الكُتّاب الحقيقيون يشبه بعضهم بعضاً، بهذه الجملة وجدتني مدفوعا لأكتب خلال قراءتي “الكتاب الأبيض” للكاتبة الكورية الجنوبية هان كانغ التي فازت بجائزة نوبل لهذا العام..
لم أترقّب الإعلان عن الفائز هذا العام، لفقدان شهيتي لأيّ شيء، بعد أن صرت أشعر أنّ فكّي الكماشة للوحش تطبق علينا كلّنا، نحن الفلسطينيين، وتمتد لتقضم بعض الجغرافيا والبشر في لبنان.. إحساس مرعب بعدم جدوى الثقافة والأدب والفن، والحياة ذاتها. فكيف أهتمّ إذاً لنوبل ولجوائزها.
قبل أن تسحبني موجة نوبل الأدبية إلى لجتها، تابعت الاهتمام بنوبل للسلام، في عزّ الإبادة والوحشية، يرشّحوننا لجائزة نوبل للسلام، أيّ نكتة سمجة هذه؟! لو وفّروا لنا أجواء هادئة لنعيش بسلام أفضل مليون مرة من ترشيح أحدنا لنيل جائزة لا تجدي نفعا الآن في هذا السياق الغريب الغبيّ.
ضحكوا علينا مرّة بها عندما تقاسمها عرفات ورابين؛ الضحية والجلاد، رابين يفوز بنوبل للسلام، وهو أحد أعمدة الاستعمار والاحتلال والاستيطان والاحتيال والمراوغة، وصاحب سياسية تكسير العظام في الانتفاضة الأولى (1987- 1993)، وصاحب أكبر آسر للفلسطينيين في تاريخ فلسطين، ولم يتفوّق عليه إلا صاحب هذه المجزرة، هذا المرشّح الفائز بالجائزة لم يحترم آدميتنا وإنسانيتنا تحوّله الجائزة إلى رجل سلام! لكم أن تتخيلوا بعد عامين أو ثلاثة عندما يجنح “الغول الصهيوني” للسلام ويعقد معنا اتفاقية مرحلية شبيهة بأسلو، ويصبح الغول “رجل سلام” مثل رابين، بعد أن دمّر وقتل وعذّب مئات الآلاف من الناس في فلسطين ولبنان واليمن وإيران والعراق.
لهذا وذاك، لم أحفل بنوبل هذا العام، وعلى أيّة حال، أخذتني الأخبار قليلا نحو نوبل للآداب، وشجّعني على بعض الاهتمام بالجائزة عدّة أسباب، أوّلها وأهمّها أنّ الفائزة آسيوية من كوريا الجنوبية، امرأة، تكتب ذاتها بعفوية، ليس ركونا بما جاء في بيان الفوز الذي عزا فوزها “لنثرها الشعري المكثف الذي يواجه الصدمات التاريخية ويكشف هشاشة الحياة البشرية”. بل لأنّني سأكتشف بنفسي هذا الحكم عندما سأقرأ في اليوم التالي لفوزها كتابها الأبيض، وأقرأ شيئا ممّا كتبه الأصدقاء عنها ممّن يعرفون كتاباتها.
أحد التقارير الصحفية أشار إلى أنّ هان كانغ هي المرأة السابعة عشرة التي تفوز بنوبل، وأحد المدوّنين كتب أنّ فوزها انتصار لقصيدة النثر، وآخر يشمت بأدونيس ويعلّق.. “ولك ألو...” هذه الجملة الشعبوية الساخرة التي تصاحب كثيرا من الفيديوهات القصيرة التي تجسّد أفكاراً ومواقف طريفة. لم يحفل أحد هذا العام بأدونيس، ولم ألاحظ اهتماما به، وكأنّه لم يدخل إلى سؤال المثقف العربي التقليدي السنوي: وماذا عن أدونيس؟ خرج من نوبل، ومن سؤال التوقّع، وصار هامشياً!
