أسباب اقتصادية، اجتماعية ونفسية تقف وراء الظّاهرة

هل ساهم «الانفتاح الرّقمي» في العزوف عن الزّواج؟

فتيحة كلواز

- الزّواج الجماعي صورة إيجابية عن التّكافل الاجتماعي
 سنة بعد سنة يزداد تنامي ظاهرة العزوف عن الزّواج وسط شباب تغيّرت قائمة أولوياته، وأصبح الميثاق الغليظ مجرّد سجن للبعض، بينما يراه البعض الآخر مجرد صفقة ربحها مضمون، وبين ارتفاع معدّل سن الزواج لدى الفتيات إلى الثلاثينات، وبين حذف الشباب كلمة زواج من حياتهم، مفضّلين عيش تفاصيله في عالم افتراضي يسرق منهم حياتهم وآمالهم بسعادة مزيّفة.

 لم تعد ظاهرة العزوف عن الزواج مرتبطة فقط بالرجال، فالمرأة اليوم وضعت معايير جديدة لتحديد معنى السعادة،  «الشعب» استطلعت آراء لأشخاص في سن متقدمة يرفضون بناء حياة جديدة مع شريك لدرجة إطلاق وصف «المقامرة» على الزواج، الرباط الذي أسماه الله تعالى بالميثاق الغليظ.
خوف من فقدِ الرجولة
 تجاوز عقده الخامس وما زال رافضا للزواج كفكرة تربطه بشريك آخر، هو بالنسبة له مجرد امرأة تتزوج فقط لتحقيق أحلامها على حساب زوجها، وقال محمد شعبان، 53 سنة، محاسب في مؤسسة خاصة، في هذا الصدد:» لا يمكن الركون إلى الزواج كوسيلة لتعيش السعادة والاطمئنان لأن التجارب التي عايشتها في عائلتي ومحيطي رسّخت في داخلي حقيقة أنّ الزّواج سجن سجانه امرأة تفعل المستحيل لتدخلها بيتك، لكن وبمجرد دخولها بيت الزوجية تنزع عن وجهها قناع الملاك، وتبدأ في وضع قوانينها وشروطها قد تصل إلى درجة حرمانك من والديك، لأنها لا تتحمل وجودهما معها في بيت واحد حتى وإن كانت زيارة خفيفة لهما، لي بعض الأصدقاء من أصبح مجرّد خادم عند زوجته، يقوم بالأعمال المنزلية، وإن لم يستطع يجلب خادمة كل أسبوع للقيام بها، بالإضافة إلى تربية الأبناء من الحفاظة إلى أخذهم الى المدرسة أو الحضانة، وطبعا لن يعفى من خدمة أهل زوجته، الذين سيصبحون مع مرور الوقت أهله بكل ما تعنيه الكلمة ومسؤوليته الوحيدة، أما والديه فهناك دار العجزة لإيوائهم وخدمتهم».
واستدرك محمد قائلا: «فقد الزواج معناه المقدّس، وتحول الى مجرّد شراكة وفق مبدأ رابح رابح، لكن الرابح الوحيد في هذا العقد الاقتصادي هي الزوجة ولا أحد غيرها حتى الأبناء لن يستفيدوا شيئا لأنهم كمسؤولية هم مغيّبين لدى والدتهم، التي لا تهتم إلا بأظافرها الاصطناعية، والمحافظة على قوامها الرشيق وعملها طبعا».
أما حكيم عيادي فكان له رأي مغاير تماما عن الزواج بالرغم من بقائه أعزبا وهو في عقده السادس، حيث قال:
«حقيقة إنّ الزّواج علاقة مقدّسة أسماها الله تعالى بالميثاق الغليظ، لكن عندما تجد نفسك في عائلة يتجاوز عدد أفرادها التسعة، سيكون الزواج بالنسبة لك صعبا بل مستحيلا خاصة إذا كنت بدون عمل ولا مستوى علمي يؤهّلك لأن تتحصّل على وظيفة، حاولت كثيرا العمل في السوق الموازية كبيع الخضار والملابس لكن لم يتعد ما أتحصل عليه مصروفي اليومي لا يكفي كل متطلباتي، لذلك سيكون الارتباط بامرأة ثم أبناء مسؤولية كبيرة لها متطلباتها الخاصة، وأنا لن يكون بمقدوري البقاء عاجزا عن توفير كل شيء لعائلتي».
في الوقت نفسه رفض محمد الارتباط أكثر من مرة لأنه لا يقبل أن يكون عالة على زوجته، حيث شرح قائلا: «كنت على علاقة مع فتاة في الماضي كانت إطارا في إحدى المؤسسات العمومية، طلبت مني الارتباط مؤكدة أنها لن تطلب مني شيئا لأن أهلها لا يغالون في مهر ولا في أي تجهيزات أخرى، هم يبحثون فقط عن رجل مسؤول يحافظ على ابنتهم، في الحقيقة فكّرت في الأمر كثيرا خاصة وأن والدتي حفّزتني لقبول العرض، لكن رجولتي منعتني لأنني لن أقبل أن أكون زوجا ملحقا بزوجتي، ولا أتخيّل نفسي بين أقراني وأصدقائي يصفوني بزوج فلانة، لن أستطيع تحمل شعور الإهانة عندما تصبح زوجتي مُعيلي و»ولية» نعمتي، لذلك رفضت الفكرة وبقيت كما أنا رجل أعزب يرفض أن يتزوج حتى لا يؤسس أسرة لا تملك قاعدة قوية».
