منحوتات ثلاثية الأبعاد تجمّعها عبقرية الفنّ من حبات الرّمل
التّرميل يقدّم امكانات كبيرة لدمج روح الحداثة بأصالة التّراث
الرّقمنة تتيح للتّرميل انتشارا عالميا..جمال من عمق الصّحراء
هو فنّ عصاميّ في نشأته، لا يستند إلى قواعد أكاديمية ولا قواعد نقدية، بقدر ما يعتمد على الموهبة الفطرية والبحث الجمالي الحر، فامتلك القوة على التعبير عن رؤية تشكيلية متكاملة، ترتكز على خامات البيئة الصحراوية وتستلهم من رمالها الذهبية وجبالها المهيبة وفضائها الواسع، لتترجم أحاسيس الفنان في قالب بصري بديع..إنّه “فنّ الترميل”، أحد الإبداعات التشكيلية الجزائرية التي ولدت من رحم الصحراء، ووجدت في تفاصيلها المتنوعة منبعاً للتجريب وفضاءً للتأمل.
هذا الفن لا يقتصر على استخدام الرمل كخامة أصلية، فالمبدع يحوّلها إلى لغة بصرية حيّة، تتنفّس في كل لوحة روح الانتماء للمكان، وتروي قصصاً عن الإنسان وعلاقته بأرضه، فهو يزاوج بين البساطة في الأدوات، والعمق في المعاني، ليجعل من حبات الرمل الصغيرة مفردات تشكيلية تنبض بالرمزية، وتعكس عراقة حضارة عاشت في قلب الصحراء ونسجت من تفاصيلها تراثاً لا يُمحى.
ومع ذلك، يبقى هذا الفن في مفترق طرق..فهو - من جهة - يلقى التقدير والإعجاب لدى المتذوّقين للفنون البصرية الذين يعتبرونه إضافة نوعية للمدرسة التشكيلية الجزائرية والعربية، ومن جهة أخرى، يعاني من غياب الاعتراف المؤسّسي، إذ لم يجد طريقه بعد إلى معاهد الفنون الجميلة التي يمكن أن تدرجه في برامجها، وتوفّر له حاضنة أكاديمية تحفظ استمراريته وتفتح أمامه آفاق التطوير.
ولا يتوقّف الفنانون والمهتمون بتاريخ الفنون التشكيلية عن الدعوة إلى دعمه وإبراز قيمته، بوصفه تجربة جزائرية أصيلة، تحمل في طياتها إمكانات هائلة لتوسيع آفاق التعبير البصري وإثراء رصيد الإبداع الوطني، ففن الترميل ليس مجرد تقنية زخرفية، بل هو خطاب جمالي قائم بذاته، يزاوج بين الطبيعة والإنسان، ويجمع بين التراث والتجديد، ويؤكّد أن للفن الجزائري قدرة متجددة على ابتكار مسارات غير مطروقة في التعبير التشكيلي.
إنّ فن الترميل من الفنون البصرية التي نشأت من عمق الصحراء الجزائرية، أين تتحوّل الرمال الملونة إلى لوحات تنبض بالحياة والتجريد والإحساس، فتعكس تفاعل الفنان مع بيئته المحيطة وموروثه الثقافي. هذا الفن الفريد الذي يجمع بين البساطة المادية والعمق الرمزي، لا يزال يمارس في الظل، ينتظر الاعتراف، رغم ما يحمله من خصوصية وروح محلية قابلة للتموقع عالميا كفن تشكيلي مستقل.
الرّمــال..بدايـــة وريـــادة
بدأت أولى المحاولات الجادة لممارسة فن الترميل في الجزائر عام 1976، على يد الفنان الطاهر جديد من ولاية الأغواط، الذي يعتبر من رواد هذا الفن محليا، فقد كان من الأوائل الذين طوّعوا رمال الصحراء بخاماتها الطبيعية، في رسم لوحات فنية تستلهم من المحيط الصحراوي ومن القيم الجمالية التراثية، من خلال مقاربة تشكيلية تمزج بين الانطباع والتجريد.
تمثّل أعمال الطاهر جديد انطلاقة حقيقية لفن الترميل داخل البيئة الصحراوية، وقد أصبحت مرجعا للكثير من الفنانين اللاحقين، خاصة من الشباب الذين وجدوا في فنه مصدر إلهام وتجديد.
وفي ولاية ورقلة، بزغ نجم الفنان عبد الرحمن معروف، الذي أضاف بعدا جديدا لهذا الفن، حيث لم يقتصر على اللوحات المسطّحة، بل قدّم تحفا فنية رملية ثلاثية الأبعاد، تجمع بين الفن والنحت والرمزية البصرية، وأعماله أسست لما يمكن تسميته بالمدرسة النحتية في الترميل، ووسّعت من أفق التعبير الفني، خاصة في المزج بين الأصالة والحرفية.
وكان لأسلوبه وقع مهم داخل سوق وردة الرمال التقليدي، الذي تحوّل إلى منصة غير رسمية لعرض هذا الفن والتعريف به، حيث أصبح يستقطب السياح المحليين والأجانب على حد سواء بالعودة لما ذكره في حديث لـ “الشعب” الفنان التشكيلي إسلام معروف.
