يوما بعد يوم، يتجلى بوضوح أن العالم دخل مرحلة الفوضى الخلاقة التي بشّر بها كبار الكون قبل عقدين من الزمن، وروّجوا لها بكل الطرق والوسائل الممكنة والمستحيلة، قصد تجسيدها على أرض الواقع، وها نحن نقف مصدومين أمام أحداث وتطورات تقلّبت معها القيم والقوانين والأعراف رأسا على عقب، فباتت الإنسانية تسحق تحت عجلة الظلم والغطرسة، والحقوق مهدورة أو مرهونة لمن يدفع أكثر، والظلم أصبح يوزّع يمينا وشمالا على مجموعة بشرية كبيرة لا لذنب اقترفته، وإنما كي يستمتع الظالمون بساديتهم المقززة.
لن نجانب الصواب بالتأكيد، إذا قلنا إن العالم يشهد حالة فظيعة من الفوضى والتيه تنذر بمتغيرات تحمل كثيرا من الانكسارات والمظالم والتجني على حقوق الدول والأفراد، وأول هذه المتغيرات ما نشهده من تآمر واضح على القضايا العادلة التي تخصّ تقرير مصير بعض الشعوب المحتلة التي تتطلّع إلى استعادة حقوقها المشروعة، فرغم أن هذه الشعوب تحظى بدعم المؤسسات الدولية الرافعة لشعار الحفاظ على الأمن والسلم العالميين، وتحوز في جعبتها العديد من اللوائح والقرارات التي تنصفها وتساند مطالبها التحررية، إلا أنها تواجه اليوم مؤامرة قذرة بقصد تصفيتها، وتتلقى طعنات غادرة من الذين يلبسون الحق بالباطل ويتجنّون على الناس ويمنعون عنهم حقوقهم ويصرون على منحها لمن يقدم نفسه عميلا وخادما مطيعا لهم.
أول ضحايا زمن الفوضى والجنون هذا، هي الشعوب المحتلة التي يتعرض بعضها للإبادة بالنار والحديد، كما يحصل مع الشعب الفلسطيني، والبعض الآخر يجرّد بقرارات أحادية من حقه في تقرير المصير كما يجري للشعب الصحراوي الذي تفاجأ هذه الأيام بقرار فرنسا تزكية خيار المغرب الاستعماري ودعم مخططه الأحادي للحكم الذاتي الذي فصّله على مقاسه في 2007، كأساس وحيد لحل نزاع الصحراء الغربية في إطار السيادة المغربية المزعومة.
اصطفــاف إلى جانـب الظلـم
هكذا إذن، وبينما اختار الصهاينة بدعم وحماية من حماتهم نزع شوكة المقاومة ومن خلالها تصفية القضية الفلسطينية بحرب إبادة وحشية آخذ في الامتداد هنا وهنا، فضّل المغرب من جهته الإجهاز على الحق الصحراوي في تقرير المصير وفرض التسوية التي ترسّخ احتلاله للصحراء الغربية بالاعتماد على حلفائه السابقين واللاحقين الذين قرّروا بجرّة قلم نسف عملية السلام الأممية التي تمّ إطلاقها قبل ثلاثة عقود لحل آخر قضية تصفية استعمار بالقارة الإفريقية، واصطفوا إلى جانب الاحتلال وزكّوا خياره للحكم الذاتي الذي لا يعني في حقيقة الأمر بالنسبة للمغرب غير ترسيخ لسلطته الكاملة على الإقليم المحتل على اعتبار أنه حتى مبادرة «الحكم الذاتي» التي يقدمها كحل مثالي للنزاع الصحراوي كما يزعم، فهو لا يؤمن بها مطلقا ولن يطبّقها على أرض الواقع إلاّ بالمفهوم الذي يريده، والذي يعني أن مهمة تسيير الشأن الداخلي للإقليم المحتل، سيتولاها المستعمرون المغاربة الذين استوطنوا في الصحراء الغربية واحتلوا أفضل الأراضي والمواقع بالقمع والقوة، أما أصحاب الأرض الحقيقيين فسيقصون ويهمّشون ولن ينالوا شيئا.
