تتطلّب دراستـها خـبرة في تخصـّصـات متعـدّدة

كـنـوز مـعـرفـيـة عـابـرة لـلـتـاريـخ

أسامة إفراح

لعبت المخطوطات دورًا حاسمًا في الحفاظ على المعرفة ونقلها عبر التاريخ، لتكون مصدرا ثمينا للمعلومات حول الأحداث التاريخية والممارسات الثقافية والإنجازات الفكرية للحضارات الماضية. وقد غيّرت تقنيات رقمنة المخطوطات الطريقة التي يتمّ بها الحفاظ على النصوص القديمة والوصول إليها ودراستها. ومع ذلك، يبقى البحث في مجال المخطوطات يواجه عددًا من التحدّيات والقيود، على غرار إمكانية الوصول، والحفظ، والأصالة، والترجمة، وفهم السياق الثقافي والتاريخي.

لعلّ من أكثر جوانب المخطوطات إثارة للاهتمام تنوّع اللغات التي كتبت بها، كما تقدّم المخطوطات رؤى قيمة حول الثقافة في الماضي، فالخصائص المادية للمخطوطة، مثل حجمها وخطّها وزخارفها، يمكن أن توفر أدلّة حول الوضع الاجتماعي للكاتب أو الجمهور المستهدف من النصّ.
وتعدّ المخطوطات مصادر أساسية للأدلّة الأولية للمؤرّخين، ما يسمح لهم بإعادة بناء الماضي بتجميع الروايات المجزأة للأحداث التاريخية، وملء الثغرات في السجل التاريخي. كما تكتسب المخطوطات قيمتها من صفاتها الجمالية أيضاً، حيث تتجلّى براعة ومهارة الكتبة والمزخرفين في العديد منها. كلّ هذه المعطيات أدّت إلى ضرورة دراسة المخطوطات بشكل منهجي وعلمي.

علم المخطوطات

يُعنى علم الكتب المخطوطة أو الكوديكولوجيا (Codicology)‏ بدراسة الكتب المخطوطة، والكراريس (Codex) كأشياء مادية، ويشار إليه أيضا بـ«علم آثار الكتاب” (Archaeology of Book)، حيث يهتم هذا العلم بالمواد والطرق المستخدمة في صناعة الكتب وتجليدها. أما العلم الذي يهتم بدراسة المخطوطات كمحتوى فيعرف بعلم الباليوغرافيا (علم الكتابات القديمة) وكذلك علم الفيلولوجيا (فقه اللغة).
وتعود نشأة هذا العلم إلى العقدين الثالث والرابع من القرن العشرين، حينما استعمل شارل ساماران مصطلح كوديغرافيا (Codigraphie)، واستعمل ألفونس داين مصطلح “كوديكولوجي” (Codicologie) الذي يتضمّن كلمة “كوديكس” (كراسات مجموعة في مجلَّد واحد، ولها غلاف خارجي).
ويعدّ علم المخطوطات مجالًا دراسيًا ديناميكيًا ومتطوّرًا يلعب دورًا حاسمًا في تفسير ثقافة المخطوطات والحفاظ عليها. وهذا العلم مجال دراسة ضمن نطاق تاريخ الكتب، يركّز على الجوانب المادية للمخطوطات والكتب، وهو نهج متعدّد التخصّصات يجمع بين عناصر التاريخ وتاريخ الفن والمراجع والثقافة المادية من أجل فهم إنتاج النصوص المكتوبة ونقلها واستقبالها. ويسعى علم المخطوطات إلى تسليط الضوء على الظروف المادية التي تم إنتاج النصوص في ظلّها، فضلاً عن السياقات الثقافية والاجتماعية التي أثرت على إنشائها.
ومن أهداف “الكوديكولوجيا” تحليل الخصائص المادية للمخطوطات، مثل نوع الحامل الكتابي المستخدم، والنصّ وزخرفته، ومواد التجليد والغلاف، والحواشي أو التعليقات الموجودة. كما يهدف إلى تتبع تاريخ المخطوطات الفردية أو مجموعات الكتب، بما في ذلك مصدرها وملكيتها واستخدامها، وهذا من شأنه أن يسلّط الضوء على الشبكات الفكرية والثقافية التي شكّلت نشر المعرفة في العالم ما قبل الحديث. ويبحث علم المخطوطات في مادية النصوص لفهم العلاقة الديناميكية بين الشكل والمحتوى في إنتاج واستقبال الأعمال المكتوبة.
ومن تحدّيات علم المخطوطات أنّه يتطلّب الخبرة في تخصّصات متعدّدة، بما في ذلك علم الخطوط القديمة (دراسة النصوص القديمة والعصور الوسطى)، وتجليد الكتب، والحفظ، والوصف الببليوغرافي، والعلوم الإنسانية الرقمية.