في السياق، يبرز الفنان الشاب إسلام معروف الذي يعد من الوجوه المعاصرة لفن الترميل، إذ عمل على عصرنة اللوحة الرملية، من خلال دمجها مع المدارس الفنية الحديثة المتنوعة كالتكعيب والانطباع والتجريد والتهشير، وتمكن عبر هذا الدمج من تحقيق قفزة نوعية في بنية العمل الرملي، ممّا جعل هذا الفن أكثر انسجاما مع التيارات التشكيلية العالمية.
وأكّد المتحدّث أن فن الترميل انتشر في صالونات ومعارض ومسابقات دولية ووطنية ومحلية إلى أن فرض مكانته عالميا، حيث انتشر في بعض الدول العربية مثل الأردن، والدول التي تزخر بالمادة الأولية والمتمثلة في الرمال أساسا.
إشكاليــة التّصنيـــف
رغم مرور ما يقارب نصف قرن على بروز فن الترميل في الجزائر، لا يزال غير مصنف رسميا ضمن الفنون التشكيلية، بل يدرج غالبا ضمن الصناعات أو الحرف التقليدية، وهذا التصنيف، وإن كان يعترف بالقيمة التراثية، إلا أنه لا يعكس البعد الفني والرمزي الذي يحمله، ولا يمنحه الحماية القانونية والمكانة الثقافية التي يحق له أن يحظى بها، وهو ما يعتبره الفنان إسلام معروف انتقاصا من المكانة الحقيقية لهذا الفن الذي يراد الوصول به إلى مستوى عال من الصون والحماية، باعتباره موروثا ثقافيا فنيا جزائريا، ثم التعريف والترويج له في الخارج من خلال زيارات الوفود السياحية، خاصة خلال موسم السياحة الصحراوية، الذي من المتعارف فيه أن “وردة الرمال” واللوحات الفنية تعد من أولويات المقتنيات الفنية لدى السائح الأجنبي وحتى السائح الجزائري على حد سواء.
وفي السياق ذاته، الفنان محمد زيتوني من ولاية الأغواط، وهو من الفنانين البارزين المختصين في رسم اللوحات الرملية، وأحد المدافعين عن هذا الفن، يؤكّد أنّ الترميل ليس مجرد حرفة، بل هو فن تشكيلي حقيقي، له وسائطه، وخاماته، وتقنياته الخاصة ويدعو إلى تصنيفه ضمن الفنون الجميلة، لما يحمله من طاقة تعبيرية، وقدرة على التجديد، بالإضافة إلى انسجامه مع مفاهيم الفن المعاصر.
كما يرى أن غياب التكوين الأكاديمي وندرة الفضاءات المخصصة لفنون البيئة الصحراوية من أهم أسباب تهميش هذا الفن، محذرا من ضياع هوية فنية محلية مميزة إن استمر تجاهل الدعوات لتصنيفه.
بصمـة جزائريـــة..
لعل أبرز ما يميز فن الترميل الجزائري، اعتماده شبه الكلي على المواد الأولية المحلية، خاصة رمال الصحراء التي تتسم بتنوع ألوانها ونعومتها وخصائصها التشكيلية، هذه المواد - رغم بساطتها - تتحوّل على يد الفنان إلى لوحة مركبة في مضمونها، زاخرة بالتفاصيل، عميقة الدلالة يقول الفنان محمد زيتوني، ويؤكد أن مواضيع هذه اللوحات مستمد غالبا من البيئة الصحراوية والمخيال الشعبي، مثل الكثبان الرملية، القوافل، الجِمال، النخيل، الواحات، التقاليد، والمرأة الصحراوية، كما تدخل الزخارف والرموز الإسلامية ضمن البنية البصرية للعمل الفني، في ترجمة صريحة للهوية الثقافية المتجذّرة.
وقد اتجه بعض الفنانين مؤخرا نحو تجارب حداثية، مثل رسم البورتريه الواقعي، أو اللوحات الرمزية الرمادية باستخدام التدرج اللوني للرمل، ما يبرهن على مرونة هذا الفن وقدرته على التجدد.
غيـب التّكويــن الأكاديمــي
واتّجه الفنان زيتوني في حديثه إلى ما يشكّل غياب التكوين الأكاديمي المتخصص، حيث يعد أحد أبرز التحديات التي تواجه فن الترميل، فلا توجد أقسام أو وحدات تعليمية ضمن معاهد الفنون الجميلة الجزائرية تُدرّس هذا الفن بشكل ممنهج، وهو ما قد يهدد فرص استمراره وتطويره، خاصة لدى فئة الشباب الذي ينبغي أن يكون حاملا لهذا المشعل وساعيا لتطويره بشغف، وذلك لاعتبارات عدة، قد يكون أبرزها أن هذا الفن نابع من صميم موروث ثقافي وفني وطبيعي تزخر به بلادنا التي تملك أكبر صحراء في إفريقيا.
