أدّى التحوّل نحو مجتمع المعلومات في عدد من البلدان المتقدمة صناعيًا - في مطلع القرنين العشرين والحادي والعشرين - إلى مزيد من التحوّلات في أنظمتها التعليمية؛ حيث أصبح التعليم باستخدام تقنيات المعلومات الجديدة القلب النّابض للمجتمع بشكل تدريجي؛ وليس التعليم في الجزائر؛ كظاهرة اجتماعية وعملية ونظام؛ وكمؤسسة للتنشئة الاجتماعية وجزءٍ من المجتمع بمعزِلٍ عن كلّ هذه التحوّلات.
في عام 2003 تبنّت الجزائر مفهوم عصرنة التعليم، وكان الهدف منه إدراج المدرسة الجزائرية في التوجهات العالمية الرئيسية في التعليم وصياغة استراتيجية قادرة على جعل التعليم أداة لعصرنة البلاد. وفي هذا الصدد، يبدو أن عصرنة التعليم جاءت استجابة لاحتياجات التنمية المستقبلية للبلد؛ هذه الاحتياجات للجزائر الجديدة في الألفية الجديدة هي السمة الغالبة لعصرنة المدرسة.
وعلى الرغم هذه الملاحظة؛ يجب تكييف نظام التعليم مع سوق العمل الحقيقي، الذي يميّز اقتصاد ما بعد الصناعة. لهذا؛ فإنّ الاهتمام بعصرنة نظام التعليم الوطني يجب أن يرقى إلى ترقية المؤسسات التعليمية لمواجهة العديد من التحديات التي تعكسها الاحتياجات الجديدة للمجتمع، والوجه الجديد للتعليم على نطاق عالمي، ولاسيما التجديد السريع للمهن، وعولمة المعرفة، والتنافس بين المدارس.. وفي هذا الشّأنِ تجدر الإشارة إلى أنه خلال السنوات الخمسة عشر إلى العشرين الماضية تمّ إصلاح المدرسة في كل البلدان؛ المتقدمة والنامية؛ وذلك لأنّ التعليم ينتقل من طريقة لنقل المعرفة إلى ممارسات أخرى تتضمن أشكالًا أخرى من الاتصال، أو روابط أخرى للإدراك، كل هذا يفرض على المدرسة الجزائرية تحديات جديدة.
لقد أضحى من الضروريّ تنقيح الإصلاحات تنقيحا واسعا، وتقديم الإمكانات التنموية لنظام التعليم حتى عام 2032. ويجب أن يكون المطلب الرئيس للإصلاحات هو جدوى المدرسة الرقمية؛ لأن التغيّرات الجارية في سوق العمل تشمل إعادة تشكيل نظام التعليم بأكمله؛ بما في ذلك هيكله. هذا ما يحدث بالفعل في معظم البلدان، وبخاصّة البلدان المتقدمة. وفي الجزائر نسجّل كلّ سنة تزايدًا مُطَّرِدًا في نسبة جرّيجي المدارس الثّانوية الملتحقين بالتعليم العالي؛ والتي تجاوزت 61٪ في عام 2021، لكنّها تبقى دون مستوى البلدان الرائدة في التنمية البشرية التي تتجاوز نسبة 65٪. حيث سجّلت الولايات المتحدة الأمريكية نسبة 82٪ ، وفي جمهورية كوريا بلغت النسبة 96٪ ، وحقّقت فنلندا 94٪، والنرويج 76٪ ، والدنمارك 80٪، بينما بلغت النسبة في أستراليا 75٪...
لقد أصبح الحديث عن المشروع الوطني لإنشاء مدرسة رقمية جزائرية موضوعَ بعض الإعلانات والمبادرات من قبل وزارة التربية الوطنية، وتعَرّف المدرسة الرقمية بأنّها تنظيم تربوي يتمّ فيه بناء التعلم حول تعاون تربوي في بيئة تعليمية تتمتع بمعدات وأدوات وخدمات تعليمية رقمية، تهدف إلى استخدامٍ أكثر فعالية للتكنولوجيات الرقمية لحل المشكلات التربوية؛ من خلال دمج التكنولوجيات الرقمية في العملية التعليمية.
