تسجيل الأكلة ضمن التّراث الإنساني دعوة للتعّرّف على الثّقافة الجزائرية
في لقاء ثقافي نظّمته المؤسسة الوطنية للاتصال والنشر والإشهار، قدّمت الدكتورة ياسمينة سلام كتابها الجديد الذي يتناول تاريخ طبق الكسكس وأهميته الثقافية، هذا الطبق الذي يعد أحد الرموز البارزة للهوية الجزائرية وأحد أعلام التراث الوطني. خلال اللقاء، قدّمت الدكتورة سلام شرحًا وافيًا حول مضمون الكتاب وأسلوب البحث الذي اعتمدته، مؤكّدة على أنّ هدفها كان تقديم دراسة شاملة علمية وتاريخية للكسكس كرمز ثقافي جزائري.
أوضحت الدكتورة ياسمينة سلام منهجية البحث التي اتّبعتها في إعداد كتابها الموسوم بـ “الكسكس..جذور وألوان الجزائر”، مشيرة إلى أنّها اعتمدت على مزيج من الدراسات الأكاديمية الدقيقة والتحليل التاريخي العميق. كما ذكرت أنّها لم تقتصر على المصادر المكتوبة فحسب، بل استخدمت أيضًا التوثيق الشفوي للحكايات الشعبية المرتبطة بالكسكس، التي تعتبر جزءًا مهمًّا من الذاكرة الثقافية للجزائريين.
فقد تناولت في كتابها دور شهادات كبار السن في القرى الجزائرية، الذين حافظوا على تقاليد إعداد هذا الطبق عبر الأجيال. وأضافت أنّ هذه الحكايات الشعبية التي سمعها من أفراد المجتمع المحلي قد قدّمت بعدًا إنسانيًا يربط الكسكس بمناسبات اجتماعية ودينية هامة، مثل الأعراس، والمواسم الزراعية، والاحتفالات الصوفية، وهو ما يعكس ارتباط الطبق بالهوية الثقافية في الجزائر.
الـكسكس كرمز لـلهويــّة الـثّقافية والانـتماء
وأثناء اللّقاء، أكّدت الدكتورة سلام على دور الكسكس كرمز للهوية الجزائرية، مشيرة إلى أنّه لا يُعتبر مجرد طبق غذائي بل عنصرًا يساهم في توحيد مختلف مكونات المجتمع الجزائري بمختلف تنوعاته الثقافية والإثنية. تناولت في كتابها كيف أنّ كل منطقة في الجزائر قد أضافت لمستها الخاصة على هذا الطبق، ممّا يعكس غنى وتنوّع المطبخ الجزائري. وأوضحت أنه في بعض المناطق يتم تحضير الكسكس بالخضروات، وفي مناطق أخرى يُعد باللحم أو حتى النسخ الحلوة من الكسكس، وكل منها يعكس التقاليد المحلية الخاصة بتلك المناطق. وبالتالي، فإنّ الكسكس ليس مجرد طعام، بل هو أداة ثقافية تحمل في مكوناتها تفاصيل حياة الناس ومناسباتهم.
فيما يتعلق بالبعد العالمي للكسكس، ذكرت المتحدثة أنّ كتابها لا يقتصر على تسليط الضوء على البُعد المحلي لهذا الطبق، بل يشير أيضًا إلى تطوره ليصل إلى المستوى العالمي. فقد تطرّقت إلى إدراج الكسكس في قائمة التراث الثقافي غير المادي للإنسانية التابعة لليونسكو في عام 2020، مؤكّدة أن هذا الاعتراف الدولي كان حدثًا محوريًا عزّز من مكانة الكسكس كتراث عالمي. وأضافت أنّ تسجيل الكسكس في هذه القائمة ليس مجرد اعتراف بأصالته، بل هو أيضًا دعوة للعالم للتعرف على الثقافة الجزائرية بمختلف جوانبها، بما في ذلك تراثها المطبخي. وأوضحت أنّ هذا الإنجاز يشكّل مسؤولية إضافية للحفاظ على هذا التراث وحمايته من الاندثار، مع ضرورة تعليمه للأجيال القادمة ليظل حيًا في الذاكرة الجماعية.
رحلـة عبر الـعصور
وفيما يتعلق بتاريخ الكسكس، أشارت الدكتورة سلام إلى أنّ كتابها يعرض رحلة هذا الطبق عبر العصور، منذ ظهور أولى إشاراته في العصور القديمة وحتى العصر الحديث. تناولت في الكتاب المصادر التاريخية التي تشير إلى أن هذا الطبق كان موجودًا في الحضارات القديمة لشمال إفريقيا، ومن ثم تطور ليصبح جزءًا من الموروث الشعبي الجزائري. وقالت سلام: “الكسكس لم يكن مجرد غذاء، بل كان عنصرًا أساسيًا في الحياة الاجتماعية والتاريخية للمجتمعات الجزائرية”، مشيرة إلى أنّ الطبق مرّ بمراحل عديدة من التطور، حتى أصبح جزءًا لا يتجزّأ من الهوية الجزائرية. كما أضافت أن تاريخ الكسكس طويل ومعقّد، ويعود إلى العصور الحجرية الحديثة حيث كان يحضّر كطبق أساسي في حياة الإنسان القديم.
بـين الحـكايـات والـتـّاريـخ
عند الحديث عن المصادر التي استخدمتها في البحث، أوضحت الدكتورة سلام أنّها اعتمدت على مزيج من الكتب القديمة والرحلات الاستكشافية للمستشرقين، بالإضافة إلى الحكايات الشعبية التي نقلها الناس من جيل إلى جيل. وأشارت إلى أنّ فترة الاستعمار الفرنسي في الجزائر كانت محورية في توثيق الكثير من المعلومات حول الطعام الجزائري، بما في ذلك الكسكس، حيث أجرى المستعمرون دراسات غذائية شملت عادات الطعام في المناطق الجزائرية. ورغم التنوع الكبير في المصادر المتاحة، أكّدت الدكتورة سلام أن الكسكس يظل جزءًا لا يتجزّأ من الثقافة الجزائرية، مشيرة إلى أنّ أول ميدالية عالمية فاز بها طباخ جزائري كانت بفضل وصفة الكسكس، ممّا يعكس مكانة هذا الطبق في التاريخ الثقافي الجزائري.
ذاكـرة شــعـب
اختتمت الدكتورة سلام حديثها بالإشارة إلى أنّ الكسكس ليس مجرد طبق تقليدي يتم تحضيره في بعض المناسبات، بل هو جزء حيّ من ذاكرة الشعب الجزائري ومناسباته اليومية. ورغم تطوّر طرق تحضيره في العصر الحديث، إلا أن هذا الطبق سيظل حاضرًا في حياة الجزائريين على مرّ الأجيال. وأوضحت قائلة: “الكسكس هو أكثر من مجرّد طعام، هو جزء من تاريخنا وثقافتنا، وكل تفاصيله، من طريقة تصنيعه إلى تقديمه، هي جزائرية محضة”.
من خلال هذا الكتاب، تسعى الدكتورة سلام إلى إبراز الجوانب الثقافية والتاريخية للكسكس، ليظل جسرًا يربط بين الماضي والحاضر، وبين الهويّة المحلية والعالمية.
لا يعد كتاب الدّكتورة ياسمينة سلام مجرّد دراسة أكاديمية حول طبق الكسكس، بل هو جهد علمي يهدف إلى الحفاظ على هذا التّراث الثّقافي، وتقديمه للعالم كجزء من هويّة الجزائر الغنية والمتنوّعة.