تصـــــدح بــــه حناجـــــر النســــوة والرجـــــال مــــن أعــــــالي جرجـــــرة

ثيبوغارين..أفــــــــــراح الحيـــــــــــــاة التـــــــي تأبــــى الاندثــــــــــار

تيزي وزو: نيليا.م

 

من أعالي جبال جرجرة الشامخة، ومن بين أزقة القرى وجدران المنازل التقليدية، تصدح حناجر النسوة والرجال، بأجمل الأشعار الملحّنة، التي تضفي على القرى أجواء من الفرح والبهجة، التي تلامس الروح والحياة، وتسافر بالنفوس والعقول إلى عالم الخيال..


عادات، تتكرّر مشاهدها في منطقة جرجرة خلال حفلات الزفاف، الختان، أو قدوم مولود جديد..حيث تحرص عائلات المنطقة على المشاركة في الاحتفالية التي لا تقتصر فقط على الغناء والرقص والأكل..وإنّما التعريف بالعادات والتقاليد التي تميّز منطقة جرجرة عن غيرها وتعمل على توريثها للأجيال الصاعدة..
ينتظر سكان مختلف القرى بتيزي وزو بشغف كبير هذه الاحتفاليات، حتى أنّ أبناءها من المغتربين يضبطون مواعيد زياراتهم لأهاليهم في هذه الفترة من السنة، وذلك لحضور تلك الأجواء التي تعزّز الروابط الأسرية وتقوّي العلاقات بين الأفراد، خاصّة لحظة “حنّة العروسان”، التي تجلب المودّة وتعيد العلاقات إلى مجاريها كونها تجمع شمل كلّ أفراد العائلة الذين يجتمعون حول صحن الحنّة لإتمام المراسيم الخاصّة بعائلة العريس أو عائلة العروس فقط، دون بقية المعازيم الذين يكتفون بالمشاهدة من بعيد والمشاركة في تلك الأجواء إمّا بالزغاريد بالنسبة للنسوة أو إطلاق البارود بالنسبة للرجال، قبل أن يتوجّهوا نحو “المنديل الأحمر” لوضع ما تيسّر فيه من أموال أو ما يسمى بـ«ثاوسة” بالمفهوم العامي في منطقة القبائل، وهو ما يجعل مراسيم الحنّة مميّزة ولحظاتها ممتعة.
ألحان عذبة تردّد وتنطلق من حناجر قويّة تصدح عاليا، إلى درجة أنّها تكسر هدوء الليالي العادية في باقي أيام السنة، وتصبغ القرى بألوان الفرح والبهجة التي تترجم من خلال أنغام تحاكي الحياة والروح، ليذهب الحضور بعيدا ويسافرون في عالم الخيال، كيف لا وهم يعيشون حياتهم التي تتمثل أمامهم، من خلال أشعار ملحنة تختلج الوجدان، هذه الألحان التي أعطت ميلادا لنوع من الأنواع الفنية الشعبية الأمازيغية التي يطلق عليها اسم “ثيبوغارين” والتي ترتبط ارتباطا وثيقا بالفرح والبهجة والسرور.
فنون شعبية تندثر
الحديث عن الفنّ الشعبي “ثيبوغارين” جعلنا نقترب من أهل الاختصاص ومتبنّي هذا النوع الفنّي الذين باتوا يعدّون على الأصابع، خاصّة بعد رحيل الكثيرين من النساء والرجال الذين تغنّوا به، ما أثّر سلبا على مصير أيضا العديد من الطبوع الفنية في بلادنا، وخاصّة الشعبية منها والتي توارثها الأجيال وتناقلها شفويا، فبرحيل عمداء هذه الطبوع الفنية دون التمكّن من تدوينها أدّى إلى اندثارها واختفائها من المجتمع.
إلا أنّه وبالرغم من كلّ الظروف الصعبة استطاعت وتمكّنت طبوع فنية أخرى من الاستمرار والتشبث بالحياة، خاصّة داخل بعض قرى منطقة القبائل التي تمكّن سكانها بفضل تلاحمهم من الإبقاء على العديد من العادات والتقاليد المهدّدة بالاندثار، حيث يلتقي الأجيال في ساحات القرى أو حول ضفاف الأودية والينابيع الطبيعية، لينهلوا من الموروث الشعبي القبائلي ومنه “ثيبوغارين” بدليل ظهور مواهب شابة، تبنّت هذا النوع الفنّي في منطقة القبائل.”
وأخرى تصارع من أجل البقاء
«عبد الوهاب ترمول” من قرية “ثيغليت محمود” بمعاتقة، أستاذ لغة أمازيغية وشاب في مقتبل العمر، متشبّع بالثقافة وملمّ بعادات وتقاليد منطقته التي اكتسبها من والديه الذين كانا يعتبران من بين الأسماء التي تتقن الشعر والأمثال الأمازيغية، ويتغنّيان بهذا النوع الفنّي الشعبي “ثيبوغارين”، ليغرف عبد الوهاب من بحر التجربة والمعرفة التي نقلها له والده وهو يرافقه في مختلف الحفلات والأعراس، ليرحل والديه تاركين له هذا الكنز الثقافي والموروث الشعبي الذي لا يفنى.
