ألقى الدكتور حسين القاصد، ضمن لقاءات الأكاديمية، محاضرة تحت عنوان “تفكيك الظاهرة الغذامية”. تناول فيها بالنقد والتحليل إسهامات الناقد عبد الله الغذامي، الذي يُعدّ من أوائل من أدخلوا النقد الثقافي إلى الساحة النقدية العربية.
ركّز الشاعر والناقد العراقي الدكتور حسين القاصد على الجوانب الإيجابية في طرح الغذامي، لكنه في الوقت نفسه سلّط الضوء على بعض الإشكاليات النظرية والتطبيقية التي رافقت مشروعه النقدي، معتبرًا أن النقد الثقافي رغم أهميته وانتشاره في الأوساط الأكاديمية العربية، إلا أنه شهد تطبيقات مشوشة وغير دقيقة.
أوضح حسين القاصد في محاضرته أن النقد الثقافي ليس طرحًا جديدًا تمامًا، بل هو امتداد لأفكار قديمة، لكنه برز مؤخرًا كمنهج نقدي مستقل. إلا أن الغذامي - بحسب رأيه - لم ينجح في تأصيله بشكل كافٍ، حيث استند بشكل أساسي إلى أفكار الناقد الأمريكي فنسن ليتش، متجاهلًا جهود نقاد سبقوه مثل تيودور أدورنو، الذي ناقش مفاهيم النقد الثقافي منذ خمسينيات القرن الماضي.
وأشار القاصد، إلى أن الغذامي تأثّر بشكل واضح بعالم الاجتماع العراقي علي الوردي، الذي قدم أطروحات نقدية في كتابه “أسطورة الأدب الرفيع”. فقد قام الوردي بتشريح الخطابات الشعرية وفق رؤى اجتماعية سلطوية، وهو ما انعكس لاحقًا في منهج الغذامي، خاصة في قراءاته التي ربطت بين الشعر والأنساق الثقافية المضمرة.
كما أكّد الدكتور حسين القاصد، أن انتشار النقد الثقافي في العالم العربي جاء بسرعة كبيرة، لكن دون تأسيس معرفي متين، موضحا أن بعض مفاهيمه أُسيء فهمها، ممّا أدى إلى ظهور قراءات غير دقيقة تفتقر إلى المنهجية الصارمة، حيث أصبح النقد الثقافي يُمارس بطريقة انتقائية، دون وعي كافٍ بالخلفيات الإبستمولوجية التي يقوم عليها.
ولفت المتحدث إلى أن الغذامي نفسه واجه إشكالات في تصوره للنقد الأدبي، إذ أعلن في مرحلة ما “موته وإفلاسه”، قبل أن يتراجع لاحقًا ويعترف بأهميته في الكشف عن الأنساق الثقافية التي تختبئ خلف البنية الجمالية للنصوص.
أدلجة النقد وسؤال الاستقلالية
أحد المحاور الجدلية التي تطرق إليها المحاضر كان ميل الغذامي إلى “أدلجة” النقد، حيث رأى أن قراءاته لبعض النصوص جاءت محملة بتوجهات ايديولوجية واضحة. كما أبدى استغرابه من تركيز الغذامي على نقد النصوص العراقية، متجنبًا في المقابل تحليل الخطابات الشعرية المرتبطة بالسياق السياسي والثقافي في بلده، رغم أن السياق المحلي كان يستدعي ذلك بدرجة أكبر.
نحـــو رؤيـــة نقديــة أكـــثر عمقًـــا
وفي ختام محاضرته، شدّد الدكتور القاصد على أن الغاية من هذه المراجعة النقدية ليست التقليل من جهود الغذامي، بل العمل على تصحيح بعض المفاهيم، وتعزيز الوعي النقدي لدى الباحثين والطلاب، مشيرا الى أن النقد الثقافي، رغم أهميته، يحتاج إلى إعادة تأصيل وضبط أدواته المنهجية، حتى يكون قادرًا على تقديم قراءات تحليلية متماسكة، بعيدًا عن العشوائية والأدلجة.
وأضاف القاصد أن النقد الثقافي، بفضل جهود الغذامي، ساهم في فتح أفق جديد للنقد العربي، حيث لم يعد يقتصر على الشعر والرواية، بل توسع ليشمل المسرح، السينما، الأغنية، الكاريكاتير، وحتى أشكال التعبير الرقمي. لكن نجاح هذا التيار مرهون بمدى وعي النقاد بأسسه المعرفية، وإدراكهم لأدواته الإجرائية، حتى لا يتحول إلى مجرد موجة عابرة تفتقر إلى العمق والجدية.
وفي حديثها عن هذه اللقاءات الأكاديمية، أكدت الدكتورة رقية موسود على أهميتها في تعزيز الوعي النقدي وترسيخ منهجية التفكير التحليلي لدى الباحثين والمهتمين بالشأن الثقافي. وأوضحت أن هذه الحوارات لا تقتصر على كونها منصات للنقاش، بل تمثل فضاءً فكريًا يسهم في إعادة قراءة المفاهيم النقدية، وتفكيك التصورات التقليدية، وطرح رؤى جديدة أكثر انسجامًا مع التحولات الفكرية والمعرفية الراهنة.
وأضافت أن مثل هذه اللقاءات تتيح فرصة لتلاقح الأفكار بين مختلف الاتجاهات النقدية، مما يعزز من قدرة الباحثين على التعامل مع النصوص والخطابات برؤية أكثر شمولًا وعمقًا. كما أشارت إلى أن النقد، سواء كان أدبيًا أو ثقافيًا، يجب أن يكون أداة لفهم الظواهر الاجتماعية وتحليلها، وليس مجرد ممارسة نظرية معزولة عن واقعها الثقافي والمعرفي.
وفي هذا السياق، شدّدت على ضرورة استمرار هذه اللقاءات الأكاديمية كجزء من مشروع أوسع لتطوير الحقل النقدي العربي، والانفتاح على المدارس النقدية العالمية، والاستفادة من التطورات الفلسفية والفكرية الحديثة. وأكدت أن النقد، في جوهره، هو عملية دائمة من المراجعة وإعادة التفكير، مما يجعله ضرورة ملحة لمواكبة التحولات المعرفية الكبرى في عالم اليوم.
واختتمت حديثها قائلة “إن تعزيز الحوار النقدي وتوسيع دوائره، يسهم في خلق جيل جديد من الباحثين القادرين على قراءة النصوص والخطابات بوعي أعمق، واستيعاب التغيرات الثقافية والفكرية بمنهجية أكثر دقة وتماسكًا”.