الليبرالية فصلت المجتمع المدني ومنحته استقلاليته عن الدولة
معظم منظمات المجتمع المدني العربية تعيد لحن السلطة
في هذا الحوار مع الكاتب والباحث خالد ساحلي، نتجاوز الأسئلة الآنية ونحاول الغوص عميقا في مفهوم «المجتمع المدني» ومختلف الإشكالات الفكرية والسياسية وحتى العقدية المرتبطة بالمصطلح.
وسبق لساحلي أن أصدر كتابا غير مسبوق في موضوعه بالجزائر بعنوان «المجتمع المدني من التأسيس الأوروبي المأمول إلى الواقع العربي المأزوم»، وقبل ذلك أصدر كثيرا من العناونين والمساهمات في القصة القصيرة والشعر وفي حقول أدبية ومعرفية أخرى.
الشعب ويكاند: عاد الحديث مؤخرا عن «الدور المحوري» للمجتمع المدني في أي نهضة حضارية محتملة، هل بدأنا نقترب من الأسئلة الحقيقية؟
خالد ساحلي: لا يمكننا الحديث عن المجتمع المدني دون الرجوع إلى تاريخ تأسيسه والسياقات المتعددة التي ظهر فيها والتي مر بها، والغايات التي جاء من أجلها داخل مناخ متنوع. فلن يتحقق ذلك إلا من خلال تناسل وتعدد الأسئلة الباحثة عن إجابة توضيحية للمفهوم الزئبقي للمجتمع المدني، فالمجتمع المدني صاحب الإيديولوجيات المتعددة، وهو يقع ضمن حقبة زمنية ومجال وفضاء نشأ فيه ولا يُفهم إلا من خلاله.
لقد كانت المبادئ التي نادى بها هوبز وجون لوك وروسو ومونتيسكيو زلزالا في عمق أنظمة الحكم السائدة وقتئذ، فأطاح بالكثير من القوانين التي حكمت بالاستبداد وبطبيعة السلطة المطلقة والملك المخوّل الخاضع للكنيسة. هذه المبادئ غيّرت الكثير وتركت أثرا بالغا، حتى أن المهاجرين الأمريكيين حملوها وكان انتشارها واسعا وكانت الشكل المناسب لحكومتهم التي تأسست على عقد اجتماعي. فأساس التجمعات كان ضمن نطاق السلطة المدنية التي تمجّد الحرية الفعلية وترفض تدخل الغير، وبذلك ظهرت هذه الحكومات بمبادئ عقلية وإلهية. كانت نشأة المجتمع المدني في بيئة شبه ليبرالية ثم تحول إلى بيئة ليبرالية؛ فـ ال م.م يعني في مكان معين النزعة الجمهورية الدستورية، كما يقول بذلك جون إهرنبرغ. ويعني في مكان آخر، الروح الطوعية المحلية المدعومة بمعايير غير رسمية من التضامن والتعاون المتبادل، فإن كلا التوجهين الفكريين يسعى لأن ينظر إلى المجتمع المدني بوصفه ميدانا للفعل الحر الديمقراطي الذي يحد من غوغاء تدخل سلطة الدولة. ويوضح أكثر إهرنبرغ بأنه سرعان ما قامت أيديولوجيا المجتمع المدني المناهضة للدولة، والقائمة على التنظيم الذاتي العفوي والخصوصية والمصلحة والنشاط الفعلي لتحقيق الذات باعتناق مبدإ السوق والدولة الليبرالية على نحو صريح. فالليبرالية فصلت المجتمع المدني ومنحته استقلاليته عن الدولة.
في حين يرى ماركس المجتمع المدني شبكة من العلاقات الاقتصادية تؤثر في تشكيل الدولة مباشرة؛ كما يعتبر فوكو أن الدور الذي تؤديه مؤسسات المجتمع المدني في الأسرة والمنظمات الطوعية ليست بعيدة عن الممارسة السلطوية الممتدة على الجسد الاجتماعي، إذن فقد اشتغل على الممارسة السلطوية أكثر من المؤسسات.
