كان هذا قبل ثلاث سنوات، حين كان القبر علامة من تراب، تدل على فعل الغياب، وموقع الجسد في مستقره الأخير، المطل على الحياة الأخرى في الأبدية...اليوم بعد عام وعشرين يوماً من إبادة الحياة اليومية في غزة، لم يعد القبر قائماً بدلالته المكانية، حيث تم تدمير المقابر بكل ما فيها من قبور. الإبادة في غزة، فعل لا يقتصر على الأحياء ولا يقتصر أيضاً على الجغرافيا والأمكنة، بل يمتد بكل وحشية ممنهجة ليشمل قداسة الموت الأزلية، في جريمة إبادة إضافية لا تقل بشاعة عن إبادة الحياة وهي تمتد إلى صورة الموت، مقبرة بعد مقبرة بعد مقبرة.
أمّي الغالية،
في ذكرى وفاتك الثالثة، أصبح لغيابك دلالة أخرى في الذاكرة، تتشكّل هذه المرة دون قبر، منذ امتدت وحشية القذائف نحو القبور وتناثر الرخام مع بقايا الرفات والتراب في كل أرجاء الهواء.
أمّي الغالية،
أنتِ الآن بالنسبة لي أكثر حرية في السفر بين الأجرام والنجمات، أكثر حرية في الوصول إلى جسدي المحاصر بقيود المكان التي صنعتها الأسلاك الشائكة والحواجز...لم يعد الجسد (جسدك) المدفون في غزّة يحتمل هذا الوجع، فامتزج مع الهواء في قداسة رمزية هي الأكثر بلاغة من كل حضور وغياب...
أمّي الغالية، أبي الغالي...
أكتب إليكما في الأبدية، دون قبرين يدلان على الرحيل، ومقبرة تضم رفات العائلة...منذ اندلاع هذه الإبادة الوحشية، قبل أكثر من عام والقبور كما المنازل، تُقصف وتباد وتفتت ملامح الأمكنة، غير أنّ هذا الوجع الطويل، الطويل لن يُنسى أبداً، لن يُنسى...لروحكما السّلام في الأبدية ومع كل نسمة هواء أرضي، تحمل ما تبقى من تراب قبريكما لتصافح وجهي على مدار الذّاكرة...لأرواح الشّهداء جميعاً الرّحمة والسّلام، ولذكراهم الخلود.