البعد المغاربـي لــه أولويـة في سياسـة الجزائـر اليـوم
أكد الدكتور حسين عبد الستار، أستاذ محاضر بالمدرسة العليا للأساتذة ببوزريعة، أن هجومات 20 أوت 1955 التي فضل تسميتها بانتفاضة محطة فارقة في تاريخ الثورة، أظهرت شموليتها لكل المناطق، مبرزا حنكة قادة الثورة في تجنيد البعد المغاربي والإقليمي في فلسفة النصر. وأشار، في حوار خص به جريدة «الشعب»، إلى أن المؤرخ هو من يكتب التاريخ، وليس صانع الحدث، مضيفا أن مؤتمر الصومام أعطى محتوى للثورة لأول مرة.
الشعب: ما الذي نستلهمه من الذكرى 65 لهجومات الشمال القسنطيني وإسقاطها على الوضع الحالي، على ضوء التحديات الإقليمية، لبناء الجزائر الجديدة؟
الباحث الأستاذ حسين عبد الستار: انتفاضة الشمال القسنطيني محطة فارقة في تاريخ الثورة التحريرية، حيث كسر المجاهدون بتنفيذ هجومات 20 أوت هاجس الخوف والتردد لدى الشعب الجزائري، وأفرجوا عن الثورة بخروجها من السر إلى العلن، وأظهرت شموليتها لكل المناطق ولكل فئات الشعب الجزائري، وساعدت بذلك في التخطيط للثورة بعقد مؤتمر الصومام للنظر في الأهداف السياسية للثورة والمبادئ، التي تجب أن تسير وفقها والعمل على هيكلة وتنظيم الثورة تنظيما دقيقا ومحكما، من خلال استحداث مؤسسات لا تزول بزوال الرجال – للابتعاد عن الشخصنة والاجتهادات الفردية – ما يضمن استمرار الثورة ونجاحها.
وأعلن صانعو ملحمة 20 أوت شعبية الثورة وامتدادها إلى خارج منطقة الأوراس، بل وإلى خارج الجزائر من خلال تضامنهم مع الشعب المغربي الشقيق في ذكرى نفي ملكهم محمد بن يوسف (محمد الخامس).
هذا المعطى الخارجي الهام يعبر عن مدى نضج قادة الثورة في مدى تناسق اختياراتهم العسكرية مع أهدافهم السياسية، في إدراكهم لأهمية تجنيد البعد المغاربي والإقليمي في فلسفة النصر. ولعلّ هذا من أهم مميزات كفاحنا ضد الاحتلال، وهو اقترانه ببعده المغاربي.
ومن الصدف أن نفس التحدي قائم اليوم في المنطقة المغاربية، لذلك لابد من الاستفادة والاستلهام من إرثنا التاريخي وثقل ذاكرتنا في رسم معالم المستقبل.
واعتقد أن الجزائر ممثلة في قيادتها السياسية والعسكرية مدركة كل الإدراك أن البعد المغاربي له الأولوية في سياستها الخارجية، على ضوء التحديات الأمنية والسياسية الخطيرة، التي تهدد أمننا القومي.
في الجزائر يفترض أن تكون حجر الزاوية في حل الأزمة الليبية – وهي تسعى لذلك – لاعتبارات تاريخية وعلائقية يسودها الود والتعاون والمواقف الايجابية ويحتفظ الشعب الليبي بذاكرة تاريخية تجعل احترام الرؤى الجزائرية مهما، وكثير من القاعدة الشعبية تنتظر دورا فعالا للجزائر، ينسجم مع الرؤية الليبية البعيدة عن كل الاستقطاب والتجاذبات لأن الجزائر حليف استراتيجي وتاريخي بالدرجة الأولى.
وبخصوص المغرب، لم تتضح بعد ملامح مستقبل العلاقات الجزائرية المغربية عقب انتخاب رئيس جديد للجزائر. واعتقد أن عودة العلاقات إلى سابق عهدها من الصعب بمكان، نظرا للقضايا الخلافية التي ما فتئت تتفاقم، على رأسها قضية الصحراء الغربية التي أضحت محل تجاذب دولي تلقي بظلالها وتأثيراتها السلبية على مستقبل العلاقات بين البلدين.
لذلك لابد من الاعتراف أن وضع العلاقات بين البلدين غير طبيعي وغير مقبول، فهذه الخلافات أصبحت هدية للدول الكبرى لتلعب على هذا الوتر وتعمل جاهدة للضغط على البلدين لتحقيق مكاسب سياسية واقتصادية. وإن كان لابد من الإشارة إلى أن السلطة المغربية لا تقوم بالعمل اللازم والكافي لتحسين العلاقات بين البلدين.
