مدن وتاريخ

عرفت قديما باسم «العُوينة»

بقلم أ . فوزي مصمودي باحث في التاريخ ومدير المجاهدين لولاية بشار

القنادسة .. الحاضرة العلمية ومعقل الثــورة ومـقـبـرة الفـحــم الحــجـــري

 

أصل التسمية:
عُرفت مدينة القنادسة قديما في كُتب العديد من الرحّالة والجغرافيين العرب باسم ( العُوينة )، على غرار رحلة ( هداية الملك العَلاَّم إلى بيت الله الحرام ) للرحّالة أحمد الهشتوكي ( المتوفَّى في عام 1715 م )..
إلاّ أنّها وردت باسم ( القنادسة ) فـي ( الرحلة الناصرية ) لأحمد بن محمد بن ناصر الدرعي ( 1647 ــ 1717 م) وكذا في ( الـرّحلة الهلالية ) المسماة ( التوجّه إلى حجّ بيت الله الحرام وزيارة قبره عليه الصلاة والسلام ) للرحالة أبي العباس أحمد الشيخ بن عبد العزيز الهلالي ( المتوفّى في عام 1761 م )، وقد أطلعني الأستاذ طاهيري مبارك أحد أحفاد الشيخ أمحمد بن أبي زيان والقائم حاليا على شؤون ( الخزانة القندوسية ) خلال إحدى زياراتي إلى الزاوية وخزانتها الغنيّة بتـاريخ 13 جويلية 2018، على نسخة مصورة من مخطوطة ( الرحلة الهلالية )، كان قد مكّنه منها شاري الطيب المشرف على خزانة سيدي عبد الله ـ ( كوسام ) ببلدية تيمي بولاية أدرار، والذي سبق له نسخ أزيد من (160 مخطوطا)، مما تسبّب في تدهور صحته وضعف بصره. وقد أعلمني الدكتور علوي مصطفى الأستاذ بقسم التاريخ بجامعة بشار أن هذا المخطوط قام بتحقيقه الدكتور محمد بوزيان بن علي من المغرب الشقيق وتمّت طباعتُه وتوزيعه، وتوجد نسخة من هذه الطبعة بالخزانة القندوسية.
 وفي غيرها من كتب الرّحّالة والجغرافيين والكتّاب.. سواء كانوا من العرب أو من الأوروبيين.
لتتخلى عن الاسم القديم الذي عُرفت به ردحا من الزمن ( العُوينة )، وتحتفظ باسمها الحالي ( القنادسة ).
القنادسة.. مدينة ثريّة وحاضرة زاخرة، تـجمع بين التاريخ والتراث والسياحة والثقافة والفن والاقتصاد، والتنوّع في هذه المجالات، مدينة ملهمة للكتّاب والشعراء والفنّانين..
تبعد مدينة القنادسة عن عاصمة الولاية بشار بحوالي ( 20 كلم )، لكن هذه المسافة أخذت تتضاءل اليوم بفعل تواصل وزحف مختلف المنشآت العمرانية بين مدينتي بشار والقنادسة، وهي عبارة عن دائرة تضم بلديتي ( القنادسة ومريجة )، وتتوزع على: المدينة القـديمة، التي أساسها ( القصر الذي شُيّد منذ حوالي ثمانية قرون، والزاوية والمسجد العتيق )، وكذا المدينة الأوروبية التي أُسّست عقب اكتشاف الفحم الحجري من قِبَل المحتلين الفرنسيين، كما يبعد عنها سدّ جرف التربة بمريجة بحوالي ( 30 كلم ) ويُعدّ من أكبر سدود الجمهورية.
مآسي مناجم الفحم
ارتبط اسمها بالمناجم الرهيبة للفحم الحجري الذي كان يُستخرج من باطن أديمها، ويستحوذ عليه ظلما عدوّها وعدوّ الشعب الجزائري، وكانت بداية اكتشافه بها في حدود عام 1907، بينما شُرع في استغلاله بصفة رسمية بداية من عام 1917، والذي كان يستغله الفرنسي شرّ استغلال، ويذلّ العاملين بهذه المناجم أبشع إذلال، ومازال أبناؤها وأبناء بلدات بشار وغيرها يروون حكايات مرعبة وقصصا موحشة عن هذه المناجم، والدّرجة القصوى من الابتزاز القذر الذي كان يمارسه الإنسان الفرنسي ضد الإنسان الجزائري صاحب الأرض، الذي كان حينها مغلوبا على أمره.
