وُلد الرسّام التشكيلي البلجيكي روني ماغريت René Magritte في عام 1898. التحق في 1916 بأكاديمية الفنون الجميلة ببروكسل بغرض تعلم مبادئ فن الرسم. تأثّر في مساره الفني بالحركة الانطباعية وروّادها الكبار (كاميل كورو، بول سيزان، جورج سورا، غوستاف كوربيه، بول غوغان). وفي عام 1924 تعرّف على بعض الفنانين الدادائين، ولكنه سرعان ما انضم إلى الحركة الفنيّة السريالية، التي اعتمدت غموض الخيال والطابع العبثي واللامعقول والحلم الذي تختفي فيه الصور العقلية والمنطقية للوجود بصورة غريبة. ولكنه عاد منذ عام 1943 إلى استعمال التقنيات الفنية الانطباعية، وهذا ما سمي بالمرحلة الرنوارية (نسبة إلى الرسّام الانطباعي الشهير أوغست رنوار). توفي روني ماغريت عام 1967. من أهم أعماله: «اللقاء» 1926، «اكتشاف» 1927، «السارقة» 1927، «سلم النار» 1933، «الحالة الانسانية»1934، «القراءة الممنوعة» 1936، «ادراج الصيف»1938، «البسمة» 1943، «الحصاد» 1943، «الفصل الخامس» 1943، «اللقاءات الطبيعية» 1945 «ألف ليلة وليلة» 1946، «الذكاء» 1946، «شرفة مانييه»1949، «امبراطورة الأضواء» 1950 «العالم اللامرئي» 1954 ،»القالب الأحمر» 1935 «المائدة الكبيرة» 1962، «الفصل الجميل» 1963.
النص:
لا شك أنّ الخطأ الجسيم الذي يمكن أن يرتكبه معظم الرسّامين التّشكيليّين المحدثين هو أنهم يريدون ترسيخ نمط - منظر Style-aspect اللوحة الفنية بصورة قبلية. في حين أنّ هذا النمط هو ما تمّ تشكيله بإتقان عبر وحدة الفكرة الخلاّقة وتجسيدها. أما فيما يتعلّق بالأثر، فالفنّان العبقري الذي لا يملك وسائل التعبير هو - من دون شك - فنّان عقيم. لذلك يجب أن يعرف الفنّان جيدا الوسائل المادية التي يمتلكها ويستعملها بصرامة وفق المعايير الفنية والجمالية. والحالُ أنّ تحقيق هذا الغرض يتطلب التنظيم واختيار الخطوط والأشكال والألوان التي يمكن أن تثير تلقائيا الإحساس بالجمال. الجدير بالذكر بهذا الصدد، أنّ اللوحة الفنية هي ما يتم بناؤه فنياً وجمالياً. لذلك يجب أن تكون مبنية بشكل جيد؛ إنها تقوم على الدقة والمنطق والاقتصاد والصدق. لذلك يمكننا القول بأنّ الفنّان التشكيلي لا يكتفي بالجانب «التقريبي»، واستعمال حد أدنى من الوسائل للحصول على أقصى حد من الأثر. فمن المعلوم أنّ العديد من الرسّامين التشكيلين يستعملون وسائل لا تثير، بشكل تلقائي، الإحساس الجمالي، كدراسة الأشكال الخارجية (لتمثيلها بالرسم)، المنظور، الصورة الفوتوغرافية (الرسم الدقيق)، اللون كخداع أو سراب، تركيب أو تأليف المشاهد التاريخية والدرامية والهزلية والحزينة، الخ.
أيّا يكن الأمر، فإنّه من الثابت في هذه الحالة أنّ يقترن اللون بالرسم بشكل دقيق، أما التركيب أو التأليف فهو بمثابة اقتصاد المساحة والتناغم وحياة اللوحة، والفكر الذي ينظم البناء، التعبير المطابق للفكرة الخلاقة. وعندما تقتضي هذه الأخيرة وجود مسطحات عميقة لتعبيرها المطابق، يجب على الرسّام أن يضحي بالمظهر المسطح للوحة، لأنه لا يرسم ليملأ اللوحة بالألوان مثلما يكتب الشاعر قصد ملأ الصفحة بالكلمات.
