لا شك أنّ المغرب الذي ظل ينتشي بانتصارات سياسية وهمية، وبنجاحات تنموية خيالية، قد استيقظ مفزوعا من غفوته العميقة بعد أن لسعته حمم بركان الغضب الشّعبي التي بدأت تتطاير في كلّ أركان المملكة، ليجد نفسه اليوم في مأزق حقيقي، محصورا داخل دائرة النار بين هزائم دبلوماسية متتالية، واضطرابات اجتماعية فجّرتها مصاعب الاقتصاد وإخفاقات التسيير، وتغوّل الفساد الذي أصبح وجع المغاربة الكبير.
لم يعد بإمكان النّظام المغربي إخفاء حالة الاحتقان والتذمّر التي تعيشها المملكة بسبب خياراته السياسية المعارضة للرغبة الشعبية، وجراء انتكاساته الدبلوماسية وفضائحه المرتبطة بالتجسس والرشوة، وتأزّم وضع البلاد الاجتماعي والاقتصادي إلى درجة أن جلّ الشباب المغربي أصبح ينشد الهجرة والفرار بجلده من جحيم الفقر والبطالة وتردّي المعيشة.
هذا التّشخيص ليس تحاملا على المغرب، ولا كلاما من فراغ، بل هو واقع تؤكّده الأحزاب والهيئات الحقوقية والإحصاءات الاقتصادية الرسمية المغربية التي ما فتئت تنشر تقارير سوداء عن إخفاقات الحكومة المخزنية في تسيير شؤون المملكة، وتندّد بالفساد الذي تغوّل وبات ينخر اقتصاد البلاد وقوت العباد، وتستنكر التدهور الحقوقي وسياسة القمع والاعتقال التي تراهن عليها السلطات المخزنية لإسكات أصوات المعارضة.
تقارير سوداء
في السياق، أورد «الفضاء المغربي لحقوق الإنسان» في تقرير أصدره هذا الأسبوع، بأنّ «ضعف القدرة الشّرائية للمواطنين، وغياب فرص الشغل وفشل المنظومة التعليمية والقضائية والصحية، أدّى إلى تسرّب اليأس في صفوف الشباب، وفقدان الثقة للعيش في الوطن، وقيامهم بالهجرة الاضطرارية الجماعية»، مستدلاّ بما حدث في الفنيدق يوم 25 سبتمبر الماضي.
وأشار التقرير «إلى الإضرابات والاحتجاجات التي تعرفها مجموعة من القطاعات الحيوية في المملكة (موظّفو وزارة العدل، المحامون، الأساتذة، طلبة الطب والصيدلة، المهندسون، مناهضو التطبيع...)»، مؤكّدا انخراطه في العمل التشاركي مع باقي مكونات الحركة الحقوقية والهيئات المجتمعية في إطار جبهات الممانعة المدافعة عن الحقوق والحريات، والمناهضة للفساد والتغول السلطوي.
كما عبّر الفضاء المغربي عن قلقه «تجاه استمرار نهج السياسات الفاشلة، واختلاق معارك هامشية لإشغال الرأي العام وإلهائه عن قضاياه الملحّة، واحتياجاته ومطالبه ذات الأولوية». وأدان «حملة التشهير التي تطال المدافعين عن الحقوق والحريات»، مطالبا بإسقاط المتابعات في حق الصحفيين ورموز الاحتجاجات الفئوية والاجتماعية، وإطلاق سراح باقي المعتقلين السياسيين ومعتقلي الاحتجاجات.
الحقيقة لا يخفيها غربال الأوهام
أما «مرصد العمل الحكومي»، فقد نبّه في ورقة سياسية إلى وجود عدّة تحديات مقلقة تواجه الحكومة المخزنية التي تتجاذبها الاتهامات من كل حدب وصوب، وعلى رأسها غول الفساد وارتفاع البطالة، والاحتقان الاجتماعي المستمر.
وكشف المرصد أنّ الفساد وصل إلى مستويات خطيرة تهدد الاقتصاد المغربي واستقرار المجتمع، حيث بات يشكّل نزيفا حقيقيا لموارد الدولة.
ورغم خطورة الظاهرة، سجّل المرصد أن الحكومة المخزنية لم تتمكّن حتى الآن من تقديم تصور واضح وفعال لمواجهة الفساد والحد من تداعياته، بل على العكس تماما.
وسجّلت الورقة أنّ التشغيل يعتبر من أبرز نقاط ضعف حكومة المغرب، حيث تسجّل المملكة مستويات مقلقة وقياسية من البطالة، فضلا عن تحدّي تزايد أعداد الشباب الذين لا يعملون، ولا يتلقّون التعليم أو التدريب.
