يا شجرة الزّيتون ما أعظمك وما أعظم من خلقك، فأنت تمنحين لنا الإحساس بالنّصر وتُغازلين فينا حبّ الوطن والانتماء إليه، ما ألذ حباتك وزيتك الوضّاء والذي يبعث في نفوسنا الصّفاء والنّماء وستظلين خضراء فأنت رمز للعطاء والوفاء.
أنهى العمّ رمضان سنوات السّجن التي سرقت من حياته عائدا إلى زوجته وأولاده، وفي طريقه طلب من صاحب السيارة أن يعرّج به لرؤية مزرعته فهو يظن أنها صارت خرابا وكم كانت مفاجأته سارة، لم يصدق ما رأى، دفع أجرة الطاكسي وطلب من السّائق أن يتركه هنا، مشى خطوتين ثم تراجع إلى الوراء يحدث نفسه لا هذه ليست مزرعتي ربما اختلطت علي الأمور صِرت أنسى... ضَعُفت ذاكرتي... بَقي مُتردّدا يرفع رأسه يُفَرِّك عينيه... يتجوّل بين صفوف أشجار الزّيتون المُتناسقة مُتسائلا: هل أنا في حلم...؟ أحقيقيٌ ما أراه...؟ من أعاد لها الحياة...؟ وكيف...؟ ربما أبنائي نعم هم أبنائي تركت خلفي رجالا وزوجة وفِيّـة قهروا الخراب وغيّروه إلى عَمَار وثمار.
جثم على ركبته وقبّل التّربة واستنشق هواءً عليلا لأول مرة لم يعهد هذه الروائح الزّكية العطرة وهذا الاخضرار الذي يأخذ بالألباب، وهذه السّكينة، أحسّ بالإنتعاش يسري في جسده الـمُنهك توقّف فجأة ربّاه... ربما باعها أولادي فرّطوا فيها... يا حسرتي على فرحتي... ويا خيبة أملي... وأطبق صامتا حزينا، واتخذ ظّّل شجرة وارفة مكانا للاستراحة، وعندما سمع آذان صلاة العصر توضّأ وصلى ركعتين شكرا لله على كل حال مُتناسيا معاناته وحُرقة البِعاد عن الأهل والخلان، وفي طريقه سلّم عليه من يعرفه. يمشي مُتثاقلا ويدخل إلى خيمته يحتضن ابنه الذي بَقيَ مشدوها في بداية الأمر، وعانق الحاضرين وبشوْق والدّموع تنهمر من عينيه.
سمعت خبر رجوعه ففرحت كثيرا وزرته لأطمئن على أحواله. تغيّرت ملامحه ونَحُل جسمه وغطى الشّيب شعر رأسه ولحيته أيضا. كان يبدو مُتعبا يُطيل الصّمت، ويسعل حتى يُمسك بأضلع صدره، صار يعرُج في مِشيته، سألناه حدّثنا عن معاناته. إنّه يصفها بدقة مُتناهية، يحملق فينا ليتوقف عن الكلام ويُواصل سردها بتفاصيلها. تمرّ أمام عينيه وَمضات من سنين السّجن، لا يريد تذكرها سرعان ما تزول، تلاحقه غير أنّه يقهرها بعدم الاكتراث. راعني هَولَ ما سمعت، إنها سنوات من الآلام والأوجاع والصّراع المتواصل مع الموت البطيء وفي كل لحظة من لحظات الاعتقال التي عاشها بمرارتها ومتناقضاتها.
هُم من حرموه لذّة العيش حرّا طليقا، وهُم من سرقوا منه رائحة الوطن ونسمات الزّيتون، نظر إلى وجهي مُحملقا وأشعل سيجارة أخرى وقال: كبرت يا خالد وصرت شابا نعتمد عليك، مازال يعرف اسمي. سرّني ذاك الإطراء، فتمنيت لوعاود وناداني مرة ثانية، ففي نبرة صوْته حِدّة وتحدّي وكِبرياء.
(يتبع)