من أجل ابتكار بيئة لغوية فصيحة وسليمة

تشجيع المطالعـة وتعميـم الاستعمـال في المعامـلات اليوميـة

معسكر: أم الخير - س

 اعتبر مدير مختبر اللسانيات العربية وتحليل النصوص بجامعة معسكر، الدكتور حبيب بوزوادة، المطالعة سبيلا لتحسين الأداء اللغوي، أمام الجهود والمساعي التي تُبذل لترقية اللغة العربية، وحفظها من التأثيرات والانعكاسات السلبية للعولمة والمد التكنولوجي، ومقابل الزخم الاجتماعي والثقافي الحديث والقوي، الذي أدى إلى انتشار لغات أجنبية بعضها يقل أهمية عن اللغة العربية من حيث الجمالية واتساع مجال استعمالها.


قال الدكتور حبيب بوزوادة، إن الكثير من المهتمين باللغة العربية، يعتقدون أنّ تحسين أداء المتعلمين يمر عبر دروس قواعد اللغة وحفظها، ومعرفة شذوذها وأطّرادها، فيلزمونهم يوم الامتحان بتأكيد هذا الحفظ وذلك الإتقان، مشيرا إلى أنّ هذه الطريقة ما تزال جارية منذ عقود في مدارسنا الجزائرية، ظنا منا أننا نقدّم خدمة جليلة للغة العربية، غير أنّ هذا الظن سرعان ما يخيب عندما نلتفت إلى الوضع المزري للواقع اللغوي عندنا، على ألسنة طلابنا ومتعلمينا، فضلاً عن بعض الإعلاميين والسياسيين والمشاهير على وسائل الإعلام المختلفة.
العامية تهيمن على الألسن وخطابات التّواصل اليومية
 تدريس اللغة العربية في مدارسنا، وحتى في الكليات المتخصّصة - يقول الدكتور بوزوادة - لا ينتج طلاباً يتقنون لغتهم ويحسنون أداءها، مثلما يشهد الواقع بذلك، «لأنّنا ندرس اللغة العربية كأنها لغة التخاطب اليومي، وهذا غير صحيح في ظل هيمنة اللهجة العامية على الألسنة، حتى أضحت عائقاً حقيقياً أمام تعلّم اللغة العربية بالشكل المطلوب»، مضيفا «خصوصا عندما تصبح هذه العامية المثقلة بالمفردات الأجنبية حاضرة في وسائل الإعلام، على ألسنة المحللين والمحاورين ومن يسمون اليوم المؤثرين، وأشار إلى أن العامية باتت لغة التواصل الأساسية في المؤسسات التعليمية، فيستخدمها المديرون والإداريون والمستشارون، وحتى مدرّسو بعض المواد العلمية والفنية والرياضة البدنية، لذلك يجد مدرس اللغة العربية نفسه في ورطة وهو يحاول ـ باستماتة - تقويم ألسنة طلابه، وتهذيب منطوقهم، وصيانته من اللحن، وتطهيره من الرطانة.
واعتبر مدير مختبر اللسانيات العربية بجامعة معسكر، التركيز على دروس النحو والصرف والبلاغة والعروض ونحوها من علوم اللغة خيار محدود الجدوى لتحسين الأداء اللغوي، لا ينتج متكلما فصيحا ولا متحدّثا بليغا، مشيرا إلى أن صناعة الكلام متعلقة بالسماع، الذي اعتبره ابن خلدون (أبا الملكات اللّسانيّة)، وقال «الذي يعيش في وسطٍ يسمع فيه العبارة الفصيحة، والأشعار المليحة، والخطب البليغة، والقصص ذات النسج العالي، لا شك في أنه سيتشرّب تلك النصوص، وتتشكّل على منوالها قريحته، وتتهذب على مثالها ذائقته ـ يضيف المتحدث ـ قديماً كان العرب يرسلون أبناءهم للبادية لكي يقيموا ألسنتهم، ويندمجوا في مجتمع يستعمل اللغة بشكلها الصحيح، وهو ما أطلق عليه المعاصرون اسم الانغماس اللغوي (Language Immersion) الذي يقوم على خلق البيئة اللغوية الملائمة التي توفّر التلقي الجيد للغة العربية، مثلما أكّده عالم اللسانيات الجزائري عبد الرحمن حاج صالح بقوله: «فمن أراد أن يتعلّم لغة من اللغات فلا بد أن يعيشها، وأن يعيشها هي وحدها لمدّة معيّنة، فلا يسمع غيرها، ولا ينطق بغيرها، وأن ينغمس في بحر أصواتها لمدة كافية لتظهر هذه الملكة»، قائلا بأنّ دليل هذا الطرح ما نلمسه حالياً من شبابنا المهاجر إلى البلدان الأوربية، حيث يتمكّن في بضع سنوات من إتقان لغة البلد الأوروبي بدون أيّ معلّم سوى مخالطة أهله، والانغماس في بيئتهم اللغوية.
وعلى ضوء ذلك، أكّد الدكتور حبيب بوزوادة، أن مساعي التطوع اللغوي بمفهومه الواسع والدقيق عملت على تطوير اللغة العربية، ولابد أن ترتكز على تشجيع المطالعة من أجل خلق بيئة لغوية فصيحة وسلمية وجميلة أيضاً، من خلال توجيه التلاميذ إلى النصوص التي تلائم ذوقهم، وتراعي سنّهم، وتتناسب مع تطلّعاتهم وأحلامهم، ليقرؤوها بينهم، ويتفاعلوا معها بإيجابية، مبرزا في سياق حديثه أنّ سوء اختيار النصوص يؤدي إلى نفور التلميذ منها، ومن اللغة العربية نفسها، فلا يكفي أن يكون النص لأحد فحول الشعر كي نلزم التلميذ بقراءته وحفظه، ولكن المطلوب هو النظر في النص ومدى تناسبه مع مدارك التلميذ، وما يمكن أن يضيفه إليه من البيان العالي.
