صدرت رواية “النباتية” (La végétarienne) عام 2007، في ثلاثة أجزاء، وتحصّلت على جائزة “مان بوكر” عام 2016، لتترجم إلى العربية، عام 2018. تعميما للفائدة، ننشر هذه المقاطع من الرواية، للتعرّف على أسلوب هان كانغ في الكتابة السردية، والاقتراب أكثر من عوالمها التي وصفتها الأكاديمية السويدية بأنّها تمثل “الهشاشة الإنسانية”، وقالت إن كانغ “مبتكرة في النثر المعاصر” بحكم شاعرية النثر التي يتمتّع بها أسلوبها.. يجب أن نسجّل أنّ الترجمة يمكن أن تسلب اللّغة الأصلية قوّتها التعبيرية، ولكن روح التأليف يبقى حاضرا في ثنايا الكتابة.. قراءة ممتعة..
فور استيقاظي صباح اليوم التالي عندما لم يكن الواقع قد تمكّن بعدُ من فرض حقائقه الاعتيادية، بقيت لدقائق قليلة راقدا ملتفّا باللّحاف، شارد الذهن، أتأمّل أشعّة شمس الشتاء تتسرّب إلى الغرفة عبر الستارة البيضاء.
وأنا في ذلك الوضع التجريدي، حدّقت إلى ساعة الحائط، ووثبت من مكاني فور رؤية الوقت . دفعت الباب وأسرعت خارجا من الغرفة، بينما كانت زوجتي تقف أمام الثلاجة.
هل جننت؟ لماذا لم توقظيني؟ كم الساعة....
انسحق شيء تحت قدمي، فأوقفني في وسط الكلام، ولم أصدّق عيني. كانت لا تزال ترتدي ملابس النوم، شعرها متشابك أشعث، كتلة عديمة الشكل حول وجهها، وأرضية المطبخ من حولها مغطاة بأكياس بلاستيك وحاويات محكمة الغلق مبعثرة في كلّ الأرجاء. حتى إنّه لم تكن هناك بقعة أضع فيها قدمي من دون أن أطأها. لحم الشابو شابو، قطعتان من لحم عظم الساق الأسود، بعض الحبار في أكياس مفرغة من الهواء، شرائح من ثعابين الماء أرسلتها حماتي من الريف منذ فترة طويلة، سمك اللوت المجفّف المربوط بخيط أصفر، أكياس لم تفتح لزلابية مجمّدة، وحزم من أشياء مجهولة مسحوبة من عمق الثلاجة. سمعت صوت حفيف، فزوجتي كانت تضع الأشياء التي حولها واحدا تلو الآخر في أكياس قمامة سوداء كبيرة.
”ماذا تفعلين الآن؟”.
أخيرًا، لم أستطع أن أتمالك نفسي، بينما ظلت تضع أكياس اللحم في أكياس القمامة. وقد بدا أنّها لم تلاحظ وجودي أكثر ممّا لاحظته ليلة أمس.
لحم بقر وقطع دجاج، ولحم ثعبان ماء مالح يساوي مئتي ألف وون على أقلّ تقدير.
”هل فقدت رشدك.. لماذا ترمين كلّ هذه الأشياء؟”.
بسبب العجلة، تعثرتُ في طريقي إليها بأكياس البلاستيك. شددتها من معصمها محاولا انتزاع الأكياس من قبضتها، فأذهلتني شراستها في مقاومتي.. ترنَّحتُ وهلة، لكن غضبي مدّني على الفور بقوة فاقت قوّتها.
دلكتْ معصمها المحمّر، وتكلّمتْ بنغمة صوتها المعتادة التي تكلّمت بها من قبل:
”رأيت حلما”..
تلك الكلمات مرة أخرى! كان تعبير وجهها حين نظرت إليَّ هادئا تماما، وفي تلك اللحظة رنّ هاتفي.
”تبّا”..
بدأت أبحث عن الهاتف في جيوب معطفي الذي ألقيته على أريكة غرفة المعيشة، مساء أمس، وفي النهاية التفت أصابعي حول ذلك الهاتف المتمرّد في الجيب الأخير.
«أنا آسف. حدث أمر عائلي طارئ.. أنا آسف جدّا. سأكون هناك بأسرع ما يمكن. لا، لا، سأغادر.. حالا. قليلا ... لا، لا عليك. انتظر قليلا من فضلك. أنا آسف حقّا. نعم، ليس لديّ ما يُقال”..
طويت هاتفي لأغلقه، واندفعت إلى الحمام حيث حلقتُ ذقني بسرعة، فجرحت نفسي في موضعين.
”ألم تكوي القميص الأبيض؟”.
لم يأت أيّ ردّ منها. رششت الماء على وجهي، ونقبتُ في سلّة الغسيل بحثا عن قميص الأمس، ولحسن الحظ لم يكن مجعّدا كثيرا. أمّا زوجتي فلم تشغل بالها بأن تلقي عليّ مجرّد نظرة من المطبخ في أثناء الوقت الذي كنتُ أستعدّ فيه. رميت رباط العنق على رقبتي كوشاح، وارتديت جوربي، وأخذتُ حاسوبي ومحفظتي. كانت تلك المرة الأولى خلال سنوات زواجي الخمس التي أذهب فيها إلى العمل من دون أن تناولني زوجتي أشيائي وتودّعني.