واعتقد أن العلاقات بين البلدين لا تميل فقط إلى الراهن السياسي كحاجة وإن كان ضروريا، ولكن أيضا إلى الرأسمال التاريخي المشترك الذي يعطي فسحة من الأمل للعلاقات بين البلدين مستقبلا.
ما المغزى من الذكرى، خاصة وأنها اندلعت تضامنا مع نفي ملك المغرب إلى جزيرة مدغشقر؟
انتفاضة الشمال القسنطيني شهر أوت 1955 في المنطقة الثانية حدث معلمي في تاريخ الثورة التحريرية، لاسيما وأنها حققت أهدافا داخلية وخارجية، سياسية وعسكرية أعطت دفعا قويا لاستمرارية الفعل الثوري على كافة المستويات.
ذكرى 20 أوت حدث ذو رمزية ودلالة عميقة، لذلك وجب تثمين الأحداث المؤسسة للأمة. كيف لا وهو تاريخ فارق أعاد تفجير الثورة الّتي كادت أن تختنق، فهو بحق يصلح تسميته بنوفمبر الثاني.
وما زاد في قيمة الحدث، إلى جانب أهدافه الداخلية، تلك الأهداف الخارجية التي توخى رفاق زيغود يوسف تحقيقها على المديين القريب والبعيد، لعل أهمها العمل على تدويل القضية الجزائرية في المحافل الدولية، والتنسيق مع الحركات المغاربية لمغربة الكفاح المسلح. فانتفاضة 20 أوت 1955 تمت بالتنسيق مع أعمال قام بها جيش التحرير الوطني في المغرب، بما أن تاريخ 20 أوت تزامن مع الذكرى الثانية لنفي ملك المغرب محمد بن يوسف على يد السلطات الفرنسية، وكذا مع التونسيين حيث تمت معهم محاولة لإنشاء جيش مغاربي، سعت الحركات الوطنية المغاربية التنسيق لإنشائه مع مطلع الخمسينيات بهدف مغربة الكفاح.
تميز الكفاح من أجل الاستقلال ببعده المغاربي والجزائر تدرج سياستها الخارجية في هذا البعد، ما دور وثقل الذاكرة في رسم معالم المستقبل؟
نظرا لطبيعة المخاطر الجديدة على الدول، نتيجة اتساع ظاهرة التهديدات ذات الطابع العابر لحدود الدول، الجزائر على غرار دول المغرب العربي تنتظرها رهانات وتحديات كبيرة. هذه المسألة تدفعها أولا إلى ضرورة تكييف دبلوماسيتها الأمنية في فضائها العام مع التدبير السياسي العمومي لسياستها الخارجية التي تستند على مقومات وثوابت دستورية وقانونية ودبلوماسية، منها الحفاظ على مسافة واحدة مع جميع الفواعل، مما أنقذ الجزائر من الدخول في استقطابات ثنائية وصراعات محاور، كما هو الحال في منطقة الشرق الأوسط.
ما دور المنطقة التاريخية الثانية في ميلاد شبكات التسليح بالجهة الشرقية، لأننا نلاحظ تهميشا لهذه المنطقة في الندوات التاريخية ووسائل الإعلام؟
أولا لابد من الإشارة إلى أن تطور مشروع الخيار العسكري ارتبط ارتباطا وثيقا بمسألة التسليح أو الدعم اللوجستيكي، الذي يعدّ من المواضيع، التي طرحت إشكالية أساسية في الثورة التحريرية، منذ ما قبل الانطلاقة إلى وقف إطلاق النار.
وأجمع المؤرخون على اعتبار معركة تسليح الثورة من أعقد المعارك، حيث سعت قيادة الثورة عشية انطلاقها إلى تذليل كافة الصعوبات المتعلقة بمتطلبات العمل العسكري، كالتمويل والتموين والتسليح..
وبالرغم من أنّ المنطقة الثانية أو منطقة الشمال القسنطيني تزخر بتعداد معتبر من مناضلي الحركة من أجل انتصار الحريات الديمقراطية، وامتلاكها خبرة أعضاء المنظمة الخاصة، إلّا أنّ الإنطلاقة الثورية بها لم تكن ناجحة كما كانت عليه في منطقة الأوراس، وشهدت المنطقة صعوبات كبيرة كغيرها من المناطق، لقلة الأسلحة والذخيرة، حيث تشير المصادر الى أنّ العمل الثوري انطلق ببنادق حربية وأسلحة صيد وبعض المتفجرات تم توزيعها ليلة الفاتح من نوفمبر 1954.
