إجرام “ مملكة الحشيش” ينال الصحراويين والمغاربة وأبناء الريف

المخـزن.. وعـي زائـف واقتصاد مزيّف

محمد لعرابي

منذ نصف قرن، يكافح الشعب الصحراوي استعمارا متهالكا يرتدي لبوس الحداثة، مع أنه أبشع من جميع أشكال الاستعمار التقليدي. فالاحتلال المغربي للصحراء الغربية لم يكتفِ بحرمان الشعب الصحراوي الشقيق من حقه غير القابل للتصرف في تقرير المصير، بل تجاوزه إلى نهبٍ منظم لثرواته الطبيعية، مستعيناً بشبكة مصالح دولية وشركات متعددة الجنسيات، تتواطأ في جريمة تستهدف إطالة أمد الاستعمار وتكريس واقع الاحتلال المفروض بالقوة.

أعاد المرصد الدولي لمراقبة موارد الصحراء الغربية، في تقريره الأخير الصادر من بروكسل، دق ناقوس الخطر بشأن النهب الممنهج الذي تتعرض له الصحراء الغربية. وحذّر من أن الاستغلال المستمر للثروات الصحراوية يتم دون أي موافقة من الشعب الصحراوي، المالك الشرعي لهذه الموارد، وهذا تحذير يضاف إلى سلسلة طويلة من المواقف الحقوقية والقانونية التي تؤكد أن ما يجري بالصحراء الغربية المحتلة، يمثل خرقاً صارخاً للقانون الدولي، وازدراءً لقرارات محكمة العدل الأوروبية التي كرّست بوضوح مبدأ أن المغرب لا يملك سيادة على الصحراء الغربية.

الذاكــرة لا تموت..

في عام 1975، أكدت محكمة العدل الدولية في لاهاي، أن الصحراء الغربية لم تكن يوما أرضا بلا شعب، وأن الروابط التي يحاول المغرب التذرع بها لا ترقى إلى السيادة ولا تمنحه أي حق في الأرض الصحراوية.
ورغم وضوح هذا الحكم، الذي يشكل مرجعية قانونية ثابتة، أقدمت الرباط على اجتياح عسكري أهوج، في محاولة لتحويل القضية عن مسارها الصحيح، وجعلها مأساة إنسانية وسياسية مستمرة.
اليوم، وبعد مرور خمسين عاما على الغزو، تتجدد الذاكرة الاستعمارية لكن في ثوب اقتصادي، حيث تُنهب الثروات السمكية والفوسفاتية وتستغل الطاقة الشمسية والريحية على مرأى من العالم.. ممارسات، يتفق الخاص والعام على أنها ليست مجرد سرقة موارد طبيعية، بل هي امتداد لسياسة استعمارية هدفها الأساسي إفقار الشعب الصحراوي وتجريده من شروط قيام دولته المستقلة. فالاستعمار  كما قالها هشام جعيط- “لا يكتفي بالسيطرة على الأرض، بل يسعى لطمس الهوية ومحو الذاكرة”. وهو ما يتجلى بوضوح في الحالة الصحراوية.

مفارقــة أوروبيــة..

المفارقة أن الاتحاد الأوروبي، الذي يرفع شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان، يواصل البحث عن سبل للالتفاف على قرارات محكمة العدل الأوروبية. فبعد أن أصدرت المحكمة ثلاثة أحكام تاريخية في أكتوبر 2024، ألغت فيها اتفاقيات التجارة والصيد البحري المبرمة مع المغرب لعدم مشروعية تطبيقها على الصحراء الغربية، عادت المفوضية الأوروبية هذا الشهر لتسعى وراء تفويض جديد يتيح التفاوض مع المغرب بهدف استيراد المنتجات القادمة من الإقليم المحتل.
ويثير هذا السلوك جدلاً واسعاً، لأنه –في مقام أول- يمثل ازدراءً للقضاء الأوروبي نفسه، ثم يضرب مبادئ الشرعية الدولية في الصميم؛ ذلك أن تبرير هذه الخطوات بالحديث عن (استفادة مفترضة للشعب الصحراوي) من التبادلات التجارية، ليس سوى محاولة مكشوفة للتحايل، تفضحها شهادات المرصد الدولي الذي كشف لقاءات سرية بين ممثلين أوروبيين ومغاربة لمناقشة آليات تضليل الرأي العام، من خلال الادعاء بأن السكان المحليين يجنون فوائد، بينما الحقيقة أن الثروات تُستخرج وتُنقل إلى الخارج دون أن تلمسها يد الصحراوي صاحب الأرض.