”أنت مجنونة! فقدت عقلك تماما!”.
حشرت قدميّ في حذائي الذي اشتريته مؤخرًا، وكان ضيّقا وضاغطاً على نحو غير مريح، ومندفعا فتحت باب الشقة وخرجت. تحقّقت إن كان المصعد متجها إلى أعلى طابق في المبنى، ثم هرولت نازلا من الطابق الثالث. لأول مرة تمكّنت من اللحاق بالمترو لحظة مغادرته. نظرت إلى وجهي المنعكس على زجاج العربة المظلم، وصفَّفت شعري بيدي، وارتديت رباط العنق، وحاولت هندمة تجعيدات قميصي بينما يشغل مخيّلتي وجه زوجتي الهادئ بشكل غير طبيعي وصوتها الصارم غير اللائق!
رأيت حلما! قالتها زوجتي مرتين، وقد لاح وجهها في ظلام النفق وراء النافذة، وجه غريب لشخص كأنّي أراه للمرة الأولى. على أيّ حال، كانت لدي ثلاثون دقيقةً أختلق خلالها عذرًا للعميل لتبرير تأخّري، ولأضع مسودّة مقترحة لمقابلة اليوم أيضًا. ولم يكن لديّ وقت لأفكّر في ذلك السلوك العجيب لزوجتي الغريبة. قلت لنفسي إنّه عليّ أن أغادر المكتب مبكّرا اليوم بشكل أو بآخر، فلم يكن يروقني أنّ عدة شهور قد انقضت منذ انتقلت إلى موقعي الجديد من دون أن أغادر قبل منتصف الليل ولو مرة واحدة!
ثم إنّني شحذت همّتي للمواجهة.
^^^
غابة مظلمة، ولا أحد هناك. أوراق الأشجار مدبّبة حادّة، وقدمي مشقوقة. بالكاد تذكّرت هذا المكان، لكنّي تائهة الآن، مرعوبة، أحسّ بالبرد، وعبر الوادي المتجمّد أرى مبنى لامعا يبدو ككوخ، وحصيرة من القش تنسدل مرتخية على الباب. لففتها إلى أعلى ودخلت.
في الداخل كانت عصا طويلة من البامبو، ملطخة بدماء غزيرة تقطر منها وتتناثر قطع من اللحم. أحاول أن أتراجع إلى الوراء، لكن اللحم لا نهاية له وليس هناك مخرج. الدماء تملأ فمي، وتتشربها ثيابي حتى تنفذ منها إلى مسامي.
لا أدري كيف لاح مخرج.. أركض وأركض عبر الوادي، وفجأة تنفتح الغابة. الأشجار كثيفة الأوراق، ينيرها ضوء الربيع الأخضر. العائلات تتنزه، وأطفال يمرحون، وتلك الرائحة الشهية.
اللغة تعجز عن وصف المشهد خرير ماء الجدول، والناس يبسطون الحصر ليجلسوا، ويتناولون “الكمباب” ويشوون اللحم بينما تتعالى أصوات الغناء والضحكات المبهجة!
وعلى الرغم من ذلك، كنتُ مذعورة، فلا تزال الدماء تلوّث ثيابي. أقبع مختبئة وراء الأشجار كي لا يراني أحد. يداي ملطّختان بالدم، فمي ملطخ بالدم. ما الذي أكلته في ذلك الكوخ؟ دفعت الكتلة الحمراء النيئة داخل فمي، وشعرت بانسحاقها على لثتي بينما يلمع سقف حلقي بدم قرمزي!
أمضغ شيئًا بدا حقيقيا، لكنّه لم يكن كذلك! وجهي، ونظرة عيني.. هو وجهي من دون شكّ، لكنّي لم أره من قبل، أو لعلّه ليس وجهي، لكنّه مألوف جدّا.. لا أستطيع أن أفسّر. مألوف وغريب في آن واحد... ذلك الشعور الحيّ الغريب العجيب المخيف!
^^^
وضعت زوجتي على المائدة الخسّ وصلصة فول الصويا وحساء فول الطحالب البسيط، لكن من دون اللحم البقري المعتاد أو المحار مع “الكمتشي”.
«ما خطبك؟ أبسبب حلم سخيف تتخلّصين من اللحوم كلّها؟ بحقّ السماء، هل تدرين كم ثمنها؟”.
نهضت وفتحت الثلاجة. كانت فارغة بالفعل؛ لا شيء إلا مسحوق الحبوب، ومسحوق الفلفل الحار، وفلفل طازج مجمّد، وكيس ثوم مفروم!
”اقلي بعض البيض، أنا متعب اليوم، ولم أتناول غداء مشبعا”.
