قدّم الأكاديمي عبد الحميد بورايو قراءته “الأوّلية” لرواية جيلالي خلاص “ألق النجوم الصيفي”، الصادرة حديثا عن دار القصبة، والتي تطرّقت إلى مرحلة تاريخية هامّة وهي تكوين “المنظمة الخاصّة” السرّية، الذراع المسلّح لحركة أنصار الحريات الديمقراطية. وممّا لاحظه بورايو، اللغة الأدبية الرفيعة التي ميّزت خطاب الرواية، واستخدام المعلومات التاريخية بالقدر المناسب، دون التخلّي عن المهمّة الأساسية وهي إبداع نصّ أدبي يرتكز على التخييل وتطوير الشخصيات.
نشر الدكتور عبد الحميد بورايو قراءته في رواية “ألق النجوم الصيفي” للكاتب جيلالي خلاص، الصادرة مؤخرا عن دار القصبة للنشر. وأشار بورايو إلى أنّه حاول في هذه الوقفة أن يقدّم انطباعه الأوّلي عن الرواية، معتبرا أنّ هذه الأخيرة في حاجة إلى دراسة منهجية سيسعى إلى إنجازها في المستقبل.
وفيما يتعلّق بانطباعه عن الرواية، قال بورايو إنّه “استمتع بقراءتها أيّما استمتاع”؛ إذ وجد فيها بناء حدثيا مشوِّقا وربطا موفّقا للعالم الروائي الخيالي بأحداث تاريخية وشخصيات وفضاءات طبيعية وعمرانية محلية، وتصويرها لمرحلة تاريخية مفصلية في تاريخ المجتمع الجزائري تمثلت في مرحلة تكوين المنظمة الخاصّة السرّية ذات الطابع العسكري OS، التي نشأت في حضن حركة أنصار الحريات الديمقراطية، وتمّ اكتشافها من طرف المخابرات الفرنسية في نهاية الأربعينيات من القرن الماضي.
واعتبر بورايو أنّ الكاتب جيلالي خلاص قد وُفّق في خلق عالم روائي مُتَخَيَّل، جرت أغلب أحداثه ما بين منطقتي عين الدفلة والجزائر العاصمة، بالاعتماد على أحداث سياسية وتاريخية، كانت بمثابة الإعلان المسبق عن ثورة التحرير، أو هي التجربة الأولى للثورة المسلّحة ــــ بمفهومها الحديث ــــ على الاستعمار، والتي أُجْهِضَت بسبب وشاية تبعتها عملية تحقيق وتعذيب وتشريد لعدد من المناضلين الذين تكفّلوا بها.
وتميّزت هذه الأحداث السياسية، التاريخية، والعسكرية بمجموعة من الخصائص تؤهّلها لأن تتحوّل إلى بناء روائي وإبداع درامي، مثل التنظيم السرّي، ومفاجأة الخصم، وحدوث الاكتشاف بسبب الوشاية بدوافع ذاتية، والخلافات السياسية بين الوطنيين، والتعذيب، والتخفّي، والمتابعة البوليسية، وغيرها...”وقد وجدتُ في جيلالي خلاص الكاتب المبدع الْمُتْقِن لصناعة الخطاب الروائي وتحويل مادة الحياة اليومية للمجتمع الجزائري إلى كتابة روائية بحِرفية عالية المستوى تستثمر هذه الخصائص، فقدّم النصّ بناء روائيا يشدّ القارئ فيحرص على متابعة القراءة بشيء من اللهفة من أجل معرفة نهاية هذه الأحداث ومصائر الشخصيّات”، يقول بورايو.
إلى جانب ذلك، فقد حرص النصّ الروائي على استخدام المعلومات التاريخية بالقدر المناسب والضروري عند الحاجة، دون أن يتخلى عن مهمّته الأساسية المتمثلة في إبداع نص أدبي يرتكز على التخييل والكشف عن بواطن الشخصيات ومواقفها من الأحداث وتطويرها بصفة مناسبة وتوجيهها نحو مصائرها..