يستخدم الفنّان التشكيلي موضوعا ويعتبره هدفا، وبذلك فهو يثبت أنه غير واعٍ بطبيعة ردود الأفعال التي يعانيها، ولكنه - والحقُ يقال - غير واعٍ بذلك تماماً. ومع ذلك، قد يتأثّر بمرور قطار أمامه. لا شك أنّ هذا الحادث مثير لما قد شعر به هذا الفنّان، ومن هنا، يمكن أن يرى العمل الفني النور. لا شك أنّ اكتشافات الرسّامين التكعيبيين هامة: فبمراعاتهم خصائص اللوحة المتعلقة بالمساحة ذات البُعدين، اكتشفوا القوانين الثابتة لفن الرسم ثانيةً. غير أنّ وسائل التكعيبية Cubisme قد تصلح لشيء آخر، أكثر مما يتعلق الأمر بمراعاة البُعدين؛ فهذه الوسائل موادٌ جيدة للبناء الفني والجمالي. والجدير بالذكر بهذا الصدد، أنّ عددا كبيرا من الفنانين التكعيبيين قد اتخذوا هذه الوسائل أهدافا، غير أنهم وقعوا في الخطأ الذي وقع فيه المهندسون المعماريون، وذلك لأنهم حدّدوا «بصورة مسبقة» نمط منظر لوحاتهم. هذا، وقد حدّد ألبرت غليزيس Albert Gleises في كتابه الموسوم ﺑ دراسة في التكعيبية دور العمل الفنيّ، غير أنه - للأسف الشديد - أخضع أيضا الفكرة المبدعة للمنظر العرضي للوحة ما دام أنّه أكّد بأنّ «شعاع الشمس يقع على اللوحة ذات البُعدين وبالتالي قد يغتني بهذا الضوء المنبعث منه» (..).
لا يمكن تقدير القيمة الاجتماعية الخالصة لنشاط الفنّان التشكيلي إلا انطلاقا من قيمة ونوعية أو جودة نشاطه الخاص. ومن أهم العوامل التي تسمح بتحقيق ذلك، وبشكل مستقل عن القوة الحيّة للفنّان، يمكن أن نذكر على وجه الخصوص التربية والوسط، حيث أسهما بقسط وافر في تكوين حكمه تجاه الحياة وآلية فكره بل وآلية فنّه أيضا. غير أنّ آلية الفكر ليست معروفة بالكامل، لهذا لا يمكن أن نكتفي على غرار أصحاب العقول المرتبكة التي تعتقد أنها تعرف ذلك. والجدير بالذكر هنا أنّه ليس بمقدورنا «تفسير» شيء ما في أي ميدان لأنّ ما يحل محل التفسير يرجع دائما إلى نقل مشوّه حتما للشيء الذي يجب «تفسيره». الجدير بالذكر بهذا الصدد، أنّ «تفسير» التفاحة الموجودة فوق هذه الطاولة مثلا لا يصل إلا في حقيقة الأمر إلا إلى بيان مفاهيم خاصة بعلم النبات والثقل والنجارة. أما «تفسير» دوران الأرض حول الشمس، فلن يكون سوى إحصاء الحسابات الفلكية..إلخ. إنّ ألفاظا مثل «إذن» و»إذا» و»لأنّ» و»فليكن» المستخدمة في اللغة التفسيرية ليست أسماء مستعارة للتفسير بل «كيفيات» أو «طرق» للقول بأنّ «هذا ما يتطابق إلى حد ما مع هذا، وليس شيئا آخر. قد تكون آلية الفكر ربما معروفة حتى في تفاصيلها، وبالتالي من الممكن أن نتحدّث هنا عن «التفسير»، أي عندما نستطيع تفسير «التفسير». وليس هذا فقط، بل على الفنّان أن يعرف أيضا كل ما هو ضروري فيما يخص وجهات النظر هذه. وبالنظر إلى نشاط الفنّان، فإنّ الدرس الأساسي الذي يجب استخلاصه من معرفة آلية الفكر ترجع إلى القول بأنّ النشاط الفني لشخص ما متوقف على ذكاء الفن وعلى الأخلاق و»المزاج القابل للتعديل»، والقوة الحيّة للإنسان من حيث هو كذلك، وهذا بقدر ما أسهم في صنع نفسه في الوسط الذي يعيش فيه.
