قضية الصّحراء الغربية تعود بقوة إلى الواجهة

عدالة التاريخ أعلى من التضليل المخزني

محمد. ش

 في سياق دولي متحول، يطغى فيه صوت القانون الدولي على نزوات الهيمنة الإقليمية، عادت قضية الصّحراء الغربية لتفرض نفسها مجدّدًا على الأجندة الإفريقية والدولية، باعتبارها آخر قضايا تصفية الإستعمار في القارة السّمراء. عودة لا تُقاس فقط بالزخم الدبلوماسي المتصاعد لجبهة البوليساريو، بل كذلك بتآكل السردية المخزنية التي لطالما ارتكزت على التضليل، وشراء المواقف، وفرض سياسة الأمر الواقع على أرض محتلة منذ العام 1975.

لطالما تم تقديم المغرب، في بعض الأوساط الغربية، كـ«نموذج استقرار” في منطقة مضطربة. ولكن هذا النموذج بدأ يتهاوى حين عرّت الوقائع تناقضاته الجوهرية: كيف يمكن لنظام يزعم التقدّم والانفتاح أن يواصل احتلال أرض معترف دوليًا بأنها غير متمتعة بالحكم الذاتي؟ إننا أمام مأزق تاريخي وأخلاقي لا يمكن تغطيته بمشاريع استثمارية أو خطابات دبلوماسية براقة.
إن مرحلة ما بعد الكولونيالية التي يُفترض أنها أنهت منطق الهيمنة والقهر، تكشف اليوم هشاشة الإدعاءات المغربية، لأنّ احتلال الصّحراء الغربية لم يكن أبدًا حالة “تحرير ترابي”، كما تروّج له الرباط، بل هو انتهاك صريح لأبجديات القانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة التي ما زالت، منذ عقود، تؤكّد أنّ حل النزاع يمر حصرًا عبر استفتاء حرّ لتقرير المصير.

قمـة مــالابـو.. سقـوط الأقنعــة

 الاعتداء على علم الجمهورية الصّحراوية في قمة الاتحاد الإفريقي الأخيرة بمالابو، ليس مجرّد حادث عرضي أو سلوك دبلوماسي “ساقط” فحسب، بل هو تمظهر لمأزق استراتيجي تعيشه الرباط التي باتت تتخبّط في تناقضات صارخة.. تروّج في المحافل الغربية لخطاب التحديث والانفتاح، لكنها في المحافل الإفريقية تنتهج سلوك العصابات وتخرق أعراف السيادة والبروتوكولات.
تصرّف المغرب العدواني في القمة، كما صرّح الدبلوماسي الصّحراوي حدى الكنتاوي، يعكس “يأسًا غير مسبوق”، وإفلاسًا سياسيًا جعل من المملكة طرفًا يتصرّف بانفعالية بدل العقلانية، والمقلق أكثر أنّ هذا السلوك لا ينفصل عن استراتيجية أوسع تتبناها الرباط، تقوم على ترهيب الدول الإفريقية التي تعترف بالجمهورية الصّحراوية أو تدعو لاحترام مسار التسوية الأممي، كما حدث مع جنوب إفريقيا ونيجيريا وكينيا.

الإبتــزاز.. دبلوماسية الفشـل

  لا تقتصر سياسة المغرب على التضييق السياسي، بل تتجاوزها إلى استخدام أوراق ضغط غير أخلاقية، من قبيل الهجرة غير النظامية، والمعابر الحدودية، والتبادل التجاري، كورقة مساومة في العلاقات الدولية، خاصة مع دول الاتحاد الأوروبي.
مثال واضح على ذلك هو إغلاق المعابر الجمركية مع سبتة ومليلية، في خطوة استعراضية هدفها الضغط على مدريد لتغيير موقفها من مسألة تقرير المصير. وقد وصف الصحفي الإسباني فرانسيسكو كاريون هذه السياسة بأنها “ابتزاز وقح يتستّر برداء التعاون الإقليمي، بينما يضرب بجوهر القانون الدولي عرض الحائط”.
وراء هذه السياسات تكمن حقيقة دامغة: المغرب لا يملك أي ورقة قانونية تبرّر احتلاله للصّحراء، ولذلك يسعى إلى فرض واقع جديد بالقوة، أو بالضغوط الاقتصادية، في مسعى لتطبيع احتلاله دون المرور عبر صناديق الاقتراع التي يخشاها.

” التنميـة” فــي خدمة الاحتــلال!!