لكن على العكس من ذلك، فقد شهدت المنطقة الثانية تطورا عسكريا ملفتا بعد هجومات 20 أوت 1955، فقد تمكن جيش التحرير من مضاعفة عدده وتدعيم صفوفه، حيث قدرت وثائق الأرشيف الفرنسي عدد المجاهدين لغاية شهر أكتوبر 1955 ما بين تسعمائة (900) وألف ومائتي (1200) مجاهد، 70% منهم مسلحون ببنادق صيد، و30% منهم مسلحون سلاحا حربيا..
وتعد المنطقة الثانية من المناطق التي أبلت البلاء الحسن خلال مراحل الثورة ولاسيما في المرحلة الأولى، أين تمكنت من رفع الحصار على منطقة الأوراس بعد انتفاضة 20 أوت 1955 بقيادة زيغود يوسف، رحمه الله، وبفضل العمل الجاد والمثمر لأجل خلق شبكات التسليح، لاسيما بعد سنة 1955م. وإن كانت المنطقة الثانية لم تأخذ نصيبها من الدراسة والتعريف بدورها في الثورة التحريرية، سواء في الفضاءات التاريخية كالملتقيات والندوات.. أو في وسائل الإعلام المختلفة.
ما رأيكم في عدم تسجيل قتلى ملعب سكيكدة شهداء؟
بعد العمليات النوعية التي قام بها الثوار واستهدفت المراكز الفرنسية بكامل أنحاء الشمال القسنطيني في 20 أوت 1955، لجأت إدارة الاحتلال الفرنسي إلى شن عمليات انتقامية وقمعية رهيبة ضد المدنيين الجزائريين في مناطق عديدة، كسكيكدة، عين عبيد، الميلية، الحروش والسمندو... خلفت مجازر جماعية رهيبة شبيهة بمجازر ماي 1945، راح ضحيتها أكثر من 12 ألف شهيد.
ومن أبشع هذه الجرائم تلك التي أقدمت القوات الفرنسية على إعدام 1500 جزائري من مختلف الأعمار بالرصاص عبر مختلف أحيائها بعد تجميعهم في ملعب المدينة.
أما بالنسبة لسؤالكم حول تسجيل قتلى ملعب سكيكدة كشهداء، اعتقد أن هذا أقل واجب يمكن أن يقدم لهؤلاء وللجهة المختصة بالتسجيل أن تجيب عن ذلك. لكن في رأينا ليس فقط تسجيل هؤلاء كشهداء، بل أن يحول الملعب ذاته إلى معلم تاريخي ليكون شاهدا على جرائم فرنسا ولكي تبقى ذاكرتنا حية، لكن الواقع شيء آخر.
أتذكر أنه قبل عشر سنوات وجه أحد الصحفيين سؤالا حول هذا الملعب الذي كان من المنتظر أن يحول جزء من أرضيته المعطرة بدماء الشهداء إلى أرضية لبناء سكنات، وهو السؤال الذي لم يستطع مسؤول منظمة أبناء الشهداء الرد عليه.
أعتقد أننا في حاجة لإعادة النظر في كيفية تعاملنا مع ذاكرتنا الجماعية والعمل على حماية كل الشواهد والمعالم والإرث التاريخي الّذي هو رأسمالنا، فالذاكرة الجماعية خزان لثقافتنا وتاريخنا، فهي تمدنا بالسلوكات والمواقف والقيم، وبالطاقة الضرورية للاستمرار والديمومة.
ألا تستحق ملحمة 20 أوت 1955 فيلما سينمائيا يحاكي هذه الهجومات ويعرف بتاريخ الجزائر؟
الحقيقة أنّ السينما التاريخية هي المرآة الأخرى لثورة عايشها شعب بجميع تفاصيلها الزمانية والمكانية، لكن في اعتقادي وبعد قرابة ستة عقود على استعادة السيادة الوطنية، وبالرغم من كل ما أنتج عن كفاح الجزائريين من أفلام وأفلام وثائقية يبقى هزيلا، فشلت السينما الجزائرية في نقل عظمة هذه الثورة إلى الأجيال الجديدة، سواء محليا أو على الصعيد الخارجي.
يجب أن ننطلق من كون الثورة الجزائرية ليست ككل الثورات، فهي فريدة ومتميزة وهذه هي الصورة الّتي يجب أن تؤخذ عنها، لذلك دائما ما نبهنا إلى ضرورة التسويق لهذه الثورة العالمية في الخارج وليس الداخل فقط.
