قدّم الكاتب والروائي الفلسطيني محمود شقير قراءة في رواية “تنهنان..النبع والجبل والياقوت الأزرق”، للكاتبة الجزائرية ليلى تباني، الصادرة مؤخرا عن دار خيال للنشر. ووجد شقير في الرواية دفاعا عن حقّ المرأة في إثبات وجودها وتحكّمها في مصيرها، وفي هذا المسعى، تنقلنا الكاتبة إلى القبائل الأمازيغية في القرن الرابع الميلادي، لتُدخلنا معها في قصر الملك أمادووس، “ممهّدة السبيل لانتصار الأنوثة على الذكورة”.
نشر الروائي الفلسطيني محمود شقير قراءته لرواية “تنهنان..النبع والجبل والياقوت الأزرق”، للكاتبة ليلى تباني، الصادرة مؤخرا عن دار خيال للنشر والترجمة في 360 صفحة.
ويقول شقير إنّ مؤلّفة الرواية، في مسعاها للدفاع عن حقّ المرأة في إثبات وجودها وتحكّمها في مصيرها، تذهب إلى قبائل الأمازيغ (يستعمل شقير في منشوره كلمة البربر) التي عاشت في القرن الرابع الميلادي في شمال أفريقيا، لتُدخلنا معها في قصر الملك أمادووس، ممهّدة السبيل لانتصار الأنوثة على الذكورة، ثمّ تضعنا الكاتبة أمام قافلة تعود من مملكة الذهب إلى مملكة الغزال، لكي تتكشّف الرحلة عن حقيقة فاجعة تتمثّل في وفاة عرّاف القصر الحكيم منيلاس.
تحزن الأميرة تينرت على الحكيم الذي كان يعلّمها الحكمة ثمّ تستعيض عن حضوره بحضور أرملته العرّافة يثريت. وحين يوافق الملك على طلب الأمير كيمع الاقتران بالأميرة بعد أن هزمته في مبارزة مشهودة، فإنّها ترفض الارتباط بالأمير، ما جعل والدها يحجزها في القصر إلى أن تستجيب لقراره. وبعد فترة من الزمن تتظاهر بالموافقة على الزواج بالأمير، وهي تزمع على الهرب من القصر ومن المملكة.
ويلاحظ شقير أنّ قدرات الروائية تتجلّى في السرد وفي تطويع اللغة أثناء رحلة الهروب من القصر، حيث الصعوبات التي واجهت الأميرة والعرّافة وكبير الخدم أخنوس وحبيبته الخادمة تاكامات والخادمة نارا. ويقول: “ثمّة وصف مقنع للعاصفة الرمليّة التي هبّت في الصحراء وكادت تقتل الأميرة والمرافقات والمرافقين من خدمها حين طمرتهم الرمال، إلا أنّ التصميم على المواجهة والاحتماء من الرمل بالأقنعة حمى الجميع من الأخطار، وكادت تقع مصيبة حين نهشت أفعى سامّة الخادمة نارا، غيرَ أنّ مهارة العرّافة الحكيمة أنقذتها من الموت.”
ويعتبر الكاتب الفلسطيني أنّ ليلى تباني قد استخدمت تقنية الرحلة ومجابهة المخاطر في سردها الروائي لتقدّم رؤاها واجتهاداتها الفكرية في المصير البشري، وللخروج بالاستنتاجات الملائمة وبالدروس والعبر وبعض المقولات الفلسفية، وبالاستعانة بالمقطوعات الشعرية المختارة لتعميق الأفكار والتأمّلات التي تطرحها على لسان بطلة الرواية ومن خلال شخصيات أخرى. ونشهد، بين الحين والآخر، توتراتٍ درامية مشوّقة في السرد الذي يجري غالبًا من خلال الراوي العليم، وذلك حين تقع القافلة أسيرة بيد حرّاس الواحة، ثمّ حين تقع المواجهة بين تينرت وملك الواحة أدرار، الذي يعاني من ألم يحرمه من النوم من جرّاء دمّلة في خدّه، تفلح تينرت بذكائها وثقتها في نفسها في كبح ذكورة الحاكم، وتسهم بشكل غير مباشر في انفجار الدمّلة وهي تحكي له قصّة الملك الظالم الذي دفعه ظلمه إلى الانتحار. ينام أدرار نومًا عميقًا بعد زوال الألم، ويقع في حب تينرت التي أصبح اسمها تنهنان.