واعتبرت الورقة أيضا، أنّ الحكومة تواجه حالة احتقان اجتماعي غير مسبوقة في مختلف القطاعات، حيث تعكس هذه الأوضاع الصّعبة تزايد المطالب الاجتماعية من قبل المواطنين نحو زيادة الأجور، والحفاظ على القدرة الشرائية، وهو ما يضع الحكومة أمام تحديات كبيرة. إذ تتطلّب الاستجابة لها زيادة في الميزانيات المخصّصة للبرامج الاجتماعية، ممّا يرفع من مخاطر الالتزامات المالية للحكومة ولجوئها إلى المديونية التي باتت هي الأخرى تشكّل معضلة حقيقية للمغرب.
وتوقّفت الورقة على تأثير ارتفاع الأسعار ومستويات التضخم على القدرة الشرائية للمواطنين، إذ يعتبر التضخم أحد العوامل الرئيسية التي تضعف القوة الشرائية، ممّا يجعل من الصعب على المواطنين تلبية احتياجاتهم الأساسية، وبهذا يصبح تحقيق الاستقرار الاجتماعي أمرا صعبا.
وأشار «مرصد العمل الحكومي» إلى ملف إصلاح التقاعد في المغرب الذي تحوّل إلى أزمة معقدة، حيث يواجه نظام المعاشات المدنية خطر الإفلاس بحلول سنة 2028، إذ من المتوقّع أن يستنفد هذا النظام كامل احتياطاته.
وحذّر من أنّ الإصلاح المطروح من طرف الحكومة يرتكز على ثلاثة مبادئ أساسية هي؛ الزيادة في قيمة الاشتراكات، والرفع من سن التقاعد إلى 65 سنة، وخفض قيمة المعاشات. وهذا التوجه يعني أن الأجراء سيتحمّلون بشكل شبه كامل عبء تكاليف هذا الإصلاح، وهو طبعا ما سيصطدم برفض عمالي كبير.
خسائر الفساد..4.66 مليار يورو سنويا
بدورها، كشفت «الهيئة المغربية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها «أنّ الفساد يكلّف المغرب ما يناهز 50 مليار درهم سنويا (حوالي 4.66 مليار يورو).
وأوضح التقرير السنوي لذات الهيئة لعام 2023، أن الفساد «يكلف المغرب ما بين 3.5 إلى 6 بالمائة من الناتج الداخلي الخام»، وذكرت ذات الهيئة - التي أجرت دراسة على 1100 مقاولة - أن «68 في المائة من المقاولات تعتبر أن الفساد شائع جدا وواسع الانتشار في المملكة»، لافتة إلى أن «23 في المائة منها أكّدت أنها تعرضت لشكل من أشكال الفساد خلال 12 شهرا الماضية».
وسجّلت الهيئة نقائص عديدة في استراتيجية الدولة نتيجة لضعف تفاعلها مع الظاهرة التي تنخر الاقتصاد، وعدم عقد الحكومة لاجتماع «لجنة مكافحة الفساد» إلا مرتين في عشر سنوات، محذّرة من خطورة الانعكاسات الاقتصادية لهذه الآفة وتأثيرها على التنمية والإنتاج، وانعدام الثقة وتفشي المحسوبية والزبونية والامتيازات غير المستحقة، إضافة إلى تعزيز الاقتصاد غير المهيكل وما يرافقه من اختلالات.
الحكومة تحارب طواحين الرّيح
في الأثناء، انتقد «حزب العدالة والتنمية» عجز الحكومة عن تقديم الأجوبة لمختلف الاحتجاجات التي يشهدها الشارع المغربي، ودعاها إلى العمل على محاصرة الفساد والمفسدين، بدل مهاجمة هيئة النزاهة التي كشفت عن التراجعات على مستوى محاربة هذه الآفة.
ونبّهت الأمانة العامة لحزب العدالة والتنمية المغربي في بيان لها، إلى خطورة العجز الحكومي البيّن وصمتها في مواجهة مختلف الاحتجاجات التي طالت العديد من القطاعات، مثل كليات الطب والصيدلة، والمحامين، داعية الحكومة إلى المبادرة وباستعجال لمعالجة هذه الملفات. ونبّه الحزب، الحكومة إلى ضرورة الانتباه وبسرعة إلى التراجعات التي سجّلها تقرير هيئة النزاهة على مستوى تنقيط وترتيب المغرب في مؤشر إدراك الفساد، ودعاها - عوض الهجوم على الهيئة - إلى الاستجابة لتوصيتها باعتماد تشريع مستقل لتجريم الإثراء غير المشروع لمكافحة الزيادة الكبيرة وغير المبرّرة في الثروة، ولتصحيح الخطأ الذي ارتكبته الحكومة بسحب مشروع القانون الجنائي الذي كان يتضمّن هذا التجريم.