كيف لدول تملك ثورات محلية لكنها أحسنت استغلالها وتوظيفها لتصنع منها تاريخا وتدخلها العالمية، في وقت ثورتنا أيقونة ثورات التاريخ المعاصر تحتاج منا هذا الجهد للترويج والتسويق لها بمختلف الوسائل الممكنة ولاسيما الإنتاج السينمائي الّذي يجب أن يكون ضمن اهتمامات الدولة وأولوياتها الثقافية، فكل المحطات التاريخية لثورتنا تحتاج لأفلام وأفلام ووثائقيات، كونها تبرز ملامح ستبقى خالدة في التاريخ الإنساني، ثم أن هذا التسويق سيجلب لنا فوائد سياسية واقتصادية وسياحية، نحن في أمس الحاجة إليها.
في الأخير نؤكد على ضرورة الاهتمام بشكل أكبر والاستثمار في الإنتاج السينمائي التاريخي لأجل أن نعطي الثورة الجزائرية حجمها، فهي الأيقونة بامتياز.
لماذا الجدل قائم حول مخرجات مؤتمر الصومام وأولوية الداخل على الخارج والسياسي على العسكري ومسألة الإسلام؟
أساء التوظيف السياسي للتاريخ لكثير من المحطات التاريخية في ثورتنا التحريرية وإلى الكثير من رموزها، ولعلّ مؤتمر الصومام واحد من المحطات الّتي أثارت جدلا واسعا وتوظيفا سياسيا وجهويا ومناطقيا خطيرا، دفع بالبعض إلى محاولة تقزيم الحدث واعتباره حدثا عرضيا في ثورتنا، بل اعتبره آخرون انحرافا عن خط بيان أول نوفمبر.
ووصل فيه التراشق لحد تخوين الرموز وهو يعكس حالة لا ترقى للأخلاق والنضج الّذي ينبغي أن يتحلوا به حفاظا على اللحمة الوطنية، خاصة وأن مثل هذا التلاسن غالبا ما يتطور ليأخذ أبعادا جهوية وتحريك نعرات عصبية.
لابد في هذا السياق أن ننبه إلى أنّ ما يقال ليس فعلا معزولا واعتباطيا دون أن يكون هناك من يحرك هذا التجاذب أو يغذيه، ويبقى الأكيد أن المستفيد الأكبر من الإساءات المتكررة للثورة هو مستدمر الأمس ومن في فلكه في الداخل.
بالنسبة لمبدإ أولوية السياسي على العسكري فقد أثار نقاشا حادا خلال طرحه في مؤتمر الصومام ولا يزال يطرح تساؤلات، وقد تعددت آراء الّذين عاصروا الحدث والمؤرخين الّذين كتبوا عن الموضوع في إعطاء تفسيرات لمبدإ أولوية السياسي على العسكري.
هناك من وصف القرار بالخطير، إذ من شأنه إحداث شرخ داخل قيادة الثورة بسبب تداخل العمل السياسي والعسكري. ويذهب الراحل علي كافي إلى القول أنّ التأكيد على هذا المبدأ ارتبط بشخص عبان رمضان، الّذي لم يكن استجابة طوعية للمعايير الديمقراطية وإنّما استخدمه لفرض نفسه زعيما للثورة وافتكاك السلطة من القيادات العسكرية ووضعها في يد السياسيين باعتباره محسوبا منهم، حيث لم تكن تأثيراته ايجابية وساهم في إحداث شرخ كبير في هياكل الثورة.
وبهذا الخصوص كتب: «تكرست الخلافات بين الداخل والخارج، وازداد التسابق نحو السلطة وتبلورت الأطماع وعادت الانقسامات ومخلفات ما قبل الثورة، وظهرت مراكز قوى أدت إلى تناقضات واصطدامات في صفوفها كادت أن تمزق جبهة الثورة، لولا يقظة وتضحية وإيمان جيش التحرير الوطني في كامل الولايات وارتباطه بمبادئ الثورة».
ويتضح من خلال قراءة ما كتبه علي كافي، أنّ أحكامه بخصوص هذا المبدأ قد جانبت وابتعدت كثيرا عن الحقيقة التاريخية وذلك لاعتبارات عدة منها:
الدارس بتمعن وتفحص لمحتويات بيان أول نوفمبر يتبين له مدى الاهتمام الكبير الّذي أعطته جبهة التحرير للنضال السياسي على الصعيدين الداخلي والخارجي، وهذا دليل على ايمانها بأنّ الوسائل العسكرية وحدها غير كافية لجعل فرنسا تجلس إلى مائدة المفاوضات الّتي حددت الجبهة شروطها في نفس البيان. كما أنّ البيان اعتبر الدخول في مفاوضات مع فرنسا وسيلة من وسائل الكفاح، فهو إذن يتحدث على العمل السياسي والعسكري على حد سواء.
إنّ الذين حضروا مؤتمر الصومام وصادقوا على قراراته ومن ضمنهم مبدأ أولوية السياسي على العسكري كانوا في معظمهم من العسكريين، ممّا يجعلنا لا نساير علي كافي في طرحه.