وأقام آدم سميث المجتمع المدني على قيم السوق، لذا شدّد على دور المصلحة الفردية في تحقيق المصلحة العامة، حيث يرى أن التبادل الذي يقف خلف ضرورة تقسيم العمل يؤكد دور المصلحة الخاصة والفردية في تحقيق المنفعة العامة.
أما سمات المجتمع المدني عند فيرغسون فقد حددها ميشال فوكو في أربع سمات: ـ كون تاريخ الإنسان دائما هو تاريخ جمعي ـ وأن المجتمع المدني توليفة طبيعية عفوية وهو ما يرتبط بالسمة الأولى، فلا وجود لعقد قانوني حقوقي مصطنع، والترابط والتعاطف الاجتماعيين هما من يعطيان الروابط الحقوقية والمصالح الاقتصادية؛ وكلما تقوّت الرابطة الاقتصادية ضعفت الرابطة الاجتماعية بشكل أقرب إلى المفارقة، ـ وكل اجتماع بشري يكون دافعه العاطفة والعقل معا، ويعتبر المجتمع المدني قالبا للسلطة السياسية، بما أن السلطة كما اللغة والتواصل بل كما المجتمع والاجتماع نفسه طبيعة إنسانية ـ والمجتمع المدني باعتباره عنصرا محركا للتاريخ بحيث يشكل هو اللعبة الاقتصادية التي يتضمنها مبدأ للتحولات التاريخية، فإن كان ينتج نسيجا أو بناء اجتماعيا ما، فإنه يقوم في الوقت ذاته بهتك هذا النسيج وتمزيقه بشكل مستمر، كما وضحه ذلك حسين يوسف بوكبر في دراسته لمفهوم المجتمع المدني عند ميشال فوكو.
وباختصار موجز، فالمجتمع المدني يراه جون لوك روابط عقدية قانونية وسياسية. ويراه فيرغسون أخلاقا. أما آدم سميث فيراه أسسا اقتصادية. إذن، فإذا كانت انطلاقتنا قد أخذت شيئا من هذه السياقات فقد بدأنا من الأسئلة الحقيقية فعلا.
هل المجتمع المدني هو من أنجب الدولة الحديثة أم الدولة الحديثة هي من أتت بفكرة المجتمع المدني؟
لقد كانت مشكلة الحكم عند آباء الثورة متمثلة في تأمين الأرستقراطية على رأس الحكم. فالاتفاقيات الدستورية كانت ضمانات للحد من الإسراف في الديمقراطية، خاصة في تهديدها لأصحاب الأملاك ومصالحهم؛ مثلا الدستور الأمريكي قبل مبادئ جون لوك رغم ما يفرضه هذا الأخير من كبح للأهواء؛ وهو الرأي الذي يقول به هوبز حول الطبيعة البشرية غير الخاضعة لأي رقابة والواجب الخوف منها، ولحفظ التوازن من جهة فقد شمل الكثير من وسائل الرقابة المانعة لتجاوز الحريات الطبيعية للناس من طرف الحكومة، وبالمقابل إيجاد «اتحاد أكثر كمالا» لكبح الفوضى ومنع الخطر الشعبي وكلاهما خطر على حقوق الملكية. بلا شك، كان المجتمع المدني سبب العقد الاجتماعي الذي تأسست عليه الدولة وجعل المواطنين يتنازلون عن حقوقهم لصالحها، إلا أن مع تطور المفهوم فقد صار المجتمع المدني يوازي الدولة أو هو بديل عنها.
ألا ترى أن مشكلة «التأصيل» عندنا تبدأ من صدام الفكرة الدينية مع المفهوم نفسه، حيث يرى البعض فيه «مؤامرة على الهوية»؟
أتى عصر التنوير بالمجتمع المدني ضد القرطوسية وحارب الفكرة الدينية اللاهوتية التي حاربت العلم وقتلت العلماء، وجاء بفكرة اللائكية والعلمانية، إلا أن ذلك سياق يختلف عن سياقاتنا العربية؛ ولذا يتوجب عدم إسقاط ذاك السياق على مجتمعاتنا، لأننا نملك خصوصية مغايرة. فالإسلام مجّد العلم والعلماء وقام دستوره على وثيقة المدينة التي اعتبرت كأول وثيقة لعقد اجتماعي في التاريخ، حفظ لليهود والديانات الأخرى حقوقهم وخصوصيتهم وهويتهم.أما إذا لبس المستنيرون ذاك السياق، فسيكون الأمر كذلك وجهة نحو الصدام.