لقد أصبح ذكاء الفن - بالمعنى الذي يسعى فيه هذا الأخير إلى تحقيق هدف أعلى في القرن العشرين - أمرا مدمّرا حتما. ولا غرابة أن يتعارض ذلك مع ذكاء الفن الذي ينحصر في مكاسب الماضي، لكن ذكاء الفن الحقيقي لا يقتصر على هذا الرغد الوهمي. وقد يسمح باسترجاع الشباب الأبدي بفضل مجهوده الجريء وبُعد نظره، وهذا بغرض إعطاء مضمون حي «مفهوم» الفن، إلى حد أنّ هذا المضمون الحي أصبح غير مبرّر في نظر متذوقي الجمال والنقّاد الحاليين. إنّ هذا المضمون الحي يدمج في «مفهوم» الفن البحث عن أحاسيس أقل من الإحساس بالجمال أو من الأحاسيس المرهفة المزعومة للفنّانين. وليس من شك أنّ الأمر هنا متعلق بالبحث عن تلك الأحاسيس التي لا تخضع للنعوت والتصنيفات الغامضة التي لازالت سارية المفعول إلى يومنا هذا، وما يُعبّر عنه بالأحاسيس التي «نعجز عن وصفها» و»الثورية» و»اللامتناهية» و»العجيبة»..إلخ.
لم يعد الفنُ يستعيد - بفضل مضمونه الجديد - القيم العقيمة ﻛ «الدعابة» و»القلق» و»الود» و»الحساسية» و»الموهبة» و»الذوق»..إلخ. فحينما تتضمّن هذه القيم العقيمة خصائص أو صفات تصبح مجرد وسائل بسيطة تسمح للفنّان بإبراز ذكاء الحياة بواسطة اكتشاف المشاعر الحيّة التي من المتعذر اختزالها في صيغة أو إلى تحليل عقلي. فالإنسان الذي يحاول البحث عن مثل هذه المشاعر يختلف مع «الفنّان» بالمعنى المُتعارف إليه لأنّ «فنه» عبارة عن نشاط إنساني جديد .