 واحدة من أخطر محاولات المخزن لفرض الأمر الواقع، هي تلك التي تأتي مموّهة بشعارات “التحول الرقمي” و«التنمية المستدامة”. ففي الداخلة المحتلة، تعتزم الرباط إنشاء مركز بيانات ضخم بقدرة 500 ميغاواط، وهو مشروع ضخم من الناحية التكنولوجية، لكنه ينطوي على أبعاد استعمارية واضحة.
تقرير المرصد الصّحراوي لحماية الموارد والبيئة، نبّه إلى أنّ هذا المشروع لا يحترم حق الشّعب الصّحراوي في تقرير مصيره، ولا ينطلق من أي تشاور مع الممثل الشرعي لهذا الشعب. كما حذّر من انعكاساته البيئية على واحدة من أضعف الأنظمة الإيكولوجية في العالم، حيث ستُنشأ بنية تحتية ثقيلة (كهرباء، ألياف بصرية، مساحات إسمنتية ضخمة) فوق أراضٍ محتلة، دون موافقة أصحابها.
الأخطر من كل ذلك، أنّ هذه المشاريع تحوّل الأراضي المحتلة إلى رهائن لدى الشركات متعدّدة الجنسيات، في تحالف واضح بين رأس المال العابر للحدود والنظام المخزني، بما يعيد إلى الأذهان تحالفات الاستعمار القديم مع الشركات البريطانية والهولندية في إفريقيا وآسيا.

المخـزن الغـارق فـي  بهتانــه

  من جهة أخرى، تتصاعد موجة الانتقادات داخل الساحة السياسية المغربية تجاه حكومة المخزن، في وقت تتزايد فيه مؤشّرات الأزمة الاقتصادية والاجتماعية، وتتعاظم فيه مظاهر الاستياء الشعبي من تدهور القدرة الشرائية، وتراجع الخدمات، وسط اتهامات مباشرة للمخزن بـ«الانحياز الفاضح” للوبيات المال والنفوذ.
ووجّهت قوى سياسية معارضة انتقادات لاذعة لما وصفته بـ«النمط الجديد من التسيير القائم على خدمة الأقلية الاقتصادية”، متهمة حكومة المخزن بالتفريط في مبادئ الشفافية والمحاسبة، وإدارة الظهر للمطالب الاجتماعية الملحة التي يرفعها المواطن المغربي، الذي يعيش يوميًا تحت وطأة البطالة، وارتفاع الأسعار، وتراجع مستويات الرعاية الصحية والتعليم.
في مقدمة هذه الانتقادات، جاء بيان شديد اللهجة لحزب العدالة والتنمية، اتهم فيه رئيس الحكومة، عزيز أخنوش، بـ«تجاوز حدود الصمت المريب إزاء تضارب المصالح، نحو الدفاع العلني والمكشوف عنه داخل قبة البرلمان”، معتبرًا ذلك سلوكًا يهدّد مبدأ الفصل بين السلطات، ويمثل “ترهيبًا مبطّنًا لكل من يطالب بالمحاسبة والشفافية”.
وأشار البيان إلى ما وصفه بـ«تواطؤ حكومي مفضوح مع شركات توزيع المحروقات”، التي راكمت أرباحًا ضخمة خلال السنوات الأخيرة، في وقت يعاني فيه المواطن المغربي من ارتفاع جنوني في أسعار الوقود. وأوضح الحزب أنّ الحكومة لم تتخذ أي إجراء رادع ضدّ هذه الشركات، متسائلًا “من يحمي هذه الجهات؟ ومن يمنحها الضوء الأخضر لاستنزاف جيوب المغاربة؟”.
ووجّه حزب العدالة والتنمية سهام النقد إلى مجلس المنافسة، حيث اتهمه بالانحراف عن وظيفته الأساسية عبر “توجيه الأنظار نحو المستثمرين الصّغار، وتجاهل المتحكّمين الحقيقيّين في السوق”، محذّرًا من أنّ هذا السلوك “يشرّع الاحتكار، ويعزّز الانحياز الحكومي للأقوياء اقتصاديًا”.
وأكّد الحزب أنّ المنظومة الاقتصادية في المغرب باتت “أسيرة تحالف بين السلطة والثروة”، وأنّ مؤسّسات الدولة، بدل أن تكون حامية للمصلحة العامة، تحولت إلى “أدوات في يد أقلية مالية تسيّر المشهد السياسي والاقتصادي حسب مصالحها الضيقة”.
من جهتها، أعربت فيدرالية اليسار الديمقراطي عن قلقها من المسار الذي تسلكه الحكومة، مشيرة إلى أنّ “الأوضاع السياسية والاجتماعية بلغت حدّا خطيرا من الانحراف”، وأكّدت أنّ “دائرة القرار أصبحت مغلقة بالكامل في وجه المعارضة المستقلة، بل حتى مؤسّسات الدولة تحولت إلى أدوات لخدمة تحالف المال والسلطة”. وحذّرت الفيدرالية من سياسة التحكمّ الأمني التي أصبحت، حسب تعبيرها، رديفًا للقرار السياسي، مؤكّدة أنّ موجة المتابعات القضائية والاعتقالات التي تطال الصحفيّين والنشطاء، تمثل تهديدًا مباشرًا لحرية التعبير وحق المواطنين في التنظيم والتعبير عن رفضهم للسياسات المفروضة.
وفي تعليقها على الخطاب الرّسمي المتكرّر بشأن بناء “دولة اجتماعية”، رأت الفيدرالية أنّ هذا الشعار “لا يعدو كونه غطاءً إعلاميًا لتسويق سياسات فاشلة”، في وقت تستمر فيه الأقلية النافذة في الاستفادة من صفقات الطاقة والمواد الأساسية دون أي رقابة أو مساءلة.
وتعكس المواقف السياسية المتصاعدة عمق الأزمة التي يعيشها المغرب على عدة مستويات، حيث أصبح الغلاء، وتراجع فرص التشغيل، وتدهور الخدمات العمومية، مزيجًا يهدّد التوازن الاجتماعي في البلاد. ومع تآكل الثقة في مؤسّسات الرقابة والمحاسبة، وتزايد الشعور العام بأنّ القرار السياسي بات رهينة مصالح ضيقة، تبدو البلاد مقبلة على مرحلة دقيقة من التوتر بين منطق الدولة ومنطق السوق.
في هذا السياق، تُطرح تساؤلات ملحّة حول مصير الشعارات الكبرى التي رفعتها الحكومة، من قبيل “إنعاش الاقتصاد الوطني” و«تحقيق العدالة الاجتماعية”، والتي تُقابل يوميًا بواقع يعكس مزيدًا من التفاوت الطبقي، وانكماش الطبقة المتوسّطة، وتضخّم ثروات القلة مقابل اتساع قاعدة الفقر والهشاشة.