قـرار بــلا أثــر
فرنسا، مثل أمريكا وإسبانيا، اختارت دعم الطرح الاستعماري المغربي في الصحراء الغربية بشكل رسمي بعدما كانت تؤيده بشكل ضمني منذ سنوات.. هذه الخطوة لا يمكن أن تجلب غير الاستنكار والإدانة، أوّلا لأنّها تمثل انتهاكا خطيرا للقانون الدولي وللوائح الأمم المتحدة التي نصّت في مقرّراتها ولوائحها منذ 1963 على أن الإقليم الصحراوي محتل ومعني بتصفية الاستعمار، وثانيا لأنها تمثل تهديدا حقيقيا لأمن واستقرار المنطقة وتقطع شعرة الثقة التي كانت تربط الشعوب بالمؤسسات الدولية المعنية بحفظ الأمن والسلام العالمين، فبعد الذي يجري في فلسطين، والطعنة الغادرة للقضية الصحراوية لم يعد بالإمكان الاعتقاد بجدوى الاعتماد على الأمم المتحدة أو مجلس الأمن لتسوية النزاعات واستعادة الحقوق.
بلا شكّ، خطيئة فرنسا كبيرة وموقفها صادم، لأنها بدل أن تكون جزءا من حل القضية الصحراوية بالنظر إلى مسؤولياتها كعضو دائم في مجلس الأمن أصبحت عائقا أمامه. لكن تجنّيها على حقّ الشعب الصحراوي في تقرير مصيره وتجردها من موقف الحياد، لا ينظر إليه كثير من الخبراء القانونيين والسياسيين على أنه كارثة عظمى، بل على العكس تماما، لأنه أظهر ما كان مستترا ولم يحمل جديدا، ففرنسا ظلّت على الدوام توافق المغرب على قراراته الشاذة وتحميه سياسيا وتدعّمه عسكريا، ومهمتها كعضو في مجلس الأمن استغلتها طول الـ50 سنة الماضية لتعطيل حل النزاع الصحراوي، وهي اليوم تكشف فقط عن وجهها الاستعماري الذي لم يتغير مطلقا، كما كشفته قبلا بتأييدها للحرب الصهيونية على الفلسطينيين والتي ترجمها الرئيس ماكرون بزيارته إلى الكيان الصهيوني في أكتوبر الماضي أي مباشرة بعد بداية فصول الإجهاز على القضية الفلسطينية.
ويجزم كثيرون بأن قرار باريس سياسي ولن يترتب عليه أي أثر قانوني على مسار تسوية النزاع في الصحراء الغربية، وسيكون مآله الفشل، لأن الصحراء الغربية تبقى إقليما خاضعا لعملية إنهاء الاستعمار، طبقا للفصل الحادي عشر من ميثاق الأمم المتحدة وما يتبع ذلك من اعتراف دولي بحق الشعب الصحراوي في تقرير المصير والاستقلال تماشيا مع قرار الجمعية العامة 1514(د-15) ومسؤولية الأمم المتحدة، كهيئة وأعضاء، تجاه الشعب الصحراوي ووضع الإقليم.
وبناء على ما تقدم، كما يقول خبراء القانون ، «لا يمكن لا لفرنسا ولا لإسبانيا أن تدخلا في اتفاقيات تتعارض مع القانون الدولي، وهو ما قد يعرضّهما إلى متابعات في المحاكم الدولية»، كما لا يمكنهما كسر إرادة وإصرار الشعب الصحراوي المتمسك بحقه في تقرير المصير بكل الوسائل وفي مقدّمتها الكفاح المسلح.
ومثلما تجد محاولات تصفية القضية الفلسطينية في طريقها عقبة اسمها المقاومة والصمود، فإن الشعب الصحراوي بدوره سيجهض كل المؤامرات التي تحاك ضده، وهو ما عبّرت عنه الحكومة الصحراوية عندما طالبت بإقصاء فرنسا من ملف الصحراء الغربية في الأمم المتحدة ومن بعثة المينورسو، باعتبار أن انقلابها على الشرعية يجعل منها شريكا مباشرا للاحتلال في جرائم الإبادة ضد الصحراويين، مذكرة بمشاركة فرنسا المباشرة في منتصف الخمسينات ومنتصف السبعينات من القرن نفسه «في محاولة القضاء على الشعب الصحراوي، حين استعملت آلتها العسكرية بما فيها طائرات الجاغوار، ضد الصحراويين العزل».