من المعلوم أنّ تصوير الأشياء «الموضوعية» قد يبرز مظهر هذه الأشياء إلى حد ما. ولكن بنوع من الخداع، وبنوع من الوضوح أو الدقة أيضا. وهذا بالنسبة إلى الطريقة المعتادة التي تظهر بها الأشياء في الحقل المرئي (المنظور الدقيق، الظلال الدقيقة..إلخ.). وما يتم استنساخه على اللوحة من خلال هذا التصوير «الموضوعي» هو ذلك المظهر الفوتوغرافي للأشياء، وهذا ما يتم في حقيقة الأمر وفق التعديلات الخاصة التي تقوم بها العين التي تسجّل واليد المتمرسة التي تستنسخها. إنّ النتيجة المتحصل عليها بواسطة تمثّل الأشياء (بغض النظر عن الموضوع) هو ذلك الشعور بالالتباس والغموض الممتزج بالروعة والجمال، وهذا بسبب نقل مظهر شيء ذي ثلاثة أبعاد إلى صورة ثابتة ذات بُعدين. وليس من شك أنّ الإنسان العادي حسّاس لهذا التصوير الرسمي؛ والاعتقاد البسيط بأنه يتخذ مظهر الشيء من أجل هذا الشيء نفسه يجعله غير قادر على تصوّر إمكانية وجود مدركات أخرى للشيء. إنّ بساطته الروحية تجعله، بالإضافة إلى ذلك، معجبا ببراعة الرسّام، ولكن، وبسبب نقص معلوماته، يعتقد أنّ الأمر هنا مجرد سحر. والحالُ أنّ السّحر غائب تماما في الرسم «الموضوعي»، وحتى في الصور المتحركة السينمائية. وإذا كان الأمر كذلك إنّ الإنسان العادي يستحسن إلى الحد الذي يعتقد فيه مثلا أنه لا يمكن تصوير الحر إلا بواسطة «لون الماء»، ويشك في كل ما يخالف هذا الاعتقاد. لذلك، يرى أنّ المغفلين وحدهم من يعتقد أنه يمكن إيجاد لون كحليّ كامل باللون الزيتي. ويحسن بنا في هذا المضمار، أن نشير إلى أنّ ما سبق يوضح لنا من دون شك سبب قلة إقبال الجمهور على الرسم الانطباعي، وإقباله على «رسم المتاحف» والصور الملوّنة الرديئة. يبدو مفيداً أن نشير هنا إلى أنّ دوافع الرسّامين الانطباعيين فنيّة وعلمية وفلسفية.
1- وجهة نظر الفنّان: إنّ الضجر البيّن من قبل أناس لا همّ لهم سوى الرسم، يمكن تصوّره بسهولة، حتى ولو كان هؤلاء الناس حساسين وسريعي التأثر بالتماثل الممّل للأثر الحاصل بواسطة الرسم «الموضوعي». إنهم يرغبون في إحداث تغيير. أما الرسّامون الذين كانوا يفكرّون من داخل مراسمهم، فقد يتخيلون أنهم كانوا يرسمون في الهواء الطلق. وليس من شك أنّ قدراتهم على الملاحظة تمكنهم من اكتشاف جوانب مهملة للأشياء. إنهم يكتشفون في الطبيعة درجات اللون التي لم تتحقق من خلال التصوير. والحقُ أنّ هذا الإدراك يميزهم عن بقية الناس الذين ينظرون «بدون انقطاع» إلى الأشياء قصد الوصول إلى رؤية ذاتية للأشياء. إنّ النتائج يمكن أن تؤكد ذلك لأنّ بعض الرسامين الانطباعيين يتكلفون فيما يخض درجات اللون الجديدة.
2- وجهة النظر العلمية: لقد اكتشف سورا Seurat قانونا بسيطا وهو أنّ للأشياء ظلال مكمّلة للونها. يمكننا أن نقول على سبيل المثال إنّ للشجرة الخضراء ظلال حمراء..إلخ. وعندما تبتعد الأشياء عنّا تصبح أقل وضوحا، وأكثر زرقة، وبخاصةٍ عندما تكون هناك كثافة في الهواء بين الشيء والمتفرج. والحقُ إنّ الصور الملوّنة (التي يعتبرها الإنسان العادي رديئة) تحقّق النتائج نفسها، تكشف عن تلوين الظلال التي نعتقد - بسذاجة - أنها «بلا لون».
3- وجهة النظر الفلسفية: على إثر ملاحظات فيزيائية، كانت للرسّامين الانطباعيين رؤيتهم مغايرة للأشياء لرؤية الإنسان العادي، بحيث أظهرت هذه الأخيرة وكأنها حالة خاصة وذاتية في رؤية الأشياء.
René Magritte, Ecrits complets. Textes établis et annotés par André Blavier, Paris, Flammarion, 2009, pp 176-181.
*البروفيسور كمال بومنير أستاذ الفلسفة بجامعة الجزائر
(عن مجلة فواصل)