وعلى النقيض من ذلك، هناك من رأى أنّ إقرار المؤتمر لهذا المبدأ هو قرار منطقي وموضوعي، حيث جاء في شهادة مصطفى بن عودة: «تحفّظنا عليه لأنّنا لم نكن جيشا من المحترفين وكانت المهام السياسية والعسكرية متداخلة في بداية الثورة… إنّ تخوفاتنا من هذا المبدأ سرعان مازالت عندما أعطيت لنا توضيحات من واضعي الميثاق بأنّ المقصود بالمبدأ هو التركيز على التفاوض مع فرنسا لضبط شروط وقف إطلاق النار، لأنّ الانتصار العسكري على واحدة من أكبر الدول الاستعمارية في العالم يعد من باب المستحيلات تقريبا».
واستنادا إلى شهادة بن يوسف بن خدة، فإنّ مبدأ أولوية السياسي على العسكري مبدأ تبنته جميع الثورات، لذلك أكدّ عليه مؤتمر الصومام حتى يبين أنّ الهدف الأساسي للثورة هو سياسي.
وتدعيما لهذا الرأي يقول سعد دحلب: «بالنسبة لأولوية السياسي على العسكري أعتبرها مسألة بديهية، فقضيتنا سياسية، وهي ذات علاقة متواصلة مع أهداف سياسية… فما كان يجب أن تعرف جبهة التحرير هذا النوع من الصراع...».
وعليه، فإنّه بالنظر إلى جملة الآراء المقدمة في تفسير هذا المبدأ نرى أنّ الدافع الأقرب إلى الموضوعية الّذي أدى بعبان رمضان وبن مهيدي إلى اعتماد مبدأ أولوية السياسي على العسكري، كان يتمثل في السعي لتقويم التراكمات السلبية الّتي تمخضت عنها المرحلة الأولى من الثورة، والّتي ظهرت من خلال التراجع الكبير للإشراف السياسي على النشاط الثوري من جهة، ووجود اتصالات جد متقدمة مع السلطة الفرنسية، ولذلك تطلب الأمر منح الفرصة للعمل السياسي، ومن جهة أخرى كان لابد من إضفاء غطاء سياسي على العمليات العسكرية الّتي تعد بمثابة وسيلة ضغط في يد المفاوضين الجزائريين.
أما بخصوص مبدأ أولوية الداخل على الخارج، فإنّ تقييم مبدأ أولوية الداخل على الخارج لا يكون موضوعيا إذا ما نظرنا إليه في ظل الظروف الّتي ميزت العلاقة بين القيادة المركزية في العاصمة وبين الوفد الخارجي في سنتي 1955-1956، لأنه كان في الأصل مبدأ أساسيا عند الانطلاقة، ولم يكن وليد مؤتمر الصومام، إذ نجده قد طرح بقوة أثناء عملية التحضير للثورة خلال اجتماعات لجنة الستة، وهو ما يشير إليه محمد بوضياف، حيث تم الاتفاق أثناء اجتماعات هذه اللجنة على مبدأين أساسيين وهما:
- اللامركزية، نظرا لاتساع البلاد، الّذي يجعل من الصعوبة أن يقوم جهاز مركزي بالإشراف على الكفاح، ومن ثمة حرية المبادرة لكل منطقة.
- أولوية الداخل على الخارج، فالقرارات ينبغي أن تصدر عن المجاهدين في الداخل.
ونجده يشير إلى هذه القضية أيضا في الرسالة الّتي بعث بها إلى الوفد الخارجي من برن بتاريخ 29 أكتوبر 1954، ويظهر أنّ الدافع الّذي جعل لجنة الستة تتبنى هذا المبدأ هو رفض مفجري الثورة لفكرة وجود قيادتين إحداهما في الداخل والأخرى في الخارج، لهذا قررت تفويض الوفد الخارجي ليتحدث باسم قيادة الثورة الموجودة بالداخل، وهو ما جاء صريحا في نص الرسالة المذكورة أعلاه: «بالنسبة للسلطة لقد تقرر حتى الآن وبالنسبة للخارج يكون لكم أنتم الثلاثة وليس لأحد آخر سلطة الكلام باسم هذا العمل...».
أمّا عبان رمضان فيؤكد على مبدأ أولوية الداخل على الخارج، ويفسّر ذلك بمنطق الأشياء الذي يقتضي أن يكون الخارج تابعا للداخل واستحالة قيادة العمل الثوري من الخارج ومصدر أهلية الداخل هو شمولية نظرته للوضع وتحكمه في القوة الرئيسة للثورة.