القرار يملكـه الصحراويـون وحدهم
في السياق، أكد عضو الأمانة الوطنية، ممثل جبهة البوليساريو بالأمم المتحدة والمنسق مع المينورسو، الدكتور سيدي محمد عمار، أن حاضر ومستقبل الصحراء الغربية يقررهما الشعب الصحراوي وليس فرنسا أو أي بلد آخر.
وقال الدبلوماسي الصحراوي إن «الموقف الفرنسي يتعارض مع القانون الدولي ومع المسؤوليات الدولية لفرنسا كعضو دائم في مجلس الأمن لأنه يدعم الاحتلال غير الشرعي للصحراء الغربية التي تعد إقليماً خاضعاً لتصفية الاستعمار، مشدداً على أن لا فرنسا ولا المغرب يستطيعان كسر إرادة الشعب الصحراوي الذي سيواصل كفاحه من أجل الاستقلال بكل الوسائل المشروعة».
وختم بالتأكيد على أنه باتخاذها لهذا الموقف العدائي تجاه الشعب الصحراوي تكون فرنسا قد أقصت نفسها من كل ماله صلة بالجهود الدولية لإنهاء الاستعمار من الصحراء الغربية.
وكانت جبهة البوليساريو قد ندّدت بأقصى عبارات التنديد بالموقف الفرنسي الداعم للاحتلال المغربي الظالم وأكدت على أن باريس لم تعد مؤهلة للانتماء لبعثة المينورسو بعد خروجها عن الشرعية الدولية بحكم موقفها المفضوح والمنحاز للطرح المغربي.
وأورد مكتبها: «إذ يؤكد المكتب على مسؤولية الأمم المتحدة في تمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير واحترام وتطبيق الشرعية الدولية بهدف تصفية الاستعمار وإنهاء الاحتلال من الصحراء الغربية»، فإنه «يندّد بأقصى عبارات التنديد بالموقف الفرنسي الأخير الداعم علنا للحرب التوسعية للاحتلال المغربي الظالم ومساندة الحكم الذاتي الذي يهدف إلى حرمان الشعب الصحراوي من ممارسة حقه الثابت في تقرير المصير والاستقلال، وهو ما تكفله كل المواثيق والقوانين الدولية وتقرّ به كل الهيئات خاصة الأمم المتحدة».
وأوردت البوليساريو أن «ما أقدمت عليه فرنسا يؤكد النية المبيتة لديها في حرمان الشعب الصحراوي وتقويض حقّه الثابت في الحرية والاستقلال وتعريض المنطقة للتهديدات وعدم الاستقرار».
وندّد في السياق بما تشهده الأراضي المحتلة من تصعيد خطير تنتهجه سلطات المحتل المغربي «في إطار سياسة الاستيطان وسلب المواطنين من حقوقهم والاستيلاء على أراضيهم وأملاكهم وتحويلها إلى الحيازة بالقوة».
يبقى في الأخير التأكيد بأن محاولات تصفية القضية الصحراوية وجرّ المنطقة إلى الفوضى وعدم الاستقرار مآله الفشل الأكيد، ومساعي القوى الاستعمارية القديمة والجديدة لتكريس واقع مفصّل على مقاس مصالحها ستنتهي بالإخفاق أيضا، لأن الكلمة الفصل هي للشعوب مالكة الأرض وصاحبة الحق وهي أيضا للعدالة الدولية، فقد شهدنا مؤخرا كيف أن محكمة العدل الدولية أقرّت في ردّ استشاري على الأمم المتحدة، بأن الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 لا تتبع الكيان الصهيوني ومازالت في عرف العدالة والشرعية الدولية أراض محتلة وطالبت بإنهاء احتلالها، وهكذا الأمر بالنسبة للصحراء الغربية فهي إقليم محتل ومعني بتقرير المصير والاستقلال وليس بالضم للمحتل باسم الحكم الذاتي. والأكيد أن الاحتلال إلى زوال مهما طال الزمن.