ومن أجل تغيير نمط التعليم التقليدي إلى المدرسة الرقمية؛ يتم تمييز أربعة مستويات من التغيير وفقًا للنموذج المرجعي العالمي لروبن بيتندورة:
(SAMR) The Substitution-Augmentation-Modification-Redefinition
الاستبدال - التعزيز - التعديل - إعادة التعريف استبدال أدوات التدريس التقليدية، تحسين الأدوات وطرق التدريس التقليدية، تغيير الممارسات البيداغوجية، وأخيراً؛ تحول الممارسة البيداغوجية. ويفترض كل مستوى لاحق درجة أعمق من إشراك التلميذ واستخدام الأدوات المعلوماتية، بدءًا من استبدال بسيط لأي أداة (على سبيل المثال: يستخدم الطالب برنامج معالجة النصوص بدلاً من القلم التقليدي) ويزيد تدريجياً إلى المستوى الذي يفتح عنده تطبيق الرقمية فرصًا جديدة يتعذّر الوصول إليها حتى الآن (التفاعلات والمشاركة والتعاون لإنجاز العمل في الوقت الفعلي)، حيث يعمل المستويان الأوّلان على زيادة فعالية الدرس؛ بينما تتشكل الصفات المهمة في المستويين الأخيرين، وتبدأ الإجراءات التربوية للتعلم الرقمي.
ماذا نعمل بالتكنولوجيا الرقمية في المدرسة الجزائرية؟
إنّ استخدام التكنولوجيا الرقمية في المدرسة الجزائرية لا يعني البَتّةَ استبدال المعلمين بمنصة رقمية أو لوحة ذكية أو هاتف ذكي. كما أنّ إدخال الأدوات التعليمية الرقمية في المدارس لا يعني إلغاء الدروس التقليدية في الأقسام الدراسية أو المختبرات أيضًا. إذًا؛ لماذا تدمج التكنولوجيات الرقمية في المدرسة الجزائرية؟ يمكننا أن نرصد على الأقل ثلاثة أسباب وجيهة:
أولاً؛ لأن التكنولوجيات الجديدة تتطوّر بسرعة، وتتطلّب مهارات جديدة من المتمدرسين المحدثين؛ بما في ذلك القدرة على الإبحار والعمل بثقة في الفضاء الرقمي. يجب أن تتفاعل المدرسة العصرية مع التغيير وتزود التلاميذ بالأدوات لمساعدتهم على الاستعداد بأكثر الطرق فعالية لتحديات المستقبل. والأمر هنا يتعلق بالاستثمار في قطاع واعد يتمتع بأعلى معدل نمو عالمي.
ثانيًا؛ تسمح التكنولوجيات الرقمية بزيادة فعالية التدريس؛ بفضل تصور أفضل للمادة، وتساعد على تطوير الصفات الشخصية للتلاميذ، وقدرتهم على التخطيط، والانضباط الذاتي، والشعور بالمسؤولية؛ والحدّ من اعتمادهم على الأستاذ. إنه شكل جديد للعمل، وشكل جديد للحياة، وشكل جديد للأنشطة التعليمية. وعلى هذا النحو تمّ إعداد إدراج التكنولوجيا الرقمية في المدرسة الابتدائية كوسيلة فعّالة لتعزيز المعرفة المحددة؛ ومحاربة الرسوب والتسرّب المدرسيّ.
أخيرًا؛ لا يمكن أن نجزم بالقول: إن رقمنة المدرسة الجزائرية هي عملية بدأت حصريًا من أعلى الهرم؛ إذ إنّ هناك طلبا مستمرا ومتزايدا من الشعب الجزائري؛ لاكتساب معارف ومهارات جديدة من خلال استخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات في التعليم (TICE).
هذه الأسباب الثلاثة تبدو عقلانية جدّا؛ لتعزيز قناعات قوية حيال التكنولوجيا الرقمية في المدرسة؛ حيث يمكن أن تستعمل لإثراء التعليم ومضاعفة تنوعه المنهجي؛ مما يوفّر للتلاميذ ظروفا أحسن لتعلّم معارف جديدة وتعزيز مكافحة الرسوب المدرسي. وفي الوقت نفسه؛ فإن استخدام التكنولوجيات الرقمية في التدريس والتعلم يجب أن يتمّ بشكل منظم بناءً على الأهداف الإستراتيجية للبرنامج التعليمي؛ كما يجب أن تكون التكنولوجيا دائما في خدمة البيداغوجيا؛ لأنّ تقديم التعلّم الرّقمي باعتباره استخداما للأدوات الرقمية في القسم فقط؛ لا يعكس الغرض من هذا المفهوم التربوي. ولهذا؛ يجب أن تتضمن رقمنة المدرسة دائمًا إنشاء ووضع عمليات تعلم وتدريس معلوماتية جديدة أكثر فاعلية تسمح بعمليات جديدة لا تقتصر فقط على استبدال الكتاب الورقي أو القلم أو السبورة البيضاء بنسخة إلكترونية.