وأضاف بأنّ توجيه الطلاب والمتعلمين نحو المطالعة يجب أن لا يكون بالإكراه والقهر، فذلك ما يؤدّي إلى نتائج عكسية، ولكن يكون بالتحبيب والتودّد، بل وبالجزاء والمكافأة أيضاً، كأن يعفى الطالب من الفروض والواجبات عندما يثبت أنّه قرأ كتاباً أو رواية، أو أن تُضاف إلى رصيده بعض النقاط، أو يحتفى به أمام أساتذته وزملائه في نهاية الفصل.
التّطوّع اللّغوي مسؤولية جميع أفراد المجتمع
 بتشجيع المطالعة لتطوير الملكات اللغوية للمتمدرسين، يمكن تعزيز مقوّمات الهوية الوطنية، التي تشكّل هدفا محوريا لمفهوم التطوع اللغوي لملكة اللغات الإنسانية - لغة القرآن الكريم - حسب ما أكّده الأستاذ سي الناصر عبد الحميد - عضو نادي البيان الثقافي، لدى إثارته الفلسفية لمسألة وعي المجتمعات العربية بواقعها، موضّحا أنّ غياب الالتزام عن مرافقة وعي أفراد المجتمع بواقعهم يخلّف غياب التغيير الايجابي الذي ينشده أفراد المجتمع بحد ذاتهم، معتبرا الالتزام الهوياتي من أحد العناصر المعززة للهوية والتماسك الاجتماعي.
وقدّم الأستاذ سي الناصر عبد الحميد مثالا عن التطوع اللغوي لترقية مكانة اللغة العربية في المجتمعات العربية المحاصرة بشدة بالتأثيرات التاريخية العصرية الناتجة ـ يقول ـ عن وقوعها في قبضة الاستعمار أو تأثرها الشديد بثقافات أجنبية، وتسبّبها في اتساع رقعة استعمال اللغة الفرنسية الأجنبية إداريا واجتماعيا، وطغيان استعمال اللهجة العامية المركبة بمصطلحات أجنبية، على غرار الاستعمال العام والمستمر للغة الفرنسية في المعاملات الإدارية الذي لم توقفه القوانين والنظم والمراسيم، إلى استعمال هذه اللغة في صناعة اللافتات الاشهارية ودخولها حتى في بعض الخطابات الإعلامية والسياسية، وكأن اللغة العربية عقمت عن إنتاج المصطلحات الملائمة لذلك رغم ثرائها وجماليتها.
وأوضح الأستاذ سي الناصر عبد الحميد، أنّ من بين المؤشّرات والملاحظات، ما يصادفنا ويحيط بنا يوميا من إعلانات وكتابات تُعرف بالمحلات والمكتوبة باللغة الأجنبية، والتي یتفنّن أصحاب هذه المحلات في رسم حروفھا ویتنافسون في تبیان جمالھا ورونقھا، من أجل جلب الزبائن والمشترین، ممّا يوحي بأنّ ھذه اللغة ھي اللغة الأصلية لھذا المجتمع، يضيف المتحدث ویزید التساؤل أنّ الكثیر ممّن يستعملها لا یحسن هذه اللغة ولا یتقن قواعدھا، بل قد یكون من بین ضعیفي المستوى التعلیمي، فیجتاحنا تساؤل بدیھي: ما الذي دفع بھؤلاء إلى الكتابة بحروف لا تمت بصلة للغتھم ولا لثقافتھم؟ قائلا «من المفترض وحتى بفعل غریزة الانتماء، أن تكون هذه اللافتات مكتوبة بلغتھم الأصلية لأنھا الأقرب إلیھم، كما أنھا اللغة التي تشكّل محیطھم الطبیعي الذي یمارسون فیه تجارتھم، فضلا علىأن اللغة العربیة ھي ھویتھم الثقافیة والوعاء الذي تربوا ونشأوا فیه».
الالتزام الاجتماعي أساسي لاستعادة مقوّمات الهويّة
 أضاف عضو نادي البيان الثقافي، الذي يعتبر أحد الحركات الجمعوية الثقافية بمعسكر، التي اجتهدت في إعطاء مكانة خاصة للغة العربية كلغة بحث ونقاش في مختلف المجالات ومحاور لقاءاتها الثقافية، أن الإدراك السلیم لخلفیات الأشياء ودرجة اقترابھا من مجال الخطر الذي قد یصیب بنیتنا الفكریة والثقافیة، والذي قد یدفع بھا نحو التلاشي والاضمحلال، ھو ما یمكن أن نطلق علیه صفة الوعي، وبالتالي ھو ما سیحدّد مستوى شعورنا بالخطر الوجودي، والذي بدوره أيضا ـ حسب المتحدث ـ سیدفع بنا نحو مقاومة أي عوامل ستوفر مبررات الخنوع والاستسلام لواقع لا یتماشى لما نطمح إلیه، مؤكدا أن الوعي والالتزام الاجتماعي في شقه المرتبط بترقية مكانة اللغة العربية في حياتنا اليومية هو آلية دفاعية نحقق من خلالھا - كأمة - رؤیتنا الحضاریة بین باقي الرؤى التي تشكل الخریطة البشریة للعالم.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024