شكّل موضوع “مدينة الجزائر في الثقافة العالمية” محور ملتقى وطني نظّمته المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية بالجزائر، أكّد خلاله أساتذة مختصون أن الجزائر كانت ولا تزال مرجعا هاما ومصدر إلهام لكثير من العلماء والأدباء، سواء الذين ترعرعوا في أرضها أو من بلدان أخرى.
أشار عبد القادر جمعة، مدير المكتبة الرئيسية للمطالعة العمومية بالجزائر العاصمة، خلال افتتاحه الملتقى، إلى أنّ الملتقى محاولة لتسليط الضوء على مآثر مدينة الجزائر العريقة والعتيقة التي كانت في محطات كثيرة من تاريخها منارة من منارات الثقافة العالمية. وقال “يكفينا فخرا أنها من أقدم المدن والمواقع التي تضمّنتها منارة من منارات الثقافة العالمية”.
وأضاف “نعلم جميعا أنّها ذكرت ولو بشكل سريع في اوديسة هوميروس عندما تحدث عن ذلك الوقوف العابر لديليس ورفاقه في إيكوزيوم التي هي سلف مدينة الجزائر”.
وفي سياق متصل، لفت جمعة إلى أنها عاصمة من عواصم المتوسط عاصمة من عواصم شمال إفريقيا، تردد صداها في أعمال وآثار أدبية متنوعة في كتابات تاريخية كثيرة وفي إبداعات فنية، سواء الفن التشكيلي، المسرح أو السينما.
..محل اهتمام القدامى
من جهته أوضح وابل امحمد في مداخلته المعنوية بـ “دور أساقفة مدينة الجزائر في التعريف بمدينة الجزائر في المجامع الدينية خلال القرن الخامس ميلادي”، أنّ مدينة الجزائر كانت محل اهتمام القدامى خاصة القرن الأول والثاني هجري، فقد أشاروا إليها في أعمالهم، من بينهم الكاتب سولين (SOLIN) والمختص في التاريخ الطبيعي بلينوس (PLINUS) الرحالة الإغريقي سيلاكس والجغرافي بطليموس.
ولفت المتحدّث إلى أنّ مدينة الجزائر (ICOSIUM) كانت حاضرة دوما في التجمعات الإقليمية والمؤتمرات الدولية، خاصة في القرن الخامس ميلادي.
كما ذكر وابل امحمد أنّ رجال دين من الجزائر شاركوا في إعداد القوانين، وكان انتقاؤهم على أساس معرفي يعكس الواقع الفكري في مدينة الجزائر بأنّه لا يقل عن كبار المدن في الفترة الرومانية.
من جهة أخرى، قال المتحدّث إنّه على الرغم من الإقصاء الذي عاناه رجال الدين خلال الفترة الوندالية، إلا أن مدينة الجزائر كانت حاضرة في المجمع الديني، وتحدّوا كل الصعاب والمضايقات، وهذا يعتبر جانبا من المقاومة الفكرية للاستعمار الوندالي.
الجزائر في فكر أنطونيو دي صوصا
وفي دراسة تحليلية نقدية تناول محمد كحلي “مدينة الجزائر في فكر أنطونيو دي سوسا ، الإسباني صاحب كتاب “طوبوغرافيا وتاريخ الجزائر العام”.
ذكر المتحدّث أنّ كتاب دي صوصا “طوبوغرافيا وتاريخ الجزائر العام” الذي نشره عام 1612 بإسبانيا يعد “وثيقة هامة كونه عبارة عن مزيج من مقالات أدبية وتاريخية كتبها وهو أسير في الفترة العثمانية سنة 1577”، حيث استغل تواجده بمدينة الجزائر لكتابة رسائل تضمّنت “أوصافا دقيقة” عن الأمكنة والحياة التجارية والاجتماعية، من بينها الكثير من المظاهر الثقافية والعادات والتقاليد، وغيرها من الصور الحيّة التي عاشها آنذاك.
وأكّد السيد كحلي أنّ مدينة الجزائر “استحقّت مكانتها بجدارة كفضاء فكري واجتماعي وعسكري”، مشيرا إلى أنّ شهادة صوصا هي شهادة هامة لأنها صادرة عن شخص واع ومثقف.
ولفت ذات المتحدث، إلى أنّه ليس كل من يكتب على الجزائر دولة وشعبا من الغرب هو صديق لها، بل هناك من الكتاب والمفكرين من استغل هذه الكتابات، وحرّف عن طريقها الكثير من الحقائق ونفثوا فيها من سمّهم.