”لقد رميت البيض”.
”ماذا؟”.
”والحليب أيضا”..
لا أصدق هذا! أتطلبين مني أن أتوقّف عن أكل اللّحوم؟”.
”لم أتحمّل بقاء تلك الأشياء في الثلاجة، لن يكون ذلك مقبولا”.
كيف تسنّى لها أن تكون أنانية إلى هذا الحدّ بحقّ السماء؟ تطلّعت إلى عينيها اللتين خفضتهما أرضًا، إلى هدوئها ورباطة جأشها، إلى حقيقة وجود ذلك الوجه الآخر لها، وقد فعلت ما يسعدها هي فقط بمنتهى الأنانية.. كنت مذهولا فمن كان يتخيّل أنّها قد تتصرف بطريقة غير معقولة إلى هذه الدرجة!
”تقولين، إذن، إنّه من الآن فصاعدا لن يؤكل اللّحم في هذا البيت؟”.
”عادة ما تتناول فطورك فقط في المنزل على كلّ حال، ويُفترض أنّك غالبا تأكل اللّحم على الغداء والعشاء، فلن تموت لأنّك لم تأكل وجبة واحدة بلا لحم!”.
كان ردّ زوجتي معقولا، كما لو أنّ قرارها السخيف هذا منطقي ولائق تماما!
«حسنا، سأتدبّر أمري، لكن ماذا عنك أنتِ؟ ألن تأكلي اللّحم ثانية؟ .
أومأت برأسها مؤكّدة!
”حقّا، إلى متى؟”.
”.. إلى الأبد”..
لم أجد ما يُقال كنتُ على دراية بأنّ اختيار الحمية النباتية لم يعد أمرا نادرًا كما كان في الماضي، فهناك من الناس من يرغب في التمتع بالصحة والعيش طويلا، أو يريد أن يتغلب على حساسيات معينة مثلا، أو يرى في المسألة حميمية أكثر تجاه البيئة. وبالطبع، هناك الرهبان البوذيون الذين قطعوا على أنفسهم وعودًا تلزمهم - أخلاقيا - بألاّ يشاركوا في تدمير البيئة، لكن المؤكّد أنّ الشابات المرهفات لا يُقبلن على الأمر إلى هذا الحدّ، على حدّ علمي، السبب العقلاني وراء تغير العادات الغذائية هو إما الرغبة في إنقاص الوزن، أو محاولة تخفيف وطأة وعكة صحية، أو أنّه مسّ من روح شريرة، أو الخوف من الأرق نتيجة لعسر الهضم. أما أيّ حالة أخرى، فليست إلا عنادًا مقزّزا من زوجة تجاه رغبات زوجها كما في حالتي!.
لو كان قد قيل من البداية إنّ زوجتي تعاني من اشمئزاز بسيط من اللّحوم، لتفهّمت الأمر، لكن من قبل أن نتزوج وهي تقول إنّها تحب الطعام. وكنتُ معجبا بطريقتها في الطهي. ملقط في يد، ومقصّ كبير في الثانية، وتقلب ضلعا من اللّحم في المقلاة، بينما تقصّه إلى قطع متساوية بحركات تشي بالمهارة والخبرة. طريقتها في تحضير لحم مقلي جيدا برائحته الفوّاحة بسبب نقعها له في الخلّ والزنجبيل المفروم مع محلول النشاء المركّز. طبقها المميّز من شرائح اللّحم الرقيقة المتبّلة بالفلفل الأسود وزيت السمسم التي تُدهن بعد ذلك جيدا بمسحوق الأرز اللزج كما في كعكة الأرز أو الزلابية - ثم توضع في حساء “الشابو شابو”. كما كانت تطبخ “البيبمباب” مع براعم الفول واللّحم المفروم والأرز الذي سبق نقعه ثم تحميره في زيت السمسم، ومعه أيضًا حساء الدجاج أو البط الدسم مع قطع البطاطا الكبيرة، وحساء حار من المحار الطري وبلح البحر. كنت قادرًا على التهام ثلاث حصص من الطعام في المرة الواحدة.
والآن كانت زوجتي تضع على مائدة الطعام ما لا يعجبني. سحبت كرسيّها إلى الوراء على شكل زاوية، وصبّت بالمغرفة القليل من حساء الطحالب الذي لم يبد لذيذا بالمرة، ثم وضعت القليل من صلصة فول الصويا على الأرز، ولفته في ورقة الخسّ، ووضعت اللّفافة في فمها وشرعت تمضغها ببطء.
خطر لي فجأة أنّني لم أعد أدري شيئًا، لا أفهم أيّ شيء يتعلّق بهذه المرأة.
”ألن تأكل؟”
سألتني بذهن شارد، كما لو أنّها امرأة في منتصف العمر تخاطب ابنها الناضج، بينما بقيت جالسًا بصمت، لا أجد في نفسي إقبالا على تناول هذه الوجبة الفقيرة، فيما يتعالى صوت مضغ “الكيمتشي” الذي راحت تمضغه لفترة طويلة.