تحـقـيق المخطوطات

يعود ظهور صناعة المخطوطات العربية إلى القرون الأولى للهجرة، وتضمّنت التأليف والإملاء، والفنون في المخطوطات كالرسوم والزخرفة والتذهيب. وشمل الإعداد الفني للمخطوطات الفهرسة والتصنيف، والتحقيق، والنشر.
ويقتضي تحقيق المخطوط، وفقا لمختار سالمي (جامعة تيارت)، يقتضي اتباع عدّة مراحل ونَهْج أسس محدّدة، كما وضعها أهل التخصّص ومشايخ التحقيق، انطلاقا من المرحلة الإعدادية، والتي يتم فيها التعرّف على المخطوط، كالتأكّد من عدم طبعه سابقا والتحقيق من عنوان الكتاب، ومن اسم المؤلِّف، ومن نسبة الكتاب لمؤلِّفه، ومعرفة عدد نُسخه وتقويمها. وتأتي بعدها المرحلة الثانية وهي المرحلة العملية، والمتمثلة في تحقيق النصّ والتعليق عليه، وتتضمّن انتساخ النص، ومقابلة النُسخ، ثم التعليق على النص، وفي كلّ خطوة يخطوها المحقّق؛ هناك أسس منهجية تلزم صاحبها عدم الإخلال بها، ليصل في الأخير إلى عمل محقّق صحيح.
من جهته، يرى امحمد مولاي (جامعة أدرار) أنّ تحقيق المخطوطات هو الاجتهاد في جعل النصوص المحقّقة مطابقة لطبيعتها في النشر من حيث الخط واللفظ والمعنى، وبالتالي فالمخطوط المحقّق هو الذي صحّ عنوانه واسم مؤلفه ونسبة الكتاب إليه، وكان متنه أقرب ما يكون إلى الصورة التي تركها مؤلّفه، وهذا هو هدف عملية التحقيق. ويخلص الباحث إلى أنّ الغاية من تحقيق تراث المخطوطات وإخراج نصوصه هي إحياؤه من سباته العميق وبعثه للحياة من جديد.
ويعتبر محمود مصري اسطنبول أنّ المعنى اللغوي للتحقيق يشترك مع المعنى الاصطلاحي القديم والحديث من جهة الإثبات والتصحيح والإحكام. فهدف التحقيق هو تقديم نصّ صحيح موثق ميسر. وهذه العناصر قام عليها تحقيق النصوص وتحريرها في التراث العربي، وطبقها العلماء عمليا في المخطوطات العربية، ثم صاغوها في قواعد وردت متناثرة في كتب علم مصطلح الحديث منذ القرن الرابع الهجري. وجمع الباحث ما ورد في كتبهم من قواعد في التصنيف الآتي: أولا، مقابلة النسخ (المعارضة، العرض). ثانياً، إصلاح النص، ويشمل: علاج النقص، وعلاج الزيادة، وعلاج المكرّر، وعلاج الخطأ، وعلاج اللّحن. ثالثاً، ضبط النص، كالنقط والشكل، وضبط الحروف المهملة، وضبط الألفاظ المشكلة. رابعاً، صنع الحواشي. خامساً، اصطلاحات الكتابة. سادساً، قواعد الكتابة. وسابعاً وأخيرا، آداب الكِتاب والكتابة.

