائهم بالجانب الرياضي فقط دون السماح لهم بالتفكير في الأوضاع المعيشية أوكيفية المساهمة في بناء الوطن.
استغلت فئة رجال الأعمال تواجدها على رأس بعض الأندية لزيادة الثروة والنفوذ، خاصة أن الشهرة موجودة بسبب الاهتمام الكبير والشعبية التي تحظى بها كرة القدم في الجزائر، حيث هناك من استغل الأمر لأغراض انتخابية من خلال الدخول إلى قبة البرلمان أو الحصول على قروض بنكية ضخمة من خلال استغلال اسم النادي وشعبيته الكبيرة للحصول على مجموعة من الامتيازات المالية والضريبية.
إدارة الأندية من طرف هذه الفئة كانت كارثية بكل المقاييس، فخياراتهم فيما يخص إدارة الفريق كانت خاطئة بدليل استعانتهم ببعض المسيرين المعروف عنهم الفساد المالي والرياضي دون نسيان تهميش الكفاءات في الفرق سواء تعلق الأمر بالمدربين أو الإداريين، حيث تم إحاطتهم ببعض الأشخاص المعروفين بسمعتهم السيئة.

الأنصار يتفنّنون في انتقاد الفساد المالي والرياضي

مع توالي الأيام تكوّنت لدى أنصار الفرق فكرة واحدة، وهو أن الفئة التي تسير الأندية وفي مجملها مشاركة في الفساد المالي والرياضي الذي تعيشه الكرة الجزائرية سواء بالسكوت على الفساد أو المساهمة المباشرة فيه، وهو ما استفز ملكاتهم في تأليف الأغاني والهتافات الناقمة على الأوضاع.
أحسّ أنصار العديد من الفرق بالظلم بسبب المشاكل التي كانت تعاني منها أنديتهم بعد أن وصفوا ما يحدث باللاعدل من خلال إتاحة الفرصة لبعض رجال الأعمال بالاستثمار في أندية بعينها، إضافة إلى منح أندية أخرى شركات وطنية راعية لها تمدها بالأموال دون حساب.
وحتى الأندية التي كانت تابعة لبعض رجال الأعمال، أنصارها كانوا ناقمين ورافضين فكرة امتلاك هذا الشخص الذي تحيط به العديد من الشبهات مسؤولية قيادة الفريق، حيث كانت ردة فعلهم في المدرجات من خلال بعض الأغاني التي كانت تعكس هذا الرفض للواقع الموجود.
حقّقت بعض الأغاني التي ألّفها بعض أنصار الفرق نجاحا كبيرا لأنها عالجت الواقع المعيش بدقة، ومنحت من يسمعها جرعة من الأوكسيجين للتعبير عن ما يعيشه، كما عبّرت عن بعض الأحداث السياسية بكلمات ساخرة تؤكد رفضها وسخطها عن الأوضاع السياسية والمعيشية السائدة.
انتقل مد الغضب والرفض من خلال هذه الموضة الجديدة الخاصة بالأغاني التي يؤلفها الأنصار في المدرجات إلى العديد من فرق البطولة، وهو ما زاد من درجة الوعي، وتعرف الناس على مكامن الخلل ومواقع الفساد المالي والرياضي، وتأكد الجميع أن التغيير أصبح أكثر من ضروري للوصول إلى مكانة أفضل.