مأسـاة إنسانيـــة

لا يمكن عزل ملف الموارد عن المأساة الإنسانية التي يعيشها الشعب الصحراوي، فالملايين من الصحراويين يعيشون في ظروف قاسية، محرومين من أبسط حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية، بينما تُستغل خيرات أرضهم لتمويل آلة القمع المغربية.
إن نهب الموارد الطبيعية لم يعد مجرد خرق قانوني، بل تحول إلى أداة لإدامة الاحتلال وإطالة النزاع، فالأرباح الطائلة التي تجنيها شركات الصيد الأوروبية من المياه الصحراوية أو شركات الطاقة من المشاريع الشمسية والريحية، تُترجم عملياً إلى دعم غير مباشر لسياسة القمع، عبر منح الاحتلال المغربي المزيد من القدرة على فرض أمر واقع مرفوض دوليا.
أما الموقف الذي عبّرت عنه سارة إيكمانز من المرصد الدولي، فقد كان بالغ الدقة، حين أكدت أن أي مفاوضات تجارية أو آليات مراقبة لا تكون ذات مصداقية ما لم تضمن الانخراط الكامل لجبهة البوليساريو، الممثل الشرعي للشعب الصحراوي، مثلما أقرت محكمة العدل الأوروبية. فالتعامل مع المغرب باعتباره “الوصي” على الإقليم، تجاهل متعمد للحقيقة القانونية والسياسية التي ترسخت في كل وثائق الأمم المتحدة منذ 1963، حين أدرجت الصحراء الغربية على قائمة الأقاليم غير المتمتعة بالحكم الذاتي.
من هنا، فإن الحكومات والشركات التي تبرم عقوداً مع الرباط بشأن موارد الصحراء الغربية، لا تنخرط فقط في صفقات اقتصادية، بل تشارك في جريمة موصوفة؛ جريمة نهب موارد شعب محتل.
وقد ذهب الفقيه القانوني جورج غاليك، في إحدى دراساته إلى القول، بأن “الموارد الطبيعية في الأراضي المستعمَرة ليست ملكيات اقتصادية، بل هي أمانة لدى المجتمع الدولي، وأي استغلال خارج إرادة الشعب الأصلي يرقى إلى جريمة ضد الإنسانية”.

أصــل المأسـاة..