ومازالت الجَدّات يروين في أحاجيهنَّ الليلية لأحفادهن وحفيداتهن كيف هلك الكثير من الجزائريين داخل هذه الأنفاق المظلمة، كأنها أفران حارقة، ومقابر جماعية للعاملين المستعبدين فيها! وقد قضوا نتيجة للأمراض القاتلة بسبب ( داء السيليكوز )، وما صاحب ذلك من معاناة إنسانية مازالت آلامها وجراحاتها لم تـندمل بعد!.
وبمقابل ذلك أضحت مدينة القنادسة بالنسبة للفرنسي ــ بعـد اكتشاف الفحم الحجري الذي يُعرف محليا باسم الكوك (  Le coke )  ــ بمثابة العاصمة الاقتصادية بالجنوب الغربي الجزائري، حيث كانت هذه الثروة الهامة تُنقل عبر السكة الحديدية التي تربط مدينة القنادسة بمدينة بشار، مرورا بالجنوب الوهراني ومدينة المحمدية، ووصولا إلى الساحل الجزائري، حيث يُنقل إلى فرنسا وإيطاليا وإسبانيا..  
وبموازاة هـذا الاكتشاف المنجمي الهام قامت إدارة الاحتلال بإنشاء الحي الأوروبي بها الذي مازالت بقاياه إلى اليوم،لتكون «من أوائل المدن بإفريقيا التي يُضَاء بها المصباح الكهربائي في حدود عام 1914، بعدها تمّ إيصال خط كهربائي إلى بيوت الأهالي بالقصر» استنادا إلى السيد مختار سلطاني ( ابن مدينة القنادسة، وهو باحث في التاريخ والتراث ).
متحف المدينة.. كتاب مفتوح
وكشاهد على ذلك ( متحف المدينة ــ المركز البلدي للتراث والآثار )، الذي يمثّل ذاكرة مأساة الفحم الحجري والاستغلال الفاحش للعامل الجزائري، الذي كان يسعى إلى الحصول على قوت عياله، مما يمكن اعتباره جريمة أخرى ضد الإنسانية، تُضاف إلى السجل الفرنسي الآسِن و(المُرصّع) بسلسلة طويلة من هذه الجرائم، ليس بالجزائر فحسب بل حيث ما حَلّ ووُجد الفرنسي..
والزائر إلى هذا الفضاء التاريخي ــ الذي يتواجد بقلب المدينة ويشـرف عليه السيد نيمانسي محمد ــ يجد أجنحته ثَرِيّة من حيث المقتنيات المتحفية والأشياء النادرة، التي تتمثل في جناح خاص بالقصر القديم، وجناح معدات البحث الجيولوجي ووسائل نقل الفحم وبقايا السكك المنجمية والقُبّاعات الحديدية، ووسائل التحاليل المخبرية للفحم وقارورات الأكسيجـين والواقيات الحديدية، والحبال المنجمية والفؤوس والرّفوش بمختلف أحجامها، والمصابيح الغازية التي كانت تُستعمل في إضاءة الأنفاق المظلمة.. إلى جانب آلات فوطوغرافية وأجهزة سمعية بصرية، أقدمها آلة السينما التي تعود إلى عام 1940، وأشرطة وأفلام سينيمائية قديمة، وصور وقصاصات جرائد توثّق قصص بعض الكوارث التي أصابت المنقّبين عن الفحم الحجري والمستخرجين له في ظروف جدّ مزرية، وكان أغلبهم من الجزائريين!