بطل الرواية “سليم” ابن فلاّح، أصبح هذا الفلاح عاملا زراعيا في العهد الاستعماري، من قرية سيدي حمّو الواقعة على ضفاف وادي الشلف قرب مدينة عين الدفلة. شكّلت الرواية شخصية البطل فتحدّثت عن طفولته ومرحلة مراهقته، والتحاقه بالعمل في مزرعة أحد الملاّك المعمّرين الفرنسيين، ثمّ انخراطه في العمل السياسي في صفوف الحركة الوطنية وانضمامه إلى حركة أنصار الحريات الديمقراطية، عن طريق المناضلين المحليين في المنطقة. وقد تمّ سجنه لمّا اكتُشِفَ عمله السياسي وتعرّض للتعذيب وحُكِمَ عليه بالإعدام، غير أنّه هرب من قبضة الحراس بعد محاكمته مباشرة، ليتخفّى ثمّ يسافر بجواز سفر مزوّر إلى القاهرة، حيث التحق ببعض الشخصيات التاريخية ليمارس عمله السياسي هناك. بموازاة ذلك، اعتنت الرواية بتقديم الشخصية في علاقاتها بأفراد أسرتها وبجيرانها وأهل منطقتها وكذلك بعائلة المعمّر الذي كان متعاطفا مع الوطنيين الجزائريين، وقد ارتبط البطل بعلاقة حب مع ابنة المعمّر، التي ساعدته فيما بعد على التخفّي والنجاة من قبضة البوليس الفرنسي والهجرة إلى مصر.
ويضيف بورايو بأنّ هيأة الشخصيات الفاعلة في الرواية قد تمّ تشكيلها من عدد كبير من الشخصيات؛ بعضها مُتَخَيَّل، وبعضها تاريخي كبن بلة وآيت أحمد وغيرهما، وبعضها الآخر من رجال النضال الوطني في منطقة عين الدفلة. واحتلّت الشخصيات الخيالية الصدارة في الفعل الروائي، وقد تحكّم جيلالي خلاص باقتدار في مسارها في العالم الروائي، بينما نجح في إدراج الشخصيات التاريخية في هذا الفعل، لكن بقدر قليل وحسب ما سمحت به المعلومة التاريخية المتعارف عليها في الوثائق التاريخية. وقد أتقن الكاتب لعبة المزاوجة بين الشخصية التاريخية والشخصية الخيالية، مع تغليب النسج الخيالي الروائي والعناية ببناء الحبكة القصصية، لتكون المعلومة التاريخية مجرد خلفية تثري الرواية وتفسح لها المجال لتجسد مرحلة تاريخية هامة في حياة المجتمع الجزائري.
أما خطاب الرواية فقد تميّز بلغة أدبية رفيعة ــــ يلاحظ بورايو ــــ خاصّة منها تلك التي قدّمت الإطار المكاني للأحداث؛ حيث نجد وصفا للريف في منطقة عين الدفلى وفي الطريق الواصل بينها وبين الجزائر العاصمة، نعثر على لوحات فنية ملوّنة مرسومة عن طريق اللغة لوادي الشلف وضفافه وللغابات والأحراش والمزارع ومختلف التضاريس المميّزة لهذه المنطقة..ولا يشمل الوصف المناظر الطبيعية فقط، بل يبرع الكاتب في تقديم الأحوال الجوية المتحوّلة مثل شروق الشمس وغروبها ومسارها السماوي، والأنواء والعواصف، وكذلك مناظر أحوال البحر والموانئ، وهي مشاهد توظف في الإيحاء بما تعانيه الشخصيات الفاعلة في الرواية من مشاعر وحالات نفسية. وخلص بورايو إلى أن فقرات عديدة من نص رواية “ألق النجوم الصيفي” للكاتب جيلالي خلاص تصلح أن تكون “نماذج للتعبير الأدبي تُقَدَّمُ في الكتب المدرسية لأبنائنا.”