من هنا كانت بداية مشوار الفنّان “عبد الوهاب ترمول” في ميدان الفنّ الشعبي الذي تمتزج فيه الأشعار والأمثال باللحن الشجيّ، لتصدح به حنجرته منذ سنوات عديدة، في مختلف الأعراس والأفراح رفقة مشايخ كبار من قريته، ليشكّلوا فرقة تذغدغ وجدان الحاضرين في مختلف قرى منطقة القبائل، ومنها قريتهم الأم “ثيغليت محمود” التي لا تخلو أعراسها من مشاهد ومراسيم “الحنّة” التي ينتظر الجميع حلول موعدها من أجل الاستمتاع بتلك الأنغام الشجيّة التي تصدح بها الحناجر، مصوّرة مشاهد رائعة بين أحضان القرى القابعة بأعالي جبال جرجرة.
صرّح عبد الوهاب ترمول أنّه يحب جمال الكلمة والشعر وكلّ الطبوع الفنية الشعبية الأمازيغية التي تشتهر بها منطقة القبائل، والتي توارثوها عن الأسلاف عبر شريط الزمن الغابر، والتي ما تزال إلى غاية اليوم تتحدّى وتصارع التغيّرات والعصرنة لتحافظ على مكانتها في الثقافة والإرث الأمازيغي الذي يعدّ هوية منطقة القبائل، مشيرا إلى أنّ كلّ هذه المقوّمات والخصوصيات، جعلته من مدمني كلّ ما هو موروث ثقافي يبرز الصورة الحقيقية وجمال الحياة المعاشة في منطقة القبائل.
وأضاف بأنّه حرص على الشرب حتى الارتواء من منابع وأبار الثقافة الموجودة في جعبة كلّ من يتقنها، ليكون واحدا من آلاف الشباب المهتمّين بالمحافظة على هذا الإرث الثقافي. محدّثنا أكّد أنّ “ثيبوغارين” لا ترتبط فقط بالنساء، حيث يتغنّى به الرجال أيضا، مشيرا إلى أنّ هذا النوع الفنّي ظهر أولا عند الرجال عكس ما هو متداول عند العامة أنّه نوع فنّي مرتبط بالمرأة وفقط، بدليل ـ يقول ـ “إنّ كبار الأسماء المسجّلة في تاريخ الغناء الشعبي الأمازيغي في هذا النوع الفني هم رجال، على غرار يوسف أوقاسي، البشير فلاح، سي محند أومحند وعمار احسناو، الحسين يراثن، ولم يذكر التاريخ اسم امرأة غنّت هذا النوع قبلهما”، ليضيف “خاصّة وأنّ المجتمع القبائلي مجتمع محافظ يمنع على المرأة الخروج إلى التجمّعات في القرية أو الغناء، لهذا كان الرجال سبّاقون إلى أداء هذا النوع الفنّي الذي تغنّت به النساء فيما بعد بحناجرهنّ التي تختلف نوتاتها على الرجل الذي يتمتّع بصوت قويّ مقارنة بالمرأة، إلا أنّها أضفت عليه جمالا ورونقا آخر وأضفت عليه أشعارا وكلمات تحاكي مسار الحياة في منطقة القبائل”.
من معاتقة إلى بومرداس..
من معاتقة، بوغني وايزاروذن، بومهني، ذراع الميزان، تيزي غنيف وثيمزرث إلى حدود بومرداس، احتلّ هذا النوع الفنّي مكانة مرموقة في حياة السكان، خاصّة الرجال الذين كانوا سبّاقين لغنائه بأصوات شجية دون أيّ مرافقة للآلات الموسيقية، لينفرد هذا النوع الفنّي بصفة الغناء الشعبي الشجيّ الروحي الذي يحاكي الحياة، بأشعار ملحّنة بصوت مؤدّيها فقط دون أيّ آلة موسيقية، ليكون لحنا عذبا يسافر على نغمات أشعار شعبية مستقاة من عمق الحياة من منطقة القبائل.
فبالرغم من اختلاف المناطق إلا أنّ اللحن نفسه ولا يمكن التغيير فيه، ولكن يمكن أن يكون هناك إضافات في الكلمات، حسب ظروف الحياة المعاشة في مختلف المناطق، كما أنّها تختلف في طريقة أدائها بين الرجال والنساء، حيث تعتبر “ثيبوغارين” التي يغنّيها الرجال مفصّلة تبدأ بالصلاة على النبي “الصلية”، يليها “أزنزي الحنّة”، وهي أشعار ملحّنة تردّد عند مراسيم وضع الحنّة في يد العريس، ثم “الشكران”.