ما الذي يجب القيام به ومن أين نبدأ؟
يتمثل التحوّل الرقمي في الانتقال إلى المدرسة الرقمية للتعليم المدرسي على جميع المستويات. ولتحقيق ذلك يجب وضع خطة تطوير استراتيجية محكمة (PSD) لمدرسة رقمية جزائرية. هذه الخطة ستشرك جميع أصحاب المصلحة الفاعلين في العملية التعليمية، حيث يتمّ العمل ابتداء من المدرسة الابتدائية وفق العديد من الإجراءات التي قد تحقّق الأهداف المنشودة. إنّ التنفيذ الناجح لهذا المشروع يمكن أن يشمل الحلول العشرة التالية:
^ تطوير البرامج، والسندات والتقنيات، والتطبيقات المكيفة؛ التي تركز على الاحتياجات الفردية للمتمدرسين، باستخدام الموارد التعليمية والأجهزة المتوافقة مع المعايير الدولية.
^ إنشاء منصة «مدرسة رقمية» يحصل الطالب من خلالها على حرية الوصول إلى المحتوى التعليمي الإلكتروني، مع وضع ميثاق وطني للممارسات الملائمة.
^ إنشاء بيئة تعليمية رقمية عصرية؛ مع تصميم ومعدات وأدوات (أجهزة كمبيوتر، أجهزة لوحية اتصال سريع بالإنترنت، ممرّنون، لوحات التفاعلية..) بمعنى؛ توفير برامج تفاعلية تقدم بيانات، وقادرة على التحقّق من صحة الإجابات، وأدوات التقييم الذاتي؛ بحيث تتيح للتلميذ أن يكون أكثر استقلالية، وتتيح للمعلم التركيز على التلاميذ الذين لديهم صعوبة في التعلّم. هذه البيئة التعليمية الرقمية ستسمح للأساتذة والتلاميذ باستخدام المحتويات التعليمية الإلكترونية، شريطة ربط جميع المدارس بالإنترنت عالي السرعة بحلول عام 2025، وتمكين نصف الطلاب على الأقل بالوصول إلى الشبكة في نفس الوقت، مع تشكيل بنية تحتية رقمية عصرية للمدارس.
- إدخال الألعاب والمحاكاة في العملية التعليمية. وهذا ما سيشرك التلاميذ ويلزمهم ويجعل التعلّم مرئيًا، ممّا يساعد في تطوير كفاءات القرن الحادي والعشرين القائمة على العمل الجماعي والتفكير النقدي والتفكير الإبداعي.
- تطوير جهاز تكوين عن بعد؛ باستخدام تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ من خلال التشجيع على العمل الجماعي بطريقة تشاركية وفق هذا النّمط من التعلّم؛ مع دمج عوامل مختلفة: بيئة التعلم (في المنزل، عبر الإنترنت، في المدرسة..) وعملية تنمية الكفاءات والنمو العاطفي (الدافعية، والرضا والتردد، والإحباط..) وتنمية الفاعلين التربويين (المتعلمين والمعلمين وأولياء الأمور والموظفين ..).
- إعادة تكوين ومرافقة المعلمين في القسم من أجل الاستخدام الفعّال للمحتويات التعليمية الإلكترونية في العملية التعليمية، وفي تطوير أساليب العمل التشاركي، علما أن تنفيذ مشروع المدرسة الرقمية سيؤدي إلى تغيير في الدور التقليدي للمعلّم؛ الذي سيصبح مدربًا أو منظمًا أو شريكًا أو مستشارًا أو موجهًا أو ميسراً يوجه التلميذ حسب احتياجاته وأولوياته، ويضفي الطابع الفردي قدر الإمكان على مسارات التعلم للمتمدرسين. وباعتبار المعلّم هو الشخص الذي سيشكل مستقبل المدرسة الرقمية سيكون من الضروري تطوير برامج التكوين الأولي وإعادة التكوين، والتطوير المهني المستمر للمعلمين.
- وضع الأدوات اللّازمة تحت تصرف المعلّمين؛ لتحليل نقاط القوة والضعف الفردية لتلاميذهم من أجل تحقيق الهدف المتمثل في الحد بشكل كبير من معدل الرسوب المدرسي.