وبهذا فإنّ مؤتمر الصومام لم يقم بسنّ هذا المبدأ، وإنمّا كرّس توجها ومبدأ أصيلا من المبادئ التنظيمية الّتي ارتكزت عليها الثورة منذ بدايتها.
رغم ذلك لم يسلم مبدأ أولوية الداخل على الخارج من الانتقاد - على الرغم من أنّه كان يتوافق مع الضرورات التي كان يتطلبها الأداء الثوري- لأنّ تفسيره لم يستند إلى أهميته ومنطقيته وإنمّا تمّ ربطه بصورة مباشرة بالخلفيات المتعلقة بصراع الأشخاص، لأنّ كل القراءات السلبية لهذا المبدأ انطلقت من الفكرة التي تجعله ثمرة لنوايا عبان رمضان من أجل إقصاء عناصر الوفد الخارجي من قيادة الثورة.
ويشير المناضل عبد الرزاق شنتوف، أحد أعضاء لجنة الإعلام والتوجيه، الّتي كونها عبان رمضان لإعداد المشاريع التمهيدية لأرضية الصومام، «أنّه لم يشاطر عبان رمضان رأيه لأنّ هذين المبدأين يترجمان-في نظره– اعتبارات سياسية واضحة ويهدفان إلى تكريس جماعة وتحييد أخرى لا غير...».
ويذهب محمد حربي، إلى أنّ التأكيد على المبدأ كان جد متوقعا من طرف قادة الداخل، لاسيما وأنّ كريم بلقاسم وعبان رمضان ابتداء من سنة 1956 نصبا نفسيهما قائدين فعليين للثورة، وإذ عينا دباغين رئيسا للوفد الخارجي، كانا يؤكدان هذه الأولوية ويشعران بن بلة وبوضياف بتبعيتهما للداخل.
على النقيض من هذه التفسيرات، يرى لخضر بن طبال أنّه من الأحق أن تكون القيادة كلها بالداخل حتى يكون هناك فكر واحد ورأي واحد، وهو نفس ما ذهب إليه مصطفى بن عودة بقوله: «إنّ من لا يشارك في إطلاق رصاصة فاتح نوفمبر لا يجوز له أن يكون ضمن قيادة الثورة، فإذا أرادوا ذلك فما عليهم إلّا أن يدخلوا ويتركوا مهامهم في الخارج لعناصر ثانوية بهدف التمثيل والدعوة لا القيادة»، ويضيف «إنّ ما تقرّر في مؤتمر الصومام بهذا الشأن ما هو إلاّ تحصيل حاصل».
ويذهب محمد تقية، أحد ضباط الولاية الرابعة، إلى أن سنّ مبدأ أولوية الداخل على الخارج هو قرار حكيم، فالأولوية للّذين يواجهون العدو.
بينما كتب سعد دحلب عن هذه الأولوية بوضوح ما نصّه: «في الحقيقة بتأكيدنا على هذه المبادئ لم نقم إلّا بإعادة تأكيد الحقيقة الملموسة، وهي أنّنا نقيم في الداخل وفيه نقاتل، نعلم بمجريات الأمور، نعلم إذا كان في إمكاننا التقدم والتراجع، إذا كان في إمكاننا الصمود أولا، إذا كان الشعب يتبعنا يوافق أم لا، فمهما كانت القرارات في اتجاه أو في آخر للحرب أو السلم، فالقرار لا يمكنه أن يطبق أو يرفض إلّا في الداخل ومن طرف الداخل... فالجزائر هي الّتي أوقفت إطلاق النار وليست تونس أو الرباط أو القاهرة».
يؤكد هذه التفسيرات سليمان الشيخ لمّا يقول: «نستطيع ترجمة مبدأ أولوية الداخل على الخارج من خلال تنصيب قادة الخارج أنفسهم ممثلين حقيقيين للشرعية الوطنية. ومن جهة أخرى، فقرار الأولوية يهدف إلى دحض فكرة انقياد الحركة التحررية من الخارج وتأكيد تبعية مسؤولي الخارج للداخل».
يمكن القول انطلاقا من التفسيرات المقدمة، أنّ مبدأ أولوية الداخل على الخارج نظريا هو قرار منطقي، بالنظر إلى تبني قادة الثورة له منذ الانطلاقة، فجاء مؤتمر الصومام مؤكدا ومرسخا له تبعا لظروف الكفاح.
ما تقييمكم لوثيقة الصومام؟
لمؤتمر الصومام قيمة تاريخية بالغة الأهمية، فقد كان، على حد تعبير توفيق المدني، «صغيرا في حجمه، كبيرا في سمعته، كانت مقرراته تشبه ميثاقا وطنيا، أعطى لأول مرة محتوى للثورة الجزائرية...».