في حين “ثيبوغارين النساء” تغنّي خلالها المرأة ما يردّده الرجال عادة مع بعض الإضافات في الأشعار التي تحاكي الروح والعاطفة، الشكر، ومحبة الأم.
فالغناء الشعبي “ثيبوغارين” يختلف في الأداء بين الرجل والمرأة في اللحن القويّ والصوت الشجيّ الذي يصدح عاليا عند الرجل، كما أنّه يتميّز بعدّة ألحان موسيقية تختلف من قرية إلى أخرى ويتزاوج اللحن فيما بينها، ممّا ساعد في تناقل هذا النوع الفني الشعبي، الذي حافظ على مكانته وأخذ أبعادا كبيرة في كلّ ما تعلّق بالفرح والتي عزّزها جمال النصّ والكلمات الملحّنة.
كلمات برسائل مشفّرة
يواصل عبد الوهاب ترمول حديثه إلينا بالقول “إنّ ثيبوغارين تتميّز بنصّها القديم المتوارث من الأجداد منذ سنوات طويلة بين 1700 إلى 1800، أيّ منذ عهد الأتراك، ولم يتغيّر إلى يومنا هذا، سوى بعض التغيّرات الطفيفة التي حدثت في عهد الاستعمار الفرنسي، حيث أدخل عليه أشعار ومقتطفات حول الأحداث الحاصلة حينها”، وأضاف “فهي عبارة عن رسائل مشفّرة تمرّر من خلال لحنها وكلماتها التي تردّد على الألسن، بحكم أنّ المجتمع القبائلي يتقن لغة اللسانيات، وقد نظّم أشعارا مستوحاة من المجتمع، لدرجة أنّه أضفى عليها الطابع الفنّي”.
حنّة العرس مرآة “ثيبوغارين”
يعتبر الغناء الشعبي التقليدي “ثيبوغارين” في منطقة جرجرة نوع فنّي مقدّس من بداية التغنّي به إلى نهايته، وهو مرتبط بالأفراح وحنّة العرس، بحيث لا يمكن الاستغناء عنه في هذه الحلقة من مراسم الأعراس والأفراح بالمنطقة، حيث يتم التحضير لها من خلال شراء طاقم الفخار الخاصّ بها من صحن الحنّة، المصباح، قلّتي المياه..والذي يدخل في ممتلكات العروس بعدها وتقوم بالاحتفاظ به من أجل حفلة ختان ابنها.
طقم الحنّة يتم تجهيزه من طرف الجدّة وأم العريس أو شقيقته الكبرى، بعد أن تصل العروس إلى بيت الزوجية، تقام مراسيم الاحتفال ليلا، في ساحة كبيرة بالمنزل، على أن يحيط أفراد العائلة بالعريس أو العروس من أجل إتمام تلك المراسيم والتي تكون بحضور المعازيم والفرقة الفنية التي تردّد الأغاني الشعبية الأمازيغية “ثيبوغارين”، حيث يتمّ خلط الحنّة ووضعها في يد العريسان على تلك الأنغام الصادحة، الممزوجة بالزغاريد وطلقات البارود.
أصوات شجية..أشعار موزونة وكلمات تعبر عن الفرح والسرور، تصدح في الأفق وتسمع من مختلف المناطق.
فالفنّ الشعبي التقليدي الأمازيغي “ثيبوغارين” لا يشبه الطبوع الفنية الشعبية الأمازيغية الأخرى “اشويقن”، “احيحا”، “أذكار”، إلى جانب “اسرقص”، “ثيوزي” و«اورار نلخلاث”، فهو من الفلكور الذي يفضّل التغنّي به في مجموعات من طرف أشخاص متشبّعين بالثقافة والأشعار الجميلة، يحتاج إلى قوّة الصوت لينفجر منه لحن جميل شجيّ يلامس الروح ويحاكي نبض الحياة، فهو يستنطق الروح بلغة تترجم على شكل مشاعر مختلطة ممزوجة بالدموع والفرح.
«ثيبوغارين” لحن الحياة الذي يلامس الروح، حسب تصريحات “عبد الوهاب ترمول”، والذي أشار إلى أنّ هذا النوع الفني مهدّد بالاندثار، في حال ما لم يتم الاهتمام به وإحيائه عبر تشكيل فرقة فنية سواء نسوية أو رجالية، من شأنها أن تتبنّى وترعى هذا الفن الشجيّ الذي يتمتّع بلحن حرّ يصل عنان السماء، إلى جانب توريثه للأجيال المقبلة، وذلك للحفاظ على جمالية الموروث الثقافي الأمازيغي والذي يعتبر أحد دعائمه الذي يزيّن أفراحنا وأعراسنا، يقول المتحدّث.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19665

العدد 19665

الأحد 05 جانفي 2025
العدد 19664

العدد 19664

السبت 04 جانفي 2025
العدد 19663

العدد 19663

الخميس 02 جانفي 2025
العدد 19662

العدد 19662

الثلاثاء 31 ديسمبر 2024