اللّغة أهــمُّ دعائــم الهُويَّــة والخصوصية الثّقافيـــــة
يعتبر الدكتور قلايلية أنّ مسألة الأصالة والمعاصرة لا يجب أن تطرح كإشكالية يستحيل حلُّها أو يتعسُّر كثيرًا، كما تحاول بعض الأطراف الترويج لذلك، ولكنَّها معادلةٌ يمكن حلها بيُسرٍ وسهولة إذا توفَّر الوعي الثقافي أولا ثمَّ الوعي السياسي ثمَّ الإرادة السياسية بعد ذلك.
الدكتور أحمد قلايلية كاتب وشاعر، خريج معهد الاتصالات السلكية واللاسلكية بالمدرسة الوطنية بالكاليتوس، ومتحصّل على شهادة الدكتوراه في الأدب العربي اختصاص السرديات، وأستاذ التعليم الثانوي بولاية تيارت.
- الشعب ويكاند: ما طبيعة العلاقة بين اللغة والهوية الثقافية؟
الدكتور أحمد قلايلية: اللّغة أهمُّ دعائم الهُويَّة والخصوصية الثقافية بلا منازع، ولستُ أرى مسوِّغا لمخاطبة جمهورٍ ما بغير لغته، فلكلِّ لغةٍ طرائقُها وأساليبها الخاصَّة في بناء المعنى وفي بناء الصورة الشعرية وفي فهم الكون والحياة؛ إذا كان الفرنسيون يُذكِّرُون الشمس [le soleil] ويُؤنِّثون القمر [la lune]، فنحن نعكس الأمر، وعليه لا يمكن أن تذوب ثقافةٌ ما في أخرى دون أن يحدث اختلال في المعنى وفي السياق، دليلُ ذلكَ ما يعانيه المترجمون من إشكاليات في نقل المعنى والدلالة معًا من لغة إلى أخرى، وأكثر الترجمات تعقيدًا هي ترجمة القرآن الكريم؛ إذْ يستحيل أن تنتقل معانيه الظاهرة إلى لغة ما مصحوبةً بكلِّ أسراره ومعانيه الباطنة في لغته الأصل.
- هل يعني هذا أنَّك ترفض أيَّة لغةٍ أخرى عدَا العربية والأمازيغية؟
بل على العكس من ذلك تمامًا، لأنَّه من الجيِّد ومن الضروريِّ كذلك أنْ نتعلمَ أو نُتقنَ - إن أُتيحَ لنا ذلك - الكثير من اللغات الأجنبية وتحديدًا، لغات الأمم المتطوِّرة من حولنا، الأمر الذي يُتيح لنا بالنتيجة، الاطلاع على ثقافة هذه الأمم والإفادة من مُنجزها الحضاري والتمكين لعملية التثاقف منْ أنْ تأخذ مجراها الطبيعي وتُلحقَ هذه الأمَّة بالركب الحضاري العالمي في كلِّ مظاهره، نحنُ مأمورون شرعًا بذلك، لقوله صلى الله عليه وسلم: «من تعلّم لغةَ قومٍ أمِنَ مكرهم»، ولا يخفى على أحد تكالب الأمم من حولنا على خير أمَّةٍ أخرجت للناس، لكنَّ الإشكال المطروح في هذا السياق، هو ذلك الاستعراض الغبيُّ لعضلات اللسان وتلك الرطانة التي في غير سياقها وفي غير موضعها، الأمر الذي تستهجنه الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها؛ ما الداعي للتواصل بالفرنسية وبغير الفرنسية في بلد يتكلم أهله اللغة العربية أو اللهجات المحلية في أسوأ الأحوال؟ هل هي مظاهر تحضُّرٍ أم عُقَدٌ نفسية لها أسبابها؟ أم شعور بالنقص والحرمان تموِّهه تلك المحاولات الجاهدة في أن يُظهر هؤلاء أنفسَهُم في صورة المتميزين من النخبة المثقفة؟ تحضرني في هذا السياق مقولة برتراند راسل [مصيبة عصرنا هي أنَّ الذين لا يفهمون، هم من يشعر بالتفوق، بينما الأذكياء فعلا تملؤهم الشكوك].
- يجرُّنا هذا إلى إشكالية الأصالة والمعاصرة والجدل القديم الحديث المُثار حول إمكانية وآليات التوفيق بينهما؟
مسألة الأصالة والمعاصرة لا يجب أن تطرح كإشكالية يستحيل حلُّها أو يتعسُّر كثيرًا، كما تحاول بعض الأطراف الترويج لذلك، ولكنَّها معادلةٌ يمكن حلها بيُسرٍ وسهولة إذا توفَّر الوعي الثقافي أولا ثمَّ الوعي السياسي ثمَّ الإرادة السياسية بعد ذلك، لكنْ إذا كان فهم مصطلح
«المعاصرة» فهمًا سقيمًا فحواهُ قطعُ الصلة بالموروث الحضاري والثقافي لهذه الأمَّة، والخروج عن قواعد اللغة العربية والتمرُّد على قِيَمِها، وعلى سُنن العرب في كلامها والدعوة الحمقاء إلى استعمال العامِّية أو ذلك الخليط الهجين من العامِّية والفرنسية بدلا منها وتحطيم ما تبقَّى من عزَّتها وكرامتها، فأنا لا أعتبر هذا تحضُّرًا ومعاصرة، بل هو ذلة وانهزام وانكسار وذوبان في ثقافة الأخر وحماقة كبرى وخيانة كبرى لأمانة كبرى. لغتنا مرتبطة ارتباطا وثيقا وأبديًّا بمعاني القرآن الكريم، الدستور الرباني الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، لذلك يجب أن تبقى كما هي في قواعدها وسُننها..عندما ترجم أسلافنا الكرام في فجر الدولة العباسية لغة اليونان والفرس، جعلوها عربية ولم يجعلوا من أجلها لغتهم يونانية أو فارسية أو لغة ممسوخة من هذه وتلك...مسؤوليتنا جميعا، كلٌّ في موقعه، أن تبقى الصلة قائمة ووثيقة بين ثقافتنا وثقافة أسلافنا وأن نغضَّ السمع عما سمَّاه ميخائيل نعيمة نقيق الضفادع[] وسمَّاه السفهاء من بني جلدتنا سخرية واستهزاءً ]ثقافة الكتب الصفراء[.