واضح أن ما يجري في الصحراء الغربية ليس معزولاً عن ممارسات المخزن داخل المغرب نفسه. فالتقارير الحقوقية، سواء تلك الصادرة من برلين أو بروكسل أو مدريد، تكشف نمطاً متكرراً من القمع والتنكيل في الإقليم الصحراوي المحتل، وتوثق شهادات السجناء السياسيين عن التعذيب المنهجي، والاعتقالات التعسفية، وزرع أكثر من عشرة ملايين لغم لمنع أي تحرك حر للسكان.
أما في الريف، فالمواطنون العزّل يشكون من سياسات انتقامية وتمييزية في السجون، تصل عادة إلى العزل الانفرادي والإضرابات عن الطعام، ويناضل أبناء جمهورية الريف التاريخية في المهجر لإبقاء قضيتهم حيّة، فالذين يحملون إرث الأمير عبد الكريم الخطابي، يعيشون النضال ضد المخزن الذي لم يتوقف عن ملاحقتهم وسجنهم وتعذيبهم.. عائلات المعتقلين في مراكش كشفت عن سياسة تمييز وانتقام ممنهج، وعن تصنيف جائر يضع أبناء الريف في خانة “الخطر”، ما دفع العديد منهم إلى الإضراب عن الطعام.
في المنفى، يواصل النشطاء والحقوقيون فضح الجرائم، كما فعل المختطف السابق علي أعراس، الذي دوّن مأساته في كتاب “السماء مربع أزرق”، كاشفا ما يجري في سراديب التعذيب المغربي.
ولقد نظم نشطاء وحقوقيون، بحر الأسبوع، وقفة بمدينة “جيرونا” الإسبانية لدعم نضال الشعب الريفي من أجل حقه في تقرير المصير والتحرر والاستقلال. وتم المناسبة، تنظيم لقاءات تمحورت حول ضرورة “تأثير العمل النضالي” من أجل انتزاع حق الشعب الريفي في تقرير المصير، بمشاركة نشطاء وحقوقيين، وعلى رأسهم رئيس المرصد الريفي لحقوق الإنسان، علي أعراس، إلى جانب أبناء جمهورية الريف في المهجر ومتضامنين مع القضية الريفية. كما كانت الوقفة مناسبة لتجديد العهد مع ضحايا القمع المغربي وشهداء القضية. ويواصل أحرار جمهورية الريف نضالهم ضد النظام المغربي لاسترجاع حقوقهم المسلوبة عبر وقفات لحشد الدعم الدولي في المعركة التحررية وتوحيد الصف.
المواطن المغربي نفسه، يكتوي بنيران “الإصلاحات الوهمية” التي لا تهدف إلا إلى إعادة إنتاج الحكم الاستبدادي في ثوب جديد، فهو يعاني الفاقة والجوع، ويتعرض إلى جميع أنواع الإذلال، بل يعاني شرّ التطبيع، بعد أن صار المخزن يخرج الناس من ديارهم كي يسكن فيها الصهاينة، على أساس أنها كانت مساكنهم من قبل. ولقد تحول هذا الظلم الشنيع إلى نكتة عالمية، يصوّر فيها اليهودي وهو يهاجم أيا كان، لينتزع منه شيئا (ساعة، ساندويتش، قلم..) ويقول: إنه موعود بها في التوراة (حاشا التوراة) قبل ثلاثة آلاف عام.. النكتة نفسها تتردد في المغرب، ويأتي المخزن ليخرج الناس من بيوتهم، لأن الصهاينة موعودون بها في اتفاقية التطبيع الشائنة.

فضيحــة المخـزن

لا شك أن المخزن يعيش واحدة من أسوأ لحظاته التاريخية، بعدما انكشفت جرائمه في حق الشعبين الصحراوي والريفي، وتهاوت دعايته أمام الرأي العام العالمي الذي بات يرى فيه نموذجا مفضوحا للاستبداد والاحتلال، فما يجري في الصحراء الغربية من نهب للثروات، وقمع للحريات، وحرمان شعب بأكمله من حقه في تقرير مصيره، لم يعد خافيا على أحد، وهو ما أكدته تقارير دولية ومحاكم أوروبية وصحافة عالمية.
ولقد وصفت المجلة الألمانية “فور فيلفالت” الوضع بدقة، حين اعتبرت استمرار الاحتلال المغربي للصحراء الغربية “نموذجا بائسا للاستعمار بسبب المكاسب الاقتصادية”. فمنذ الغزو العسكري سنة 1975، سعى المخزن إلى تكريس الأمر الواقع، مستندا إلى اتفاقية مدريد المشؤومة، ومارس كل أشكال التضليل السياسي والدبلوماسي، لكن الحقيقة التي لا يمكن طمسها، أن الشعب الصحراوي أعلن قيام دولته في 1976 وخاض كفاحا مسلحا انتهى بوقف إطلاق النار سنة 1991 على أساس تنظيم استفتاء تقرير المصير، وهو الاستفتاء الذي أفشلته مناورات الرباط، بدعم من قوى دولية متواطئة، ثم تحولت بعثة الأمم المتحدة إلى شاهد عاجز على توقيف الانتهاكات، وفشلت في إجراء الاستفتاء طوال ثلاثة عقود، ما جعل الوضع أكثر تعقيدا، خاصة بعد انهيار وقف إطلاق النار في نوفمبر 2020.
بدورها، وصفت الخبيرة الألمانية لورا ماهلر، الوضع في الصحراء الغربية بأنه “نموذج محزن على استمرار الاستعمار بدافع المكاسب الاقتصادية”، وهو توصيف دقيق: الاحتلال المغربي يجمع بين إرث الكولونيالية الإسبانية وأدوات الهيمنة المعاصرة، حيث يُستثمر القمع الأمني ونهب الموارد لتكريس سلطة داخلية مأزومة، بينما يُسوّق للعالم رواية “الإصلاحات” التي لم تنش ذبابة.