الحراك يستمد قوّته من الملاعب

تغلغل الشك في أوساط المناصرين الذين فقدوا الأمل في رؤية الأوضاع تتحسن من جديد، والفساد المالي والرياضي ينتهي في مجال الكرة لكنه كان يزداد من يوم لآخر مستمدّا قوته من صمت الشارع والطبقة المثقفة، التي رفضت لعب دورها من خلال التنبيه ودق جرس الإنذار، لكن العكس هو الذي حدث حيث جاء جرس الإنذار الأول من مدرجات الملاعب.
هتافات وأغاني المناصرين بدأت تصل إلى آذان غالبية الشعب الجزائري من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، التي لعبت دورا كبيرا في سرعة انتشارها ووصولها إلى جموع المواطنين، الذين آمنوا بفكرة التغيير نحو الأفضل رغم أنها جاءت من مدرجات الملاعب، إلا أن سمو هدفها جعلها تصل بسرعة إلى الشعب الجزائري.
أغاني الملاعب غزت ساحات الجزائر التي امتلأت بالمواطنين، الذين صنعوا صورا جميلة حيث عكس الحراك الشعبي ثقافة ورغبة الشعب الجزائري في تكريس مبدأ التغيير السلمي ورفض التغيير بالعنف، حيث انتقلت هذه الصور ومعها الأغاني التي كان يرددها الأنصار في المدرجات إلى الساحات والأماكن العمومية.
الحراك استمدّ قوته من المدرجات هي العبارة المناسبة لهذا الحدث، خاصة أن من شارك في الحراك لم يكن يمتلك عبارات وهتافات معينة تعكس ما يريده، حيث استمد الهتافات والشعارات من الأغاني التي كان يرددها الأنصار في المدرجات نقما على الفساد المستشري في المجال الرياضي والكروي على وجه الخصوص.
نجاح الحراك في مسعاه الذي كان يرمي إلى التغيير السلمي والايجابي، كان انعكاسا لنجاح الأنصار في التعبير عن رفضهم لما كان يحدث من فساد رياضي وكروي، ورغم أنهم لم يحققوا كل النجاح في الوصول للتغيير الايجابي على مستوى الأندية، إلا أن نجاح الحراك في مسعاه كان بمثابة نجاح لهم.

الإرادة السياسية ضرورية لإنقاذ الاحتراف

إنقاذ الاحتراف وإنجاحه يبقى أمرا ممكنا شريطة توفر العديد من العوامل المهمة، إضافة إلى الوقت اللازم للحصول على نتائج مرضية ويبقى أهم عامل هو توفر الإرادة السياسية اللازمة من أجل تحقيق هذه الغاية خاصة أن هناك العديد من البلدان من عانت في بداية تطبيقها للاحتراف لكنها حققت فيما بعد نتائج باهرة بعد أن تمّ توفير الإرادة السياسية اللازمة.
لحد الآن لم تتوفر الإرادة السياسية اللاّزمة من أجل إنجاح الاحتراف في الجزائر، خاصة أن هناك العديد من الأندية مازالت تسيّر من طرف بعض المسؤولين المعروفين بسمعتهم السيئة، إضافة إلى تورط مسؤولين آخرين في قضايا فساد على غرار رجال أعمال كانوا أو مازالوا مساهمين في بعض الأندية، كل هذه العوامل تعرقل السبل في الطريق لإمكانية إنقاذ الاحتراف.
الإرادة السياسية يجب أن تساهم في تنقية الأجواء في المجال الرياضي بصفة عامة والكروي بصفة خاصة، لتكون بمثابة رسائل تعكس رغبة الدولة في الرفع من مستوى التسيير الرياضي، للوصول إلى المستوى الاحترافي الذي لا يرتبط بالهياكل الرياضية أو المرافق، وإنما بطريقة التسيير والأهداف التي يتم تحقيقها في مجال الرياضة وحتى الأهداف التي لها علاقة بالنجاح المالي على مستوى الأندية.
منح الفرصة للشركات العمومية للاستثمار في المجال الرياضي، ورغم أنه أمر ايجابي إلا أنه من الضروري أن تكون هناك شفافية أكبر في هذا الأمر، خاصة أن هناك بعض الأندية من هي مملوكة لشركات عمومية لكنها مازالت تراوح مكانها في الاحتراف والتسيير الرياضي المرموق.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19525

العدد 19525

الثلاثاء 23 جويلية 2024
العدد 19524

العدد 19524

الإثنين 22 جويلية 2024
العدد 19523

العدد 19523

الأحد 21 جويلية 2024
العدد 19522

العدد 19522

السبت 20 جويلية 2024