اهتم الكاتب وعالم الاجتماع رشيد سيدي بومدين بعلاقة سكان مدينة الجزائر بالعمارة في مؤلفه الجديد «سيراميك مدينة الجزائر» الصادر عن منشورات «أناب»، وركّز على وجه الخصوص على شغف سكان هذه المدينة في القرنين الـ 17 و19 بالعمران، وطرق تزيين بيوتهم وقصورهم.
جال الكاتب المولع بالتراث والذي قادته أبحاثه ومناصبه إلى الغوص في أسرار وخفايا هذه العلاقة المميزة بين أهالي المدينة، خاصة القصبة بالعمارة والديكورات الداخلية لسكناتهم التي تميّزها الأفنية، أي «وسط الدار» في تعبير الجزائريين، وأفرد الكاتب الجانب الأكبر من عمله لتاريخ مربعات السيراميك التي تعرف هنا بـ «الزليج»، وهي تلك المربعات المصنوعة من السيراميك التي تزين بها البيوت والقصور والمعالم الأخرى.
«الزليج» ديكور البيوت الجزائرية
تعمّق الكاتب مع أنّه ليس له علاقة مع هذه الحرفة في تقديم هذه المربعات للقارئ، حيث وصف أشكالها وتقنيات صنعها ومختلف الأشكال والرسومات التي تميزها، كما تطرّق كذلك لبلدان منشائها وطرق وصولها إلى مدينة الجزائر لتصبح جزءا من ديكورها ومن حياة سكانها.
وتحدّث الباحث بحنين وبإسهاب عن تاريخ تلك المربعات «العجيبة» التي تشكّل بلاط البيوت القديمة والمعروفة لدى لسكانها بـ ‘’الزليج»، الذي لا تخلو من حضوره الديكورات الداخلية للبيوت ومحيطها المباشر.
وتطرّق سيدي بومدين الباحث العارف بخبايا المعمار والتراث إلى مسائل أخرى تتعلق بالعلاقات السياسية والتجارية في تلك الفترة، التي كان فيها للغرب عين على الضفة الجنوبية من المتوسط.
وقدّم هذا الباحث الشغوف بالتراث وفن العمارة للقارئ من خلال هذه الرحلة الممتعة عبر الزمن والمكان معلومات دقيقة ومفصلة عن هذه المربعات، التي تقوم على فكرة التناظر وتحمل رسومات مختلفة بعضها مستمد من الطبيعة (الأزهار المختلفة والنباتات)، وأخرى مستلهمة من الفن الاسلامي، كما تحمل بعضها كلمات ذات دلالات دينية (الله والبسملة)، وذلك نزولا عند رغبة الزبائن المحليين، لأن هذه المربعات كانت في ذلك الزمن تستورد من ايطاليا واسبانيا وتركيا وحتى من تونس.
واعتبر الكاتب أنّ هذا الزليج الذي ما زال حاضرا في البيوت والمعالم القديمة للمدينة، يعطي أيضا فكرة عن المستوى الاقتصادي لأصحابها، وكان من بينهم الرياس وكبار البحارة الذي كانوا يستوردون الأجود منها.
وتساءل في سياق آخر عن سبب عزوف الحرفيين المحليين رغم كفاءتهم عن ممارسة هذه الحرفة، التي كانت منتشرة في المنطقة في وقت سابق، مذكرا أنّ هذه الحرف الخاصة بالسيراميك كانت منتشرة في الشرق في تركيا، وحتى في الصين قبل أن تصل إلى الغرب.
ومن بين المسائل الأخرى التي توقف عندها المؤلف تلك المكانة الهامة التي كانت تحظى بها هذه المربعات التي تستورد من مناطق بعيدة في العمارة المحلية وفي حياة الجزائريين.
استنطاق المادة الجامدة
سعى الباحث في هذا العمل الى استنطاق هذه المادة الجامدة التي أصبحت مع شغف العاصمين بها ظاهرة تحتاج إلى الدراسة وشواهد قائمة، تروي أسرار تلك الفترة من تاريخ مدينة الجزائر.
وقد تابع سيدي بومدين في بحثه المسالك التي اتخذتها هذه المربعات لتستقر في آخر المطاف في مدينة الجزائر، وتصبح جزءاً من حياة سكانها وقطعة أساسية هامة في تاريخ عمارتها، وهذا ما أكّده أيضا المؤرخ والباحث في التراث عبد الرحمن خليفة في مقدمة الكتاب التي وقعها، مشيرا إلى أنّ الكاتب لم يكتف بتقديم معلومات تقنية عن هذا البلاط، وإنما سعى إلى تبيان دمجها في تزيين سكنات وقصور المدينة في تلك الفترة الممتدة من القرن الـ17 وإلى غاية 19.
يرافق القارئ رشيد سيدي بومدين في هذه الجولة الممتعة عبر الزمن إلى أزقة وأحياء العاصمة العتيقة، ويكتشف مع السطور أنّ اهتمام الكاتب بتاريخ القصبة وضواحيها يعود إلى أيام طفولته، حيث فتح عينيه في حي المدنية العريق في منزل عائلي شبيه لدويرات القصبة في تصميمها وديكوراتها وبلاطها، وتشبع مخيله بمعاني الجمال والأصالة التي تسكن هذه المباني التي تشبه في تفاصلها البيوت القديمة في مدن جزائرية أخرى مثل بجاية وغرداية.
شغل رشيد سيدي بومدين عدّة وظائف كمسؤول، وأيضا كخبير في أجهزة خاصة بالعمران منها اللجنة الدائمة للدراسات في التنمية، وتنظيم وتهيئة مقاطعة الجزائر العاصمة ووكالة العمران للجزائر العاصمة، وبعد تقاعده عمل مع اليونسكو، كما أشرف على دراسات على مستوى مركز البحوث في الاقتصاد التطبيقي، واشتغل أيضا مستشارا لدى هيئات عمومية وخاصة، وخصّص بعد ذلك جهوده للكتاب في التراث الجزائري.