معركة المصطلحات غرضها إقصائي لا يخدم الأدب
شاعر من جنوب الجزائر، متمكّن ومتّزن في تنظيم نصوصه الشعرية، جعل من الشّعر جسرا يربط بين العوالم والفلسفات الشعرية المختلفة ليجعل من القصيدة وهوامشها مشاهدا تعكس تجربة شعرية متفرّدة، شعره يفوح بعبق المعاني الراقية، قيل عنه «عبد الوهاب بوشنة شاعر حقيقي رفيع الشعر، عالي اللغة، ينذر بين أقرانه من بلغ مبلغه من الشعر، ويتجاوز حتى الشعراء الذين يقال عنهم كبارا، عبد الوهاب يحفر عميقا في هدوء ودون ضجيج في خلوته...».
عبد الوهاب بوشنة خرّيج كلية الهندسة المدنية، شارك في عدة أماسي وملتقيات ومسابقات محلية ووطنية وعربية، منها: مسابقة شاعر الجزائر سنة 2015، ملتقى الشعر العمودي بعميرة الحجاج «المنستير»، تونس 2016، الملتقى الوطني الأول للشعر الفصيح بولاية أدرار سنة 2017، الملتقى الوطني الثاني في ضيافة المعبد المجهول بالمعرض الدولي للكتاب سنة 2019، تحصّل على المرتبة الأولى في الملتقى الأول لشعر الشباب بمستغانم سنة 2015، مثّل الجزائر في مهرجان شاعر شباب العرب ببغداد، دورة 2022.
- الشعب ويكاند: هل يمكن التوقف عند تحديد ماهية الشعر بخاصيته اللغوية والموسيقية فحسب؟ أم أنّ هذا المفهوم يتشعّب إلى أبعد من ذلك؟
الشّاعر عبد الوهاب بوشنة: يجب أن نتّفق على أنّ الكثير اختلفوا في تعريف الشعر منذ بدء التكوين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها انطلاقا من رؤاهم الشخصية أو تجاربهم المتقاطعة مع التجارب الإنسانية، فمن قائل لك أنه وزن وقافية ومعان سامية، ومن قائل أنّه قلق وجودي يجعل الشاعر يقاوم تقلبات الحياة بعدم الركون إلى خياراتها الآمنة، ومن معرف له على أنه أكفأ كلام بعد الوحي المنزّل من الله عز وجل لتوفّر البلاغة والجدة، واختلافه عن مستويات الكلام التي يتحدث بها العوام، ومن قائل أنّه قضية ورسالة قبل أن يكون وصفا وإيقاعا وموسيقى، فتّتفق التعريفات في النهاية على أنه محاولة عروج في سماوات المعاني، واقتناص الأحاسيس البشرية ومحاولة وصفها وتشخيصها ومعالجتها إن اقتضى الأمر ذلك، فالشاعر يلعب أدوارا متعدّدة غير دور اللغوي والموسيقي إن جاز أن ينعت بذلك، فهو يتكلم في شتى الأغراض المعروفة نائبا عن لسان البشرية، وعن الجمادات والمعاني أحيانا في محاولة أنسنتها، وبذلك تكون ماهية الشعر الرئيسية هي إشعار الآخر أو الغير بما تعيشه الأنا أو تعيشه الجموع أو ما تدور حوله الفكرة، ويبقى لكل أمة ضوابطها المتعارف عليها في تنظيمه كي لا يظل فوضويا في ماهية مصطلحه، فمعركة المصطلحات التي أثيرت منذ سنوات كلها لها غرض إقصائي لا يخدم الأدب بصفة عامة والشعر بصفة خاصة، ولو فقه الكثيرون أن الأزمة ليست أزمة جوهر إنما هي أزمة مصطلح لحلّت الكثير من العداوات المصطنعة بين جنسي الشعر والنثر مثلا، فكما توجد نصوص نثرية بها شاعرية دافقة، كذلك توجد نصوص شعرية بها نزعة نثرية تنزل بها عن صفة الشّعرية ليكون في المحصلة روح أو ماء الشعر هو الفيصل النهائي في تحديد شعرية النص، مع تواجد ضوابطه المتعارف عليها من إيقاع وعروض وموسيقى داخلية بكل تأكيد، إضافة إلى خصائص كل لغة في شعريتها، فما ينطبق على لغة من قواعد وضوابط ورمزية حروف وإيقاعات صوتية لا ينطبق على غيرها من اللغات، والحديث يطول في ذلك دون شك، إلا أن تقاطعه مع الشعر ضروري لمعرفة اختلاف كل جنس أدبي عن غيره.
- لكل شاعر خياله وأدواته، كيف يصنع شاعرنا قصيدته من خلال هذين المعطيين؟
القصيدة أو النص الشعري مثل الكشف لا يتطرّق إليه إلا بتداخل معطيات ومؤثرات عديدة تنتظر شرارة أو قادحا يقدحها فقط، ودائما ما تختار أوقاتا غير مناسبة لشخص بسيط مثلا لكنها مناسبة لأي شخص موغل في التفاصيل، فمن ملاحظة بسيطة كتضييق لمجال جريان الأفكار على بال الشاعر قد تجري عشرات الأفكار في رأسه في اليوم الواحد، لكن نادرة هي الخيالات والأفكار التي تلحّ عليه لكتابتها، فهي أشبه بحرب بيولوجية لأورام حميدة أو خبيثة لا يتبقى منها في النهاية إلا الفكرة البكر، والتي عادة ما تظل ورما لا يستأصل من رأس الشاعر إلا بلعنة الكتابة أو القول متشاركين في معنى الإفضاء..ولا عجب أن نجد النصوص الخالدة في الشعر كتبت كلها في حالات غريبة جدا بين سجن وتعذيب، ولحظات حميمية بين عاشقين في حالات انتحار أو أثناء معركة أو أثناء قضاء حاجة أو تأدية صلاة أو عبور امتحان نهائي..إلخ.