يأتي في مقدّمة هذه الكوارث؛ الحريق المهول الذي أصاب أحد الأنفاق بين 04 و09 ماي 1948، والذي تسبّب في احتراق وتفحّم مجموعة من  العمال الجزائريين المقهورين، وهم: ( عبد القادر بن محمد، أحمد بن عبد الرحمن، بلبكيري عبد العزيز، الهاشي الشيـخ، كسال مسعود، الفضيل بن خليفة، العربي بن عجال، محمد بن بريك، ترّاس محمد ) إلى جانب الفرنسيين: ( المهندسيْن ديلونقانوديسال ) و( ديبيازا، وكايماروبونتيو) وغيرها من الأحداث المهولة.
ولم يفت القائمين على المتحف ــ الذي تشرف عليه البلدية ــ أن يعرضوا عبر زواياه مجموعة من الآثار والأدوات الحجرية، التي كان يستعملها الإنسان الحجري؛ على غرار المكاشط والمزامل ورؤوس السهام والرماح والمدقّات الحجرية بمختلف الأحجام، والرسومات الصخرية الشبيهة برسومات الطاسيلي، مما يدلّل على أنّ المنطقة عاشت حياة الإنسان خلال العصور الحجرية المتعاقبة، مع عرض عيّنات من المستحاثات البحـرية الحيوانية والنباتية المتحجّرة التي تعود إلى عشرات الملايين من السنين، وقطع من الحِمَم البركانية.. والمحنّطات الحيوانية والنباتية التي أبدع فيـها الإنسان القندسي ..
إلى جانب بعض المقتنيات التي تعود إلى زمن الثورة التحريرية، كبقايا الشظايا والأسلاك الشائكة.. ومعلقات ترصد العمليات العسكرية التي عرفتها الولاية، وبورتريهات لمجموعة من شهداء ومجاهدي المنطقة، فضلا عن جناح التعذيب الذي كان يمارسه الفرنسي في حق المجاهدين الذين ثاروا ضد الظلم والقمع والقهر، مع عرض مجموعة من مؤلفات أدباء وكُتّاب المدينة، باللغتين العربية والفرنسية.
من أعلام وفقهاء وأدبـاء القنادسة
اقترن اسم ( القنادسة ) بعديد الأعلام والعلماء والأئمة والمشايخ، الذين اضطلعوا بمهمة تحفيظ القرآن الكريم وشرح السُّنَّة النبوية وتوعية المجتمع، وتلقين مبادئ الدين الاسلامي وتفسير معانيه السامية ومفاهيمه الصحيحة، بعيدا عن الغلو والتعصّب والعنف، وتعليم اللغة العربية.. وعلى سبيل المثال لا الحصر برز منهم في العصر الحديث الشيوخ: الإمام الفقيه سي محمد أوسيمو، الفقيه سي محمد البصري ( خرّيج القرويين بفاس بالمغرب )، وابنه الفقيه سي بومدين البصري، الإمام سي محمد عبد الرحماني (خرِّيج الزيتونة بتونس وتلميذ العلاّمة محمد الطاهر بـن عاشـور)، الأستاذ عباسي محمد المهدي، الإمام الشيخ محمد بَطّي، الشيخ سي مبارك عباسي، الإمام سي بن سعيدي الحاج (خرِّيج المدينة المنوّرة)، الإمام سي مبارك بن بلخير الدابلوك، الفقيه الشيخ علي دخيسي، الإمام عبد الرحمن بشيري، سي حَمادة مؤذن، الطالب عبد الكريم حميدي، الطالب بن دخيس يماني بن محمد.. وغيرهم ممن أعلمني بأسمائهم الأستاذ طاهيري مبارك والسيد مختار سلطاني .
أما الأدباء والكتّاب الذين نبغوا في القنادسة وشهدت أحياؤها ودروبها العتيقة وبساتين نخيلها الغَنّاء ميلاد إبداعاتهم وما جادت به أقلامهم، وأضحى منجزهم الأدبي في مصاف نتاج الأدباء العالميين الكبار، على غرار : محمد مولسهول الشهير بـ ( ياسمينة خضرا )، مليكة مقدّم، بيار رابحي.. إضافة إلى الأدباء  فزِّيوي حبيب، رابح السبع، فزيوي عُمار، فزِّيوي حسين، يخلف مبروك، أحمد عموري، محمد جابري، عزيزي عبد الله، زايدي حسين، امحمد السالمي، الحاج فنداوي ..، والكاتب الناقد الدكتور محمد تحريشي، ومن المؤرخين: الدكتور علوي مصطفى والأستاذ صديقي سليمان.. والباحث في التاريخ والتراث السيد مختار سلطاني..