أما فيما يخص الهوية، فإن الهويات الجماعية لا تمثل الهوية الفردية، كون الهوية الجماعية تعكس القانون وتمثل كيفية تنظيمية. فالشخصية الجماعية والثقافية تجعل المواطن بمخيلة اجتماعية. إذن، السؤال الرئيسي المهم يتمحور: حول الهوية الوطنية؛ حدودها وطرق التعبير عنها في النقاشات العامة وداخل المؤسسات الرسمية؟ يظهر الواقع أن الهويات تتناقش في المواجهات والمؤسسات وعلاقات القوة، في التمايز والتأقلم. هذا النقيض يؤسس لطبيعة الجماعات الاجتماعية من خلال ديالكتيك في العلاقة بالآخرين، ومن خلال الالتفاف حول الذات ومن خلال منطق السيطرة، ومن خلال الاختلاط الاجتماعي والثقافي. لذلك يتوجب التفريق بين المجتمع المدني والمواطنة الاجتماعية، فالحقل الأول هو عبارة عن فضاء للتعبير مهيكل. أما الثاني فيرتكز على تكوين شخصية وهوية الفرد. حيث يؤمن بأن له دور يلعبه من خلال مشاركته السياسية.
كيف خدمت فكرة تصادم المفهوم مع الهوية الظاهرة الاستبدادية في العالم العربي الإسلامي؟
لا توجد سياسة إذا لم نناقش مسألة الحكم، دائما هناك وصلة دائمة بين المثاليات وبين منطق المؤسسات وتسيير الحكم، فإن المثالية لا تسيّر السياسة، لكن الحكم من يقوم بذلك عندما يمارس فعله السياسي.
أما عن الاستبداد في العالم العربي والإسلامي، فإنه يعمل على تغييب الوعي وإذا غاب الوعي غابت المفاهيم، لأن الشعوب لا تعرف حقوقها ولا تطالب بها. ولأن معظم منظمات المجتمع المدني في الدول العربية تخضع للدولة، فإنها لن تعيد إلا لحن السلطة. يوجد بعض الاستثناء لتنظيمات المجتمع المدني التي تسير عكس تيار الاستبداد العربي، إلا أنها تضيق ذرعا بمختلف المتابعات والإقصاءات والإجراءات التعسفية والبيروقراطية حتى تتخلى عن مقاومتها. وقد يخلق الاستبداد صراعا بين العرقيات والهويات المختلفة بغرض استمراره في السلطة، وإجهاض الفكرة وقد نجح في ذلك.
بالعودة إلى الحديث عن ميلاد مجتمع مدني حقيقي، هل سيكون بديلا عن إفلاس الطبقة السياسية؟
هناك مجتمع مدني لم يولد بعد، إلا أن بواكيره ظهرت. ولا يجب أن ننسى أن الطبقة السياسية جزء من المجتمع المدني، لكن لا نريدها أن تكون هي الوسيط بين السلطة والمجتمع المدني. وأول عامل يعزز هذا التطور للمجتمع المدني، هو فقدان شرعية السياسي على احتواء الأزمات وإيجاد الحلول الممكنة لمعضلات عصره داخل النظام أو إطار المعارضة الذي يشغله.
وأي دور للمجتمع المدني في ضوء الانفجار الرقمي الذي يبدو أنه أتى على كل المفاهيم القديمة؟
هناك ما يسمى بالمجتمع المدني الرقمي والمواطنة الرقمية، وهي نفس الأهداف التي يسعى لها المجتمع المدني واقعا يحولها إلى الفضاء الرقمي، إلا أن العمل في الواقع شيء وعلى المواقع الإلكترونية شيء آخر. وقد يكون الواقع الرقمي هو المرحلة الثانية التي يعرض فيها الفعل كواسطة تواصلية إعلامية، أو أن العمل الرقمي الدعائي في مرحلته الأولى يتحول إلى الواقعي بالفعل، يبدو لي أن الثورة الرقمية اختصرت الكثير من المفاهيم.