كما أن الجهد الفردي للفنانين غير كاف لتكوين أجيال جديدة قادرة على حمل المشعل، خاصة وأن هذا الفن يتطلب مهارات دقيقة وصبرا طويلا، وأدوات خاصة، وفهما عميقا للبيئة.
لكن - يضيف المتحدث - “رغم ذلك، برزت مبادرات فردية من خلال ورشات مفتوحة أو عروض حية ضمن المعارض المحلية والولائية، وتعتبر هذه المحاولات نواة مهمة للتكوين الموازي، الذي قد يشكل قاعدة مستقبلية لتأطير هذا الفن في مؤسسات أكاديمية، خاصة في الولايات الجنوبية”.
التّسويــق الثّقــافي والسّياحـي..فـــرص ضائـعة؟
يمتلك فن الترميل إمكانات كبيرة ليكون أحد روافد الاقتصاد الثقافي والسياحي في الجزائر، خاصة في ولايات الجنوب ذات الجاذبية الطبيعية والتاريخية، فالزائر للسوق التقليدية في ورقلة أو تمنراست أو إليزي وخاصة المعارض الفنية التي تقام من حين لآخر، سرعان ما ينبهر بتحف الترميل المعروضة، والتي باتت تطلب بشكل متزايد من قبل السياح الأجانب، وحتى من المهتمين بالفن المعاصر.
لكن الحاجة الماسة لسياسة تسويقية واضحة، تجعل هذا الفن رهين الاجتهاد الفردي، ما يضعف حضوره في الأسواق الكبرى والمعارض الدولية، ويحرم الفنانين من مردود مادي مستقر، ويجعل أعمالهم عرضة للسرقة أو التهميش.
تحديــات كثـيرة
يشير العديد من الفنانين إلى أن واقع فن الترميل يطرح تحديات كثيرة، ولعل أهمها اعتباره أحد الحرف التقليدية وليس فنا تشكيليا مؤطرا أكاديميا وموجّها لتعزيز التكوين فيه، كما يشكّل من جهة أخرى انعدام فضاءات عرض دائمة في الجنوب ـ حسبهم ـ أحد التحديات المطروحة في مسألة توفر إطار تجاري وهيكلي لبيع وترويج هذه اللوحات والتحف الرملية الفنية.
ورغم كل هذا يجمع الفنانون على أن هذا الفن يحظى بتقدير واهتمام من الجهات المسؤولة، حيث هناك الكثير من المبادرات التي ساهمت في تسهيل مشاركة بعض الفنانين الجزائريين في معارض دولية قدّمت فن الترميل للعالم، وهناك حالات كثيرة لفنانين أجانب تأثروا به، وبدأوا تجاربه في بلدانهم، ما يعكس القيمة الكامنة لهذا الفن.
بنـك وطني لأعمــال التّرميــل
مع الثّورة الرّقمية، أصبح من الممكن أن يصل فن الترميل الجزائري إلى جمهور عالمي، من خلال توثيق عرض الأعمال في معارض افتراضية ومنصّات إلكترونية، خاصة أن الرقمنة لا تساهم فقط في التعريف بالفن، بل تضمن له الحماية القانونية، من خلال توثيق ملكية الأعمال وتاريخها وتوقيعها الفني.
ومن المقترحات المقدمة لتعزيز استخدام الرقمنة لحماية هذا الفن والحفاظ عليه، إنشاء بنك صور وطني لأعمال الترميل، وإطلاق منصة إلكترونية لعرض وبيع الأعمال الرملية، بالإضافة إلى تنظيم مسابقات افتراضية لفن الترميل بهدف إشراك الشباب.
دعــوة للتّصنيـــف
ويجمع كثير من الفنانين الممارسين لـ “الترميل” على أن تصنيف هذا الفنّ يتطلب إرادة ثقافية حقيقية، وخطة وطنية تدمج الفن الذي أثبت وجوده ضمن الموروث الثقافي غير المادي الجزائري، ومن بين الاقتراحات المقدمة، فتح أقسام تكوينية بالمعاهد والجامعات، وتصنيفه ضمن التراث الوطني وتنظيم معارض وطنية خاصة بفن الترميل، ودعم الفنانين بالمعدات والفضاءات والمعارض وتشجيع التصدير الثقافي لهذا الفن خارج الجزائر.
لوحـات التّرميــل..هويّــة صحراويـــة
إن فن الترميل ليس مجرد ترف بصري أو حرفة تزيينية، بل هو لغة تشكيلية فريدة تنبع من عمق الصحراء الجزائرية التي توسّع مجالها لتشمل مجالات جغرافية أخرى، تجمع بين الإحساس الجمالي والهوية الثقافية والرمزية البيئية، وبين الطاهر جديد، وعبد الرحمن معروف، ومحمد زيتوني، وإسلام معروف، تجسّدت أجيال من العطاء والإبداع الرملي.
وبذلك فإنّ مستقبل هذا الفن مرتبط بمدى استعداد المؤسسات الثقافية للاستماع إلى نداء الفنانين، واحتضان هذه التجربة وتطويرها، حتى يتحوّل فن الترميل من حالة محلية إلى علامة فنية جزائرية عالمية.