رقمنة المخطوطات

أحدثت تقنيات الرقمنة ثورة في الطريقة التي يتم بها حفظ النصوص القديمة والوصول إليها. ومع تقدّم التكنولوجيا، تمكّنت المؤسّسات والمنظّمات من رقمنة المخطوطات، ما يجعلها أكثر سهولة في الوصول إليها وضمان الحفاظ عليها للأجيال القادمة.
ويعتبر المسح الضوئي أحد أكثر التقنيات استخدامًا، لإنشاء صور رقمية عالية الدقّة يمكن تخزينها في مستودعات رقمية، والوصول إليها عن بُعد، ما يسمح بحماية المخطوطات الدقيقة من التلف.
ونجد أيضا برنامج التعرّف الضوئي على الحروف (OCR)، الذي يستخدم لتحويل الصور الممسوحة ضوئيًا إلى نص يمكن قراءته بواسطة الآلة، متيحا البحث باستخدام الكلمات الرئيسية داخل نص المخطوطة، ما يسهّل على الباحثين العثور على معلومات محدّدة داخل المستند.
ويعدّ وضع علامات على البيانات الوصفية Metadata tagging تقنية مهمّة أخرى، بحيث يتم إنشاء بيانات وصفية توفر معلومات حول محتوى وسياق ومصدر كلّ مخطوطة، ما يسهّل تحديد وفهم أهمية المخطوطات، وتنظيمها واسترجاعها.
تتضمّن تقنيات الرقمنة أيضًا استخدام تقنيات التصوير المتقدّمة مثل التصوير متعدّد الأطياف multispectral imaging، الذي يستخدم أطوالا موجية مختلفة من الضوء لالتقاط صور مفصّلة للمخطوطات التي قد تكون باهتة أو تالفة.
ومن فوائد الرقمنة الحفاظ على التراث الثقافي، بحماية الوثائق التاريخية القيّمة التي قد تكون معرّضة للتلف أو التدهور على المدى الطويل. وتسمح الرقمنة بإنشاء نسخ احتياطية من المخطوطات، ما يقلّل خطر الضياع لمختلف الأسباب. وتسهل الرقمنة الوصول إلى المخطوطات ومشاركتها، حيث بات بإمكان العلماء والباحثين من جميع أنحاء العالم الوصول إلى المخطوطات الرقمية عبر الإنترنت، وسهّل هذا الأمر التعاون وتبادل المعرفة، كما مكّنت تقنيات الرقمنة الباحثين من فرص بحثية جديدة، وسمحت باكتشافات جديدة في النصوص القديمة.
بالمقابل، وعلى الرغم من فوائدها العديدة، يمكن لتقنيات الرقمنة أن تكون مكلّفة ومستهلكة للوقت، وتتطلّب معدّات وخبرات متخصّصة. كما قد لا تتعلّق القيود بالرقمنة فحسب، بل بالمخطوطات نفسها.

قـيود..وتحدّيـات

تطرح دراسة المخطوطات عدداً من التحدّيات والقيود التي قد تعيق عملية البحث. فالمخطوطات، باعتبارها وثائق مكتوبة بخط اليد من الماضي، غالباً ما يصعب قراءتها وتفسيرها بسبب عوامل مثل الحبر الباهت، وخط اليد غير المقروء، والتدهور بمرور الوقت. كما قد تكون اللغة والنص غير مألوفين للقراء المعاصرين، ما يتطلّب تدريبا ومعرفة متخصّصة، وفي كثير من الأحيان، تكون المخطوطات غير مكتملة أو مجزّأة، ويصير من الصعب فهم سياق ومحتوى النص.
ورغم ما توفره الرقمنة من حلول، يبقى الوصول إلى المخطوط من التحدّيات الرئيسية في هذا المجال، ناهيك عن الحالة المادية للمخطوطات التي قد تتدهور بشكل أكبر عند التعامل معها أو تعريضها للضوء.
ولما كانت المخطوطات منسوخة يدويا، فهي عرضة لأخطاء النسخ مثل الأخطاء الإملائية والإغفالات والتفسيرات الخاطئة. وتشكّل أصالة المخطوط تحدّيا آخر، فالتزوير والإسناد الخاطئ شائعان في هذا المجال، كما أنّ الافتقار إلى الفهرسة الموحّدة والبيانات الوصفية للمخطوطات يمكن أن يجعل من الصعب على العلماء التحقّق من صحّة ومصدر الوثيقة، دون أن ننسى عقبات الترجمة والتفسير وفهم السياق الثقافي والتاريخي.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19791

العدد 19791

الخميس 05 جوان 2025
العدد 19790

العدد 19790

الأربعاء 04 جوان 2025
العدد 19789

العدد 19789

الثلاثاء 03 جوان 2025
العدد 19788

العدد 19788

الإثنين 02 جوان 2025