لذلك اعتبره بحق منعرجا حاسما في تاريخ تطور الثورة التحريرية الجزائرية، حيث قام بتحديد الأهداف السياسية للثورة والمبادئ الّتي تسير عليها، كما أنّه تمكّن من هيكلة وتنظيم الثورة تنظيما دقيقا ومحكما، بفضل المؤسسات المختلفة الّتي أوجدها المؤتمر والمتمثلة في المجلس الوطني للثورة الجزائرية ولجنة التنسيق والتنفيذ، بالإضافة لإنشاء المجالس الشعبية وتنظيم الفئات الاجتماعية والمهنية.
وبالرغم من ما أحدثه مؤتمر الصومام من دفعة وديناميكية في الأداء الثوري، إلا أنّه تسبب أيضا في ردّة فعل على مختلف الأصعدة، جعلت الفترة مشحونة ومليئة بالتراكمات وتسارع الأحداث وردّات الفعل وانعكاساتها. فقد شهدت الثورة أزمات متتابعة أنتجتها ردود الفعل من مقرارات الصومام، إذ فتحت الباب على مصراعيه لأزمات وصراعات داخل الثورة في المواقف إلى ما بعد استعادة السيادة الوطنية.
أحدث مبدآ الأولويات- أولوية السياسي على العسكري وأولوية الداخل على الخارج- شرخا كبيرا في التفاعلات بين قياديي الثورة في الداخل والخارج، بسبب التناقضات في فهم وتطبيق هذين المبدأين، ونتج ذلك عن أزمات خطيرة بين القادة، انتهت نظريا بتحوير المبدأين في الدورة الثانية للمجلس الوطني للثورة شهر أوت من سنة 1957، لكن سرعان ما عاد الصراع من جديد داخل لجنة التنسيق والتنفيذ، فقد من خلالها عبان رمضان نفوذه القوي من على رأس قيادة الثورة في الداخل، ثم حياته باغتياله شهر ديسمبر 1957.
رغم ذلك تبقى وثيقة الصومام- بحسب رأيي- مرجعا وميثاقا مهمّا للثورة الجزائرية وللدولة أيضا، على غرار بيان أول نوفمبر وميثاق طرابلس، وإن كانت لا تلقى الاجماع ولا ترق لمستوى بيان أول نوفمبر كمرجعية للشعب الجزائري لاعتبارات منطقية وموضوعية.
غلب على مذكرات بعض قادة الثورة الشخصنة، ولم ترفق بأي عمل أكاديمي موثق، لماذا لم يفصل المؤرخون في وثيقة الصومام؟
كتابة المذكرات ظاهرة صحية في كل المجتمعات، وهو ما قامت به ثلة ممّن صنعوا ثورة نوفمبر الخالدة. لكن لابد من التنبيه أنّ مذكرات قادة الثورة ليست هي التاريخ بل هي سير ذاتية، تستغل كمادة مهمة لكتابة التاريخ في غياب الوثائق ومصدر مكمل ضروري لملء الفراغات في التاريخ المكتوب، فالمتخصص والأكاديمي بل والمؤرخ هو من يكتب التاريخ. وليس صانع الحدث، كون هذا الأخير يغلب على كتاباته الذاتية والأنا والشخصنة، لذلك فإن المؤرخ في كتابته للتاريخ يعتمد الوثائق والشهادات ومذكرات الفاعلين… وعلى مختلف الروافد المساعدة في الكتابة، مطبقا عليها خطوات البحث العلمي التاريخي، وصولا للشرح والتقصي والتحليل ثم بناء النتائج.
والحقيقة أن مذكرات صانعي الثورة - أحيانا للاعتبارات الذاتية والإيديولوجية والسياسية -أثارت جدلا ونقاشا كبيرين في الكثير من المسائل والإشكاليات، على غرار ما كتب حول مؤتمر الصومام ووثيقة الصومام. لذلك كان من الصعب على المؤرخ، في غياب الوثائق وتضارب الآراء بين من كتب حول الحدث ممّن عايشوه عن قرب، الفصل في الموضوع، لأن الكتابة التاريخية في الجزائر عرفت لعقود، مرحلة كتابة التاريخ الرسمي، ثم أن مذكرات بعض قادة الثورة ـ على قلتها ـ لم تكتب في حينها، بل أن أغلبها كتب بعد أربعة عقود أو أكثر من الاستقلال، فكثير منها شابها التوظيف السياسي والرغبة في التموقع والذاتية وغياب التفاصيل.