الشرعيـة الدوليـة بيــد الصّحراويّـين

 رغم كل البهتان الذي يروّج له المخزن مع واقعه المعيش الذي يسيل مرارة، لم تفقد جبهة البوليساريو البوصلة، وظلت متمسّكة بخطة التسوية التي تبنّاها مجلس الأمن في 1991، والتي تقضي بإجراء استفتاء تقرير المصير. هذا التمسّك هو في حدّ ذاته أعلى درجات الالتزام بالقانون الدولي، في وقت تسعى فيه الرباط إلى تجاوز هذا المسار عبر الترويج لما تسميه “الحكم الذاتي” الموهوم، وهي صيغة رفضها الشعب الصّحراوي ورفضتها قرارات الأمم المتحدة مرارًا وتكرارا..
وفي بيانها الأخير، أكّدت الأمانة الوطنية للبوليساريو أنّ الشّعب الصّحراوي “لن يقبل بديلاً عن الاستقلال التام”، وأنه مستعد لمواصلة مقاومته المشروعة بكل الأشكال، السياسية والميدانية، داعية في الوقت ذاته إلى “صحوة ضمير” لدى القوى الكبرى، للتوقّف عن دعم الاحتلال، أو التواطؤ معه بالصمت.

العدالـة لا تموت.. والشّعــوب لا تُخدع

 اليوم، ورغم آلة الدعاية المغربية الضخمة، بات واضحًا أنّ الوعي الدولي – لا سيما في أوروبا – بدأ يستفيق. منظمات إسبانية وفرنسية وسويدية ونرويجية باتت تُصعّد من حملاتها ضدّ الاحتلال، وتُدين بشكل علني الصفقات التجارية التي تشمل الأراضي الصّحراوية، وقد أصدرت محاكم أوروبية أحكامًا تعتبر أي اتفاق اقتصادي يشمل الصّحراء الغربية باطلًا لانتهاكه سيادة الشهعب الصّحراوي.
هذا التحول المجتمعي، لا يزعج الرباط فحسب، بل يهدّد كل سرديّتها حول “التنمية” و«الاندماج”، لأنها تدرك أنّ الاحتلال لا يمكن أن يصمد أمام وعي الشعوب. لذلك، تسارع إلى قمع كل صوت حرّ، سواء داخل المغرب أو خارجه، وتضيّق على الصّحافيّين والنشطاء الذين يعارضون سياستها في الصّحراء.

القضيـة الصّحراويـة.. عادلـــة..

 لا جدال أنّ قضية الصّحراء الغربية اليوم تعود إلى قلب الساحة الدولية، ليس فقط بفعل التحرّكات الدبلوماسية لجبهة البوليساريو، بل بفضل صمود الشّعب الصّحراوي، وامتداد التضامن العالمي، واتساع الهوة بين الواقع والقانون في أطروحة المغرب.
إنّ العدالة قد تتأخّر، لكنها لا تموت. والقانون قد يُجمّد، لكنه لا يُلغى. أما الشعوب، فهي لا تُهزم إلا إذا استسلمت، والشّعب الصّحراوي لم يستسلم، بل فرض قضيته على المنتظم الدولي، وأجبر العالم على أن يعيد النظر في خرائط الصّمت، لأنّ صوت المظلومين لا يخفت، وكلمة الحق لا تصاب بالتقادم، وعليه، فإنّ المغرب، مهما ضخّم من مشاريعه فوق أرض لا يملكها، ومهما أغرى الشركات بموارد ليست له، ومهما هدّد أو ابتزّ، فلن يستطيع إلغاء التاريخ، ولا دفن القضية الصّحراوية، فالحقّ، مهما طال ليله، يفرض هيبته باقتدار، لينبثق فجر الحرية.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19852

العدد 19852

الإثنين 18 أوث 2025
العدد 19851

العدد 19851

الأحد 17 أوث 2025
العدد 19850

العدد 19850

السبت 16 أوث 2025
العدد 19849

العدد 19849

الخميس 14 أوث 2025