فلا سبب مقنع لكتابة القصيدة بشكل جبري إذن إلا محاولة ولادة الأحاسيس والأفكار والرؤى بعمليات قيصرية تفسد مخيال الشاعر، وتجعله مستنزفا لنفسه عكس الولادات الطبيعية الأخرى التي يكون مصيرها الصفاء والخلود والقبول بين الناس.
- هل من علاقة بين القصيدة والإنسان؟
القصيدة إن لم تكن الإنسان في كل حالاته أرضية كانت أو سماوية، قد يختلف المؤرخون والمثقفون وأصحاب الدراسات والقرّاء على تاريخ أول قصيدة قيلت أو كتبت في البشرية، لكن في رأيي الشخصي إنّ أول قصيدة وجدت في الكون معنويا وبنيويا هي قصة الخلق بكل تفاصيلها وصورها وإيحاءاتها وحواراتها ورؤاها العميقة، وسردها الذي لا يضاهي أبدا، فأي شيء أعظم من خلق الإنسان الذي خلق الكون لأجله؟
المشكلة تأتي فيما بعد، حيث رأى الإنسان نفسه المركز، وأقصى كل ما حوله من موجودات متناسيا التعايش معها، وأنها خلقت لتؤدي دورا قد يفوق دوره في الحياة إن هو تنازل عن رتبة الإنسانية فيه، فينزل من مرتبة القصيدة إلى منزلة الثرثرة والهذيان، وما أفدح أن يفقد الإنسان نفسه فتفقد القصيدة روحها.
- هل تأثّرت بما يسمى أدب الومضة أو النبضة…؟ وما مدى تأثير الأدب الغربي على نصوصك؟
لا أخفيك أن الأدب عموما والشعر خصوصا يجد لذته في الومضات، وإن جاز لنا التعمق في المصطلح علميا لقلت بكل ثقة أن الومضات المكتوبة بوعي هي إشارات ضوئية خاطفة تختصر عصارة تجارب ذاتية وجمعية في آن واحد، تساعد القارئ المتميز في الاهتداء إلى الخروج من نفق السطحية والنمطية ومواجهة الخوف من التغيير، أما بالنسبة لتأثير الأدب الغربي على نصوصي، فهو كغيره من الآداب له حظ من تكوين ريشة جناحي الطائر لدى كل شاعر إن شاء نتفه حينما يراه مثقلا لحركته، وإن شاء حلق به إن كان فيه شحنة من تكثيف وسمو معنى وانطلاق نحو الحياة. وأرى ذلك في نفسي من خلال العروج في سماوات بعيدة من المجاز، وتقصي غير المألوف دون أن يؤثر ذلك على هويتي المركبة التي اجتمعت فيها أبعاد أربعة (الإسلام، العروبة، الأمازيغية، الإفريقية)، فكيف أقدّم فرعاً على أصل فيه ثراء ثقافي وتاريخي وحضاري يؤتي أكله كل حين بإذن ربه، ويغني عن كل مائدة ثقافية مهما كبرت وتعدّدت أطباقها؟
- تراجع صيت الشّعر عموما في العالم العربي، وما عادت له تلك الحظوة التي كانت. في نظركم ما أسباب هذا التراجع؟
هو ليس تراجعا بالشكل الذي يصوّره النقاد والإعلاميون والدارسون أو من يريدون تصوير الأمر على أنه تراجع، كل ما حدث أن جهات كثيرة حاولت خنقه، مدعيّة أنه مات فإن كان مات أو تراجع فعلا، فلما يهمهم أن يشفى أو ينبعث من جديد خوفا من الرجوع إلى مكانته، واستعادة قيمته الجمالية والإنسانية، إضافة إلى استقلال أجناس أدبية قائمة بذاتها كثّرت سواد الكتاب في تحبير ما يفكرون به مستسلمين إلى فكرة خطيرة لها وجهان مفادها أن الشعر والأدب للعامة، فأخذت أجناس كالرواية والقصة حقها من النقد المسرف أحيانا لا ترسيخا لفعل ثقافي يراد به تثقيف المجتمع بل وأدى لتراث شعري هائل يحاول محو هويات بأكملها، رغم أن الشعر قديما كان هو الجامع لكل هذه الفنون من رواية ومسرح وموسيقى ونقد وقصة وإعلام، ويكفي أن تدرس معلقة واحدة من المعلقات الطوال لتقف على تزاحم هذه الفنون في قصيدة واحدة ! وهذا لا يجعل الأمر محل استياء من استقلالية الأجناس الأخرى أبدا بل هو تطور ضروري يستفاد منه كثيرا إن ألغيت منه الشللية والإقصائية والعداوات الوهمية بين الأجناس الأدبية، وما نراه في الساحة مؤخرا يجعلنا نتفاءل أن هناك شعر جديد يكتب خارج أسوار الجامعات، وسدود التيارات الفكرية القديمة ومعابد كهنة المدارس النقدية، سيضيء مراحل قادمة للبشرية جمعاء لا الشعر العربي فقط.
- كيف يرى عبد الوهاب بوشنة وظيفة الشعر في زمن العولمة؟
لأنّي ممتلئ بالصفاء الروحي فكرا ومنطقا لا ترفا فقط، سأقول بكل طمأنينة أنّ وظيفة الشعر الوحيدة في زمن العولمة هي إعادة الإنسان للإنسان، ومحاربة القبح بالجمال.