المهمّ بالنسبة لي هو اطّلاعي - ككلّ عام - على كاتب أو كاتبة لم يكن من ضمن معرفتي المتواضعة. ما أكثر الكتاب! إحدى مقدّمات البرامج الثقافية في فضائية عربية تسارع بنوع من الافتخار أنّها تعرف هان كانغ وأنّها كتبت عنها مقالا منذ سنوات، تدرج على صفحتها في الفيسبوك مقالتها عن رواية كانغ “النباتية”، المقال يلخّص الرواية، ولا يحلّلها، قصير، صحفي، لكنّه مفيد في تقديم فكرة عن الرواية التي ترجمها إلى العربية عن الكورية محمود عبد الغفار، تقع الرواية في حدود (220) صفحة، من حسن الحظ أنّ هذه الرواية متوفرة بنسخة إلكترونية على الإنترنت، مثل “الكتاب الأبيض” وكذلك روايتها “أفعال بشرية” وترجمها عن الكورية محمد نجيب، وتقع في حدود (360) صفحة. لا يوجد لها كتاب شعر مترجم، أم أنّ نثرها فيه سمات شعرية. كتب أحدهم أنّها تكتب الشعر، لم أتوصّل إلى شعرها، عدا بعض الأسطر التي تطعّم بها كتابها الأبيض.
الكتاب الأبيض، كتاب خفيف الدم، للوهلة الأولى، ترجمه عن الكورية أيضا محمد نجيب، يقع في حوالي (100) صفحة. وبعد ذلك يشتمل على حوار أجري مع الكاتبة نشر في الغارديان، ديسمبر 2017 حول الكتاب، هذا الكتاب ليس رواية، وليس سيرة ذاتية، وليس قصيدة نثر، وليس قصصا قصيرة، لكنّه سرد عن موت الأخت الكبرى التي فارقت الحياة بعد ساعتين من ولادتها.
تقوم الفكرة على الانتباه للون الأبيض في أشياء كثيرة، تذكرها في بداية الكتاب، تبدأ بالقماط الذي هو قماط الطفلة، وتنتهي بالكفن الذي هو كفن الطفلة، وما بين القماط والكفن تسرد بقطع نثرية قصيرة عن أشياء بيضاء كثيرة، فيها الصمت والموت والسكون والخوف. كيف استطاعت أن تجمع كلّ هذا البياض من حولها وتعيد تشكيله لتمتصّ منه فكرة الموت والألم والصمت؟
الكتاب إذن، أشبه بتأمّلات وخواطر إنسانية فيما يجري حولنا، أشياؤنا التي تشاركنا الزمان والمكان ونعدّها تافهة هامشية تقول الشيء الكثير، الكتاب يُقرأ في جلسة واحدة، لكن لن يجعلك سعيداً، سيشيع في النفس أجواء من الكآبة والحزن التي تتحدّث عنها الكاتبة، ستشعر بالبرد من ذلك الثلج والجليد المتراكم في النصوص والشذرات السردية، سيعود إليك سؤال الحياة والموت مجدّدا على وقع جملتها الصادمة: “حياتي تعني أنّ حياتك مستحيلة”، إذ تفسّر فيها كيف أنّها أصبحت موجودة لأنّ أختها التي سبقتها في الميلاد ماتت، فلو عاشت أختها لما فكّر والدها بإنجابها. هل تعدّ ذلك الكاتبة فرصة أم مأساة؟ سؤال متأرجح، وبقي الأمر يقلقها كما أقلق رحيل الطفلة الأم التي لم تستطع نسيان تلك الطفلة التي شبّهتها بأنّها “كعكة أرز على شكل هلال”.
لم أستطع أن أجعل هذه الجملة في سياقها من الحديث الحميم العائلي. فكرت بتطبيقها على هذا الذي نحن فيه؛ هل يفكّر الوحش الفاغر فاه يلتهم لحمنا بهذه الجملة أو لعلّه يطبقها، فقرر أن يبيدنا عن آخرنا؟ سنة كاملة وهو يقول بصورة سياسية وواقعية للعالم أنّ “حياته تعني أنّ حياتنا مستحيلة” يجب أن يُقضى علينا ليظلّ حيّاً. هذا الهاجس الوجودي عند هان، تحوّل إلى كابوس وجودي عندنا وعنده، لذلك يصرّ على القتل والتدمير بوحشية متناهية، تُعجز الإنسان السويّ عن التصوّر.