شهداء ومجاهدون .. رجالٌ صدقوا ..
فضلا عن ثلة من الشهداء والمجاهدين الذين أنجبتهم أو احتضنتهم، وبعض المعارك والاشتباكات والعمليات الفدائية النوعية التي دارت رحاها في ربوعها ووهادها، دون أن ننسى سجنها الرهيب والشهير باسم ( معتقل بلهادي ) الذي أقامه الاحتلال الفرنسي بعد احتلاله لمدينة القنادسة، وجعله خصّيصا للتعذيب والاستنطاق والممارسات غير الإنسانية للمعارضين، لا سيما إبّان الثورة التحريرية المجيدة، ترهيبا للسكان وتنكيلا بالثائرين وإذلالا للمجاهدين؛ بهدف توقيف مدّ هذه الحركة التحرّرية المسلحة والمعركة العادلة، التي خاضها شعبنا في سبيل حريته وكرامته التي سُرقت منه طيلة (132 سنة)، والسعي الحثيث والجهاد العملي بقوة السلاح، لاستعادة استقلاله واسترجاع سيادته وهويّته.  
وقد قدّمت القنادسة على مذبح الحرية ثلة من أبنائها شهداء، الذين ولدوا وشبّوا فيها، ومازالت تفتخر بهم وتزهو ببطولاتهم وبشجاعتهم ككـل شهداء الجزائر، وهم كثيرون.
عدا الذين ارتوى ترابها بدمائهم الطاهرة، في عديد العمليات العسكرية، بعدما لقّنوا العدو دروسا في الشجاعة والإقدام، والذين جاؤوا من مختلف المدن الجزائرية .إلا أنّ هذا الزخم التاريخي يجعلني أطرح سؤالا: أما آن الأوان أن يضطلع أحد الباحثين أو الأساتذة بولاية بشار بالقيام بعـمل أو دراسة شاملة في شكل موسوعة مثلا ونحوها، حول أعلام حاضرة القنادسة عبر التاريخ في مجال ( العلم، الأدب، الفكر، الفن، الثورة .. ) ويفرد لها عملا مستقلا مطبوعا ؟ !!.
ما تتميّز به حاضرة القنادسة أنها مـن معاقل الفن الأصيل والموسيقى العربية العريقة التي تناقلتها الأجيال ومازالت، حفاظا على موروثها الفني وطبوعها المحلية، والتي تشتغل على استمـراريتها وبقائها وتوثيقها فرق موسيقية راقية، مثلت الجزائر في كثير من المهرجانات الدولية، والتي يمكن وصفهـا بـ ( الفرق العابرة للـقارات )، عدا المهرجانات المحلية والوطنية، كفرقة: ( الفَرْدة ) و( السَّد ) و( العامة ).. إلى جانب فرق أخرى اندثرت، وأخرى شبّانية جديدة واعدة ..
  مـع اقتران اسمها بزاويتها الشهيرة ومنارتها العلمية الشامخة؛ شموخ الجبال الرّواسي، الزاوية الزيّانية القندوسية، التي أسّسها الشيخ سيدي أمحمد بن أبي زيان على تقوى من الله عام 1686 م، والمتمسكة بالقرآن الكريم وبالسّنّة النبوية الشريفة؛ التي أفردتُ لها كتابا مستقلا سيرى النور قريبا بإذن الله .—

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19630

العدد 19630

السبت 23 نوفمبر 2024
العدد 19629

العدد 19629

الجمعة 22 نوفمبر 2024
العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024