وبدورها تحدّثت الأستاذة فتيحة قاضي في مداخلتها “جزائر بني مزغنة في أعين رحالة وجغرافي العصر الوسيط - إعادة التأسيس والتطور والاسهام” عن موقع جزائر بني مزغنة الجغرافي، الذي عُدَّ من أفضل المواقع الجغرافية في المغرب الأوسط، لوقوعها في الجزء الشمالي الشرقي من المغرب الأوسط بين تنس وشرشال على بعد 70 ميلا، ومن شرقها تدلس وبينهما خمسين ميلا، أما من الجنوب فهي تطل على سهول متيجة، كما أنه يمتاز باستراتيجية أمنية ودفاعية وهو غاية في الحصانة لقول ابن حوقل: “وهي جزيرة في البحر على رمية السّهم، تحاذيها فذا نزل بها عدو لجأوا إليها فكانوا في منعة وأمن فيمن يحذرونه ويخافونه”، كما تشرف على أهم المعابر البرية البحرية والحيوية التي أخذتها لأن تكون بؤرة للتجارة والتواصل والربط بين مختلف المراسي الهامة كمرسة الدجاج، إضافة إلى أنّها تعتبر نقطة وصل بينها وبين دول المغرب الأوسط والدول الأوروبية والأندلس من ناحية، ومن ناحية أخرى بينها وبين الدول والاقاليم الواقعة شرقها وغربها.
كما أشارت المتحدّثة، إلى أنّ جزائر بني مزغنة لاقت درجة من اهتمام الرحالة والجغرافيين، حيث ذكرها البكريفي القرن (5هـ) قائلا “مدينة جليلة أزلية..ولها أسواق ومسجد جامع”. وبلغت الجزائر مبلغا من الحسن والجمال في (ق 7 ه)، حيث قال في حسنها العبدري “..ثم وصلنا إلى مدينة الجزائر وهي مدينة تستوقف بحسنها الناظر، ويقف على جمالها خاطر الخاطر، وقد حازت مزيتي البر والبحر وفضلتي السهل والوعر، ولها منظر معجب أنيق السور، ومعجز وثيق، وأبواب محكمة العمل يسرح الطرف فيها حتى يمل”.
العاصمة فضاء للسّرد
من جهة أخرى، ناقش الدكتور وليد خضور من جامعة برج بوعريريج في مداخلته “العاصمة فضاء للسرد - هاوية المرأة المتحوشة لعبد الكريم ينينة- أنموذجا” العاصمة بوصفها فضاء حضاري وثقافي، ونظر إلى المكان الذي كتبه ينينة بما هو عنصر وفضاء ثقافي تتناسل منه سردية العاصمة.
وأوضح وليد خضور أنّ هناك تفاعل بين بنيتين متوازيتين داخل نص ينينة، بنية لا شعورية ولا واعية تؤثر في بنية شعورية هي البنية السردية، مستعينا بفكرة الطباقية عند ادوارد سعيد.
كما لفت المتحدّث، إلى أنّ الموسيقى حركت الفعل السردي داخل نص عبد الكريم ينينة فتحكّمت في إيقاع النص، مشيرا إلى حضور لاشعوري لأغنية “المقنين الزين”، مثبتا ذلك بدلائل نصية يرى - بأنها موضوعية نوعا ما ـ حيث قال: “لو نزلنا هذه الرواية وقدّمنا لها قراءة موسيقية سنجد أن أغنية المقنين الزين حاضرة، بالنسبة للجملة الموسيقية اللحنية للمقنين الزين والجمل السريدة عند ينينة”.
وأضاف: “هي جمل بسيطة سريعة فيها حركة تشبه كثيرا إيقاع الأغنية الشعبية، فالجمل السردية تشبه الجمل اللحنية في المقنين الزين من ناحية السرعة والخفة والبساطة أيضا، على مستوى الايقاع عند ينينة فيه نوع من السجال والسلاسة، كما هو الحال في تقديم الأغنية كأنه أعاد إنتاج الأغنية بطريقة أخرى”.
وخلال حديثه عن السرد واستعادة المدينة، أكّد المتدخّل أنّ مركزية المكان واضحة في هذه الرواية، بداية من صورة الغلاف وتسمية المكان “هاوية المرأة المتوحّشة”، إلى العتبة الأولى. كما أنّ السردية - بحسب خضور- “متشابكة ونحن إزاء سرد أمومي عند ينينة تحضر فيه الأم كمعادل موضوعي عن الوطن الجزائر العاصمة”.
وأضاف “في النص مقاومة ثقافية للأطروحة الاستعمارية، فينينة يعيد تشكيل ذاته من خلال هذا المكان، وينتفض على تهجئة بعض الأماكن باللغة الفرنسية، مثل بوزريعة التي أصلها بوز الريح أي فم الريح، حيث يقول بأننا تركنا اللسان العربي الفصيح، وذهبنا إلى العجمة الفرنسية، وكذا الحال مع درارية التي أصلها ذراع الريح”.