وبخصوص وثيقة الصومام فقد كتب عنها الكثير من الأساتذة والمؤرخين- ولازالت كتاباتهم في أدراج الجامعة تنتظر من يفرج عنها- فهي من مواثيق الثورة الجزائرية، وإن كانت لا ترق لوثيقة نوفمبر الخالدة بسبب تعديها على أبرز مقومات الهوية الوطنية العروبة والإسلام وتكريسها لمبادئ تنظيمية ساهمت في تفاقم الصراع بين الهيئات القيادية للثورة وهو ما استند إليه المعارضون لمؤتمر الصومام والوثيقة الّتي تمخضت عنه ومنهم الوفد الخارجي وأخص بالذكر بن بلة ومهساس..
ما وجه الشبه بين زيغود يوسف وعبان رمضان ووجه الاختلاف بين القائدين؟
هما من رموز الجزائر ورجالها، فزيغود يوسف هو من خطط وهندس إلى جانب رفاقه لانتفاضة الشمال القسنطيني وهو من كان صاحب فكرة الصومام رفقة عبان رمضان من خلال الاتصالات التي ربطت بين الطرفين بعد انتفاضة 20 أوت بفضل عمارة رشيد وإبراهيم مزهودي للإطلاع على وضع الثورة.
وهو ما جاء في رسالة عبان رمضان للوفد الخارجي بتاريخ 1 ديسمبر 1955، وإن كان مجموعة الستة ختمت آخر اجتماع لها في 23 أكتوبر 1954 وحددت موعدا جديدا شهر جانفي 1955 لتقديم حصيلة أولى ورسم الآفاق الجديدة، لكن الموعد لم يتم لاعتبارات كثيرة أمنية، سياسية...
وكان زيغود يوسف من الحاضرين في مؤتمر الصومام ممثلا للمنطقة الثانية، فهو بحق من الرجال القلائل في مواقفه وتدبيره وإخلاصه، وهو ما سمعته شخصيا من الوزير السابق وأحد ضباط جيش التحرير في المنطقة الثانية محمد كشود، رحمة الله عليه. وأعتقد أن شخصية بحجمه لا تكفيه كتب ومجلدات، على غرار الكثير من قادة ثورتنا.
وبخصوص عبان رمضان، برز كقائد للثورة منذ 1955 بعد إطلاق سراحه، أسندت إليه مهمة الدعاية للثورة، شكل قيادة مركزية للثورة في العاصمة في غياب بوضياف، منسق الثورة وواجهتها السياسية، تمكن من الاتصال بالتشكيلات السياسية للحركة الوطنية الجزائرية ونجح في توحيدها لصالح الثورة، كما يرجع له الفضل، رفقة آخرين، في التحضير للصومام وتنفيذه. كثيرا ما ارتبط اسمه بمؤتمر الصومام.
في هذا المقام أود أن أوجه رسالة مفادها، أن المهم ليس من هو زيغود يوسف ومن هو عبان رمضان وغيرهم من رجال وقادة ثورتنا كثيرون… وإنما المهم كيف نحفظ لهؤلاء هيبتهم ونحمي الرموز من التراشق حد التخوين، وهو يعكس حالة لا ترقى للأخلاق والنضج الّذي ينبغي أن يتحلوا به حفاظا على اللحمة الوطنية، في ظل التلاسن الذي اصطبغ بصبغة مناطقية وجهوية ونعرات عصبية، أردت أن أنبه فقط الى أن الكثير من الدول لا تملك تاريخا ولا رموزا، لكنها صنعت لنفسها تاريخا ورموزا يمثلون مرجعا للدولة والمس بهم خط أحمر، ومنهم نابليون بونابرت الرجل الدموي في فرنسا الذي شهد عهده الحروب والتقتيل، وجورج واشنطن الّذي أباد الهنود الحمر… ومع ذلك سميت باسمهم مدن ومؤسسات...
أما نحن ومن فضل الله، نملك رصيدا تاريخيا وإرثا عظيما خاتمته ثورة فريدة ومتميزة، مقارنة بنظيراتها من ثورات التاريخ المعاصر. لكننا بجهلنا وبفعل فاعل ومن في فلكه من مرضى النفوس في الداخل والخارج، تسعى لتقزيمه وإفراغه من محتوياته الايجابية من خلال تحريك التجاذب وتغذيته.
وهذا لا يعني أن المؤرخين ليس من حقهم الاجتهاد في المسائل التاريخية، وإنما كما لا يترك الدواء في أيدي الأطفال، فالتاريخ أيضا لا يترك بين أيدي العابثين والمغرضين ومن هب ودب. ولاسيما ما تعلق بالصراعات أثناء الثورة التي كانت استثناء في ثورتنا وليس الأصل. معالجة هذه الإشكاليات -كما تفعله الكثير من الأمم التي تسعى لكتابة تاريخها وصناعة ذاكرتها- يتم في مخابر مغلقة بين النخب والمؤرخين المختصين.