خمسون عامـــا مـن النضــال..

الذكرى الخمسون للغزو المغربي للصحراء الغربية، لحظة فارقة تستوجب مراجعة شاملة للموقف الدولي.. نصف قرن من الزمن مرّ، ولاتزال الأمم المتحدة عاجزة عن فرض استفتاء تقرير المصير الذي وعدت به منذ اتفاق وقف إطلاق النار سنة 1991. وبينما يتلاشى صبر جيل بكامله في انتظار العدالة، يتواصل النزيف الاقتصادي الذي يحرم هذا الشعب من الاستفادة من موارده.
إن الاستمرار في غض الطرف عن هذا النهب يضع الاتحاد الأوروبي والغرب عامة في خانة الشركاء المتواطئين. وهو ما يطرح سؤالاً وجودياً: كيف يمكن للغرب أن يرفع شعارات الحرية والإنسانية والعدالة، بينما يتجاهل احتلالاً عمره خمسون عاماً في الصحراء الغربية؟ أليست ازدواجية المعايير هذه دليلاً على أن المصالح الاقتصادية تطغى على المبادئ؟
لقد آن الأوان لأن يدرك العالم أن القضية الصحراوية ليست مجرد نزاع إقليمي، بل قضية تصفية استعمار مكتملة الأركان، والنهب الجاري للثروات الطبيعية ليس سوى وجه من وجوه الاستعمار الاقتصادي الذي وصفه فرانز فانون بأنه “أكثر خبثاً من الاستعمار العسكري، لأنه يلبس ثوب التنمية، بينما يسرق أرزاق الشعوب”.
إن الحل الوحيد الممكن -كما شدد المرصد الدولي- يتوقف عند تمكين الشعب الصحراوي من حقه في تقرير المصير وبناء دولته المستقلة على أرضه، وأي تسويف أو محاولات التفاف ستبقى مجرد مسكّنات تخفي جرحاً غائراً.
وفي ضوء هذه الحقائق، فإن استمرار الاتحاد الأوروبي في البحث عن صيغ لتبرير شراكته الاقتصادية مع المغرب في الصحراء الغربية، هي خيانة للقيم التي يدّعي الدفاع عنها، ومشاركة مباشرة في جريمة استعمارية متجددة، ولم يبق أمام البرلمانات والحكومات والشركات سوى أن تتحمل مسؤوليتها القانونية والأخلاقية، وأن تضع حدًّا لهذا النهب المنظم، فالشعب الصحراوي الذي قاوم نصف قرن من الاحتلال لن يتنازل عن حقوقه المشروعة، والتاريخ أثبت أن الشعوب قد تُظلم لوقت معين، لكنها لا تُهزم إلى الأبد، وما يحدث اليوم في الصحراء الغربية هو اختبار لإرادة المجتمع الدولي: هل ينحاز إلى منطق القوة والنهب، أم إلى الحق والعدالة؟

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19860

العدد 19860

الأربعاء 27 أوث 2025
العدد 19859

العدد 19859

الثلاثاء 26 أوث 2025
العدد 19858

العدد 19858

الإثنين 25 أوث 2025
العدد 19857

العدد 19857

الأحد 24 أوث 2025