ويواصل شقير: “غيرَ أنّ تنهنان لم تشأ أن تخضع لقيود الحب، فهي الحرّة التي تبحث عمّا يرضي شخصيّتها المتمرّدة في مكان ما. تغادر الواحة ومعها أمّها العرّافة والخدم والأتباع. وتتعرّض قافلتها لمشقّات الارتحال في الصحراء، ثم تلتقي بقافلة أخرى محتاجة إلى الماء، فتقدّم لها العون، ما شجّع هذه القافلة وزعيمها أيمستغ على الانضمام إلى قافلة الأميرة.”
وفي الأثناء، ومن خلال السرد المتأنّي، تعرّفنا ليلى تباني على تأمّلات الأميرة التي كانت تستعين على المشقّات بخاتم الياقوت الأزرق الذي أهداه لها أبوها الملك، وهي، أيّ الأميرة، تمعن في التفلسف وتأمّل العلاقة بين النفس والجسد، والظن أنّها وصلت إلى ما تبحث عنه، ثمّ لا تلبث أن تنقض ما استقرّ رأيها عليه، وذلك لأنّها بحسب رأيها “تبحث عن الفكرة، عن شيء غامض” ثمّ تتوصّل إلى الإيمان بوجود خالق لهذا الكون، حين كانت القبائل آنذاك وثنية ولم يصلها الإسلام بعد. وتعرّفنا الكاتبة كذلك عبر السرد المحبوك بلغة متقنة على كثير من التفاصيل الخاصّة بالصحراء وبالقبائل التي تسكن واحاتها، وبالعادات والتقاليد والأزياء والنباتات والثمار التي تجود بها الأشجار، ولا تنسى الإشادة بعناصر الحياة الأربعة: الماء والتراب والهواء والنار.
ويشير شقير إلى أنّ خيوط السرد تتشابك بشكل لافت في فصول الرواية الأخيرة، بحيث تتجسّد في هذه الفصول قصة الحب المدهشة بين الأميرة تنهنان والملك أدرار الذي تزوّجها وتوّجها ملكة في مكان إقامتهما في الصحراء. ويتصاعد السرد الدرامي حين تنسلّ الملكة خفية من جوار زوجها وتقع أسيرة لدى الملك شرهود ملك الجان الذي قرّر الزواج بها، ولم يخلّصها من هذا المصير سوى خاتم الياقوت الأزرق.
ثم يحتدم السرد مرّة أخرى حين يأتي الأمير كيمع باحثًا عن خطيبته تنهنان بعد هروبها من مملكة أبيها، يدخل في مبارزة مع زوجها أدرار، فيقتله كيمع غدرًا، ثمّ تقتله الملكة شرّ قتلة انتقامًا لزوجها بعد مبارزة دامية بينها وبينه، تلك المبارزة التي خلّفت جرحًا عميقًا في ساقها تسبّب في موتها، الأمر الذي نشر غلالة من حزن على رعيتها وعلى السرد الروائي سواء بسواء.
من جهة أخرى، يقدّم محمود شقير ملاحظتين على هذه الرواية: الأولى تتمثّل في هروب الأميرة ثمّ الملكة مرّتين، وعدم قدرتها على المواجهة، مرّة حين أرغمها أبوها الملك على الرضوخ لمشيئته، فلم تستمرّ في الرفض. تظاهرت بالموافقة على الاقتران بالأمير كيمع، وأخرى حين انسلّت من جوار زوجها الملك أدرار وغادرته بحثًا عن المعرفة. إذ كان الأجدر بامرأة شابة تسعى لتأكيد ذاتها في مواجهة الذكورة ألا تلجأ إلى الهرب لتحقيق غاياتها المشروعة. أما الملاحظة الثانية فتتعلّق “بالأخطاء المطبعية التي أرجو تلافيها في طبعة ثانية للرواية”، يقول شقير.
للتذكير، محمود شقير كاتب وروائي فلسطيني من مواليد القدس المحتلة عام 1941. شغل منصب نائب رئيس رابطة الكتاب الأردنيين وعضو الهيئة الإدارية للرابطة ما بين عامي 1977 و1987، وكان عضوا في المجلس الوطني الفلسطيني، كما أنّ له إسهامات صحافية كثيرة، وترأس تحرير عدّة صحف ومجلات عربية. له مجموعات قصصية، وروايات، وكتب للمسرح والتلفزيون، وهو حائز على جائزة محمود درويش للحرية والإبداع (2011)، وجائزة القدس للثقافة والإبداع (2015)، وجائزة دولة فلسطين في الآداب (2019)، وجائزة فلسطين العالمية في الآداب (2023)، كما اختيرت روايته “مديح لنساء العائلة” ضمن القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية في دورة 2016.