- إدخال مرجعيات الكفاءات، سواء في تحديد محتويات التعلم أو في تكوين المعلمين.
- تزويد السلطة التنظيمية الوصيّة بمعلومات واضحة حول كيفية تحول العمليات المدرسية المعتادة في سياق التكنولوجيات الرقمية الجديدة، والفرص التي تتلقاها المدارس والمدراء والمعلمون والتلاميذ وأولياؤهم.
- استشارة أسر التلاميذ بانتظام من قبل متخصصين في تنمية الطفل؛ مما يساعد بشكل كبير على تقليل المخاطر الصحية والانحرافات السلبية في تطوّر التلاميذ، وهو ما سيؤثر بشكل إيجابي على النتائج المدرسية والإنجازات الشخصية.
إنّ تطوير رقمنة المدارس سيؤدّي بلا شكّ إلى تغيير احتياجات الأساتذة والتلاميذ، كما سيحفّز على تشكيل هياكل تعليمية وتنظيمية جديدة. في هذا التكوين المتجدّد؛ يجب أن تكون التكنولوجيا الرقمية مصحوبة بممارسات تعليمية جديدة؛ كالعمل في مجموعات صغيرة، والتعلّم القائم على المشاريع، وإضفاء الطابع الشخصي على التدريس. يضاف إلى ذلك إنشاء صندوق تضامن يهدف إلى تقديم الإعانات للسلطات التي تشرف على المدرسة الرقمية من أجل مساعدة الأسر الهشّة على اكتساب موارد رقمية شخصية؛ لتسهيل الربط بين القسم والمدرسة، كما قد يهدف هذا الصندوق إلى «ضمان تكافؤ الفرص على المستوى الوطني» ومحاربة «الفجوة الرقمية».
ويبقى من المهم أن نتذكّر أنه أثناء استخدام التكنولوجيات المبتكرة في المدرسة والمنزل، تظهر مخاطر جديدة على المجتمع، وعلى صحة التلاميذ؛ مثل: مشاكل الرؤية، ومشاكل الإدمان على الكمبيوتر، والإدمان على شبكات التواصل الاجتماعي، والاستقرار النفسي، وزيادة الأعباء البيداغوجية.. فمن الضروري إذن مراعاة خصوصية هذه التحديات ومعالجتها؛ من خلال التحليل العلمي، وتنفيذ معايير صحية واضحة في بيئة المعلومات والتربية، وكذلك من خلال الخبرة المتوفرة في التحوّل العملي للبيئة التعليمية العصرية.
كي لا نختم..
إذا لم تحصل المدرسة على حركية جديدة للتنمية؛ فسنواجه تخلفًا تكنولوجيا وعلميًا عميقًا مقارنة بالعالم المتحضر قاطبة، فالتكنولوجيات التقليدية لا يمكنها أن تحلّ جميع مشاكل المدرسة الجزائرية الحديثة؛ لذلك نحن بحاجة إلى خطة رقمية كبيرة على مدى عشر سنوات؛ يتمّ خلالها تحديد أهداف حقيقية لسياسة المدرسة الرقمية، ويجب أن تركز الإجراءات على التعليم الابتدائي؛ من خلال توفير ثلاثة نواقل: تمويل اقتناء المعدات والبنية التحتية، وتطوير مجمعات بيداغوجية رقمية، ومنهجية رقمية يسهل الوصول إليها، وأخيراً تكوين المعلّمين وموظفي الدعم.
يمكن اعتبار التكنولوجيا الرقمية معرفة أساسية جديدة؛ بنفس قيمة التعلمات الأساسية: التحدّث والقراءة والكتابة والعدّ والحساب؛ حتى لو لم تكن الممارسة التربوية للأدوات الرقمية في المدرسة موضوع بحث علمي في الجزائر؛ فيما يتعلق بتأثيرها على أداء التلاميذ. كل هذا يسمى التحول الرقمي. ومن أجل ضمان النجاح؛ من الضروري ألّا نعتمد على الأدوات وحدها، بل يجب الاعتماد على الموارد البشرية أيضًا، والتحذير من الحماس الزائد تجاه التكنولوجيا الرقمية دون عمل منظم ومخطط له جيدًا، مع تحفيز كل من له مصلحة في العملية التعليمية.
- استاذ جامعي
خبير في التعليم العالي والبحث العلمي
خبير في إدارة التغيير
جامعة المسيلة