دعوات للاستقالة الجماعية
هذا، وفي رسالة مفتوحة وجّهها إلى رئيس الحكومة عزيز أخنوش، أكّد نقيب المحامين في المغرب، عبد الرحيم الجامعي، أنّ الحكومة المغربية «فشلت في اختياراتها السياسية بدليل استمرار حالة الغليان والاحتجاجات لدرجة أصبح واقعها يهدّد وجود ومستقبل المغاربة.
وقال الجامعي مخاطبا أخنوش: «إن كنتم بحق تتحمّلون مسؤولية تسيير الشأن العام، فقدّموا استقالتكم الجماعية، وهذا حلّ سياسي عاجل يكون منقذا لكم، وإن كانت حكومتكم مصرّة على سياستها، فالوضع يتطلّب تدخل القضاء ليتحمل مسؤوليته لحماية المجتمع من المخاطر ومن الانهيار؛ لأنّ هذا دوره وواجبه الدستوري، وعليه أن يأمر بفتح تحقيق ضد حكومتكم بسبب المس بسلامة المجتمع وأمنه الاداري والاقتصادي، وبسلامة المواطنين وبحقوق فئات الموظفين في القطاعات المشلولة».
لكن يبدو بأنّ إقدام حكومة أخنوش على الاستقالة أمر مستبعد، في المقابل، ومحاولة منها لامتصاص الغضب الشعبي، ستعمد إلى إجراء تعديل حكومي، هو بمثابة المسكّن الذي لن يعالج الأسقام المستعصية التي تعانيها المملكة المغربية. لهذا سنترقّب مزيدا من المصاعب وتحوّل الاحتقان إلى اضطرابات اجتماعية، خاصة وأن رهان المخزن على إلهاء شعبه بانتصارات خارجية وهمية بات غير ممكن بالنظر إلى انتكاساته الدبلوماسية والقضائية، وفضائحه المرتبطة بالجوسسة والرشاوي وشراء الذمم والتمادي في التطبيع وصهينة المجتمع المغربي.
الوضع في المغرب صعب بتأكيد هيئاته وإحصاءاته، وشعبه الذي بات يهزّ الشوارع غضبا وسخطا على تدني وضعه المعيشي والحقوقي، ونظام المخزن في وضع لا يحسد عليه، خاصة بعد أن سقط بالضربة القاضية أمام الجمهورية الصحراوية التي حقّقت انتصارات كبيرة في الفترة الأخيرة، حيث انتزعت حكما تاريخيا من محكمة العدل الأوروبية يحمي ثرواتها من الاستغلال والنهب، وقبلها أكّدت حضورها في قمم الاتحاد الإفريقي باعتبارها عضوا مؤسّسا وكامل الحقوق في المنتظم القاري، حيث حضرت في أوت الماضي ندوة طوكيو الدولية حول التنمية في إفريقيا (المعروفة اختصارا بـ»تيكاد») رغم محاولات المغرب منعها باستعمال العنف والبلطجة، ولم ينل المخزن حينها غير الإهانة والفضيحة، والكثير من الحسرة والأسى على هزائمه التي توسّعت بعد أن حظيت القضية الصحراوية بدعم قوي خلال نقاشات لجنة المسائل السياسية الخاصة، وإنهاء الاستعمار (اللجنة الرابعة) التي انعقدت بمقر منظمة الأمم المتحدة في نيويورك، من 7 إلى 14 أكتوبر الجاري، حيث طالبت الكثير من الدول بتميكن الشعب الصحراوي من ممارسة حقه في تقرير المصير وفقاً لقرار الجمعية العامة 1514 (د-15) حول إعلان منح الاستقلال للبلدان والشعوب المستعمَرة.
ودعت العديد من البلدان والشخصيات في مداخلاتها، إلى إيجاد حل سياسي عادل ودائم ومقبول من الطرفين لقضية الصحراء الغربية، يفضي إلى تقرير الشعب الصحراوي لمصيره وفقاً لقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة ذات الصلة، وأشارت إلى أن قضية الصحراء الغربية هي مسألة ما فتئت تنتظر البت فيها في جدول أعمال اللجنة الخاصة المعنية بإنهاء الاستعمار منذ عام 1963.