ليست هذه الفكرة الوحيدة التي جعلتني أنقل المشهد من داخل “الكتاب الأبيض” وأحرّره لأرى من خلاله الواقع بكلّ ما فيه من موت، وتدمير، وبياض! تتحدّث الكاتبة عن “المدينة البيضاء”- لعلّها تقصد ليننغراد- التي وقف سكانها في وجه الجيش النازي “وطردوا الجنود الألمان منها في سبتمبر 1944، وشكّلوا حكومة من المدنيين لتحكم المدينة لمدّة شهر، قبل أن يقرّر هتلر أن يمحو المدينة من الوجود بين ليلة وضحاها كي يجعلها مثالا وعبرة”.
غزّة أصبحت هذه المدينة البيضاء التي دمّرها النازيون الجدد على رؤوس ساكنيها، وما زال يدمّر فيها، ولم يكتفِ بل جعل منها مثالاً يرعب فيه كلّ من يقف في وجهه، فهدّد بيروت بجعلها “غزّة ثانية” إن لم تلذ بالصمت وتسكت عمّا يجري في مدينتا البيضاء الذي حوّل جمالها إلى ركام.
في واحد من المقالات التي قرأتها صباحاً، هذا النهار، نهار الجمعة (11/10/2024) لكاتبة من غزّة تقارن فيه بين غزّة الجميلة وبين غيرها من المدن، مدينة كانت رغم الحصار بيضاء ناصعة تضجّ بالحياة، جاء الوحش بأبيضه فجللها بالضباب والركام وأغرقها في الظلام والحزن والدم والموت والصمت. كم تتشابه الأحداث والمدن، وكم يتشابه المجرمون، ولو كانوا أعداء في الأصل، إلا أنّ نزعة التوحّش التي تجاوزت نزعة التطرف تجمع كلّ المجرمين في أنحاء العالم وعلى مرّ التاريخ، فيرون مثل هتلر مثل إيفان الرهيب، مثل “هذا الوحش” الذي تقتات كلابه المرقطة على لحمنا الحي الأبيض الجميل.
هذا هو “الكتاب الأبيض” على الرغم من إشاعته أجواء من الحزن الإنساني العميق، لتصحو كلّ مشاعر البؤس والضياع، كتاب يهزّ شيئا فينا، لأنّه يتحدّث ببساطة، ومباشرة، دون مقدّمات، ودون بلاغة واستعارات ومجازات، يسمي الأشياء بأسمائها، لا يتحذلق، ولا يتشدّق، إنّما تتحدّث كاتبته كما يتحدّث الموجوع الذي يريد أن يسرد مأساته الشخصية على طريقته لعلّ شخصا ما يسمعه أو يقرأه. لهذا فالكتاب يبني جسرا من اللغة بين هذا الكم الهائل من البياض الذي لم يعد فراغا، وبين القراء، لتنتقل الحادثة الشخصية إلى حادثة إنسانية عامة، وليصبح الفرديّ جماعيا في لحظة ما.
مسألة أخرى شخصية جعلتني أنتبه إلى هذا الأبيض من حولي، فأسترجع تلك النصوص التي ذكرت فيها الأبيض. نصّ قديم سوداوي بعنوان “عندما يكون الحزن أبيض” وصفت فيه الحزن بأنّه “أبيض مثل العدم”، وأنهيه بهذين السطرين: “فإلى متى سيظلّ ليلي مثل حزني/ ألأنْ رضعت غمامة حزنك الأبيض؟” (ما يشبه الرثاء، ص 82)
إضافة إلى هذا النص أسترجع قصيدة “الحجر الصغير” للشاعر اللبناني إيليا أبو ماضي، وهو يتحدّث عن “المدينة البيضاء” التي غرقت في المياه نتيجة تخلي “الحجر الصغير” عن مكانه في السدّ، لينهيها بهذين البيتين:
وَهَوى مِن مَكانِهِ وَهوَ يَشكو الأرضَ وَالشُهبَ وَالدُجى وَالسَماءَ
فَتَحَ الفَجرُ جَفنَهُ فَإِذا الطوفانُ يَغشى المَدينَةَ البَيضاءَ
إنّ لهذين البيتين معنى سياقيا آخر خارج قصيدة أبي ماضي الرمزية القصصية، فمدينتنا البيضاء أيضا غرقت في الطوفان والحزن والموت والدماء، وهي كتلك المدينة التي دمّرها هتلر عام 1944، وما أشبه اليوم بالبارحة، وما أشدّ تشابه الكتّاب أيضا بعضهم ببعض!