«يفكر لكنه لم يجد الفتاة المثالية» مقولة أو حجة يتحجّج بها الكثير من الشاب عند سؤالهم عن سبب تأخر زواجهم، حيث قال يوسف بن شملي: «لست من أولئك الرافضين لفكرة الزواج لكن في المقابل لا أقبل الارتباط بأي فتاة كانت لأنها ستكون زوجتي حاملة لاسمي ولاسم عائلتي، بالإضافة الى كونها أمّ أولادي، لذلك ما زلت في رحلة بحث عن الفتاة المثالية، حقيقة إنني أطرق باب العقد الخامس لكن لم يحن الوقت للزواج، فبعد أن وجد أخي نفسه متورطا مع فتاة مدمنة كادت أن تقتل والدتي، أصبح الزواج بالنسبة لي اكبر من مجرد مراسيم وعادات وتقاليد».
ورفض يوسف ربط الزواج بالمكتوب لأنّه قرار سيد يتحمل مسؤوليته رجل وامرأة جمعهما كتاب الله تعالى، لا يمكن قبول تحوّله الى مجرد صفقة، فبعض الرجال يشترط المرأة العاملة فقط لتساعده في توفير حاجيات المنزل والاسرة لتتحول مع مرور الوقت الى مجرد أجرة يتقاضها الزوج كل شهر، فيما تراه الفتاة الفرصة الذهبية لتحقيق ما عجز عنه والداها، فتشترط السيارة والمنزل والسفر والسهر، وكل تلك التفاصيل التي تراها في المسلسلات التركية والأجنبية، ففي كثير من الأحيان تصطدم الفتاة بواقع الحياة الزوجية في الجزائر، فتفضل الطلاق أو الخلع أو حتى البقاء مع زوج تكرهه فقط حتى لا تعود الى بيت أهلها».
«تعوّدت على نمط حياة معيّن»
 غالبا ما يكون الرجل جوهر الحديث عند التطرق الى ظاهرة العزوف عن الزواج، لكن الحقيقة إن العزوف في عصرنا ليس فقط من الرجل بل من الفتاة أيضا، فهي اليوم تتخيّل سعادتها بعيدا عن الرجل رغم استهجان العادات والتقاليد والموروث الشعبي لفكرة بقاء المرأة عزباء دون زواج، «غنية -ع»، أستاذة جامعية، تعيش حياة العزوبية وهي في العقد الخامس من العمر.
سألتها «الشعب» عن سبب بقائها هكذا، فقالت: «في بداية حياتي كانت أحلامي كلها متعلقة بدراستي، لذلك كنت أرفض أي شاب يتقدم لعائلتي خوفا من وقوفه حاجزا أمام أحلامي بعد زواجه بي، لكن مع تقدمي في السن تعوّدت العيش وفق طريقة معينة ومحددة، وأرفض أن يتسبب زوج دخيل على حياتي تخريبها، لذلك أنا اليوم مقتنعة تماما بخطورة الزواج في هذا السن، خاصة وأن الكثيرين الآن يتقدمون لخطبتي فقط من أجل «الشهرية» التي أتقاضاها من عملي الاكاديمي، بل أحدهم اقترح علي الزواج لأكون كفيلته عند هجرته الى كندا، ظن أنّني أبكي وأتحسّر على زوج لم يأت، لكنني في الواقع ازداد مع المرور الوقت تمسكا بحياة العزوبية».
ولاحظت الأستاذة أنّ المحاكم اليوم تعج بقضايا الطلاق والخلع، ما يطرح إشكالية معنى الزواج في المجتمع، بل ويعكس تراجعا كبيرا في تحمل المسؤولية لدى الشباب المتزوج، فكثيرا منهم يربطه بأفلام ومسلسلات لا تعكس الحياة الزوجية لمجتمعاتها فكيف بمجتمعاتنا، لذلك الخطر القادم من العالم الافتراضي كبير جدا قد يصل الى درجة كسر كل القواعد الاجتماعية التي تحافظ حتى الان على ترابطه وتماسكه، لأن الأسر المشتّتة ستساهم في ارتفاع نسبة الجريمة والانحلال الخلقي».
­ظاهرة تنخر المجتمع
 أرجعت المستشارة الاسرية رشيدة قادري عزوف الشباب عن الزواج إلى عدة أسباب، منها اقتصادية واجتماعية ونفسية، أهمها وأولها السبب الاقتصادي حيث يشكّل غلاء المعيشة والمهور سببا قويا لثني الشباب عن التفكير في الزواج، خوفا من عدم قدرتهم على تلبية متطلبات الحياة الزوجية.
في الوقت نفسه ساهم غلاء المهور في تنامي الظاهرة، فكثير من الأولياء وبسبب عجزهم عن تجهيز ابنتهم، يطالبون الزوج بكل شيء المنزل، تجهيزه وتأثيثه وكل متطلبات الحياة، حتى أصبح الشاب المقبل على الزواج لا يكفيه مائة مليون سنتيم لإتمام زواجه، لذلك يفضّل الشباب العزوبية على الدخول في متاهة مصاريف قائمتها لا تنتهي، رغم أن الإسلام حثّ على تخفيف المهور، حيث قال الرسول صلى الله عليه وسلم فيما معناه «أقلهن مهرا أكثرهن بركة»، لذلك دعت الى التقليل في المهر لتيسير الزواج للشباب.
أمّا العامل النفسي فمرتبط بتجارب سابقة لأصدقاء أو أقارب وجدوا أنفسهم في أروقة المحاكم بعد ارتباطهم بشريكة حياتهم، سواء كان لطلاق أو خلع، تلك التجارب تشكّل صدمة لدى غير المتزوجين الذين يبلورون فكرة سيئة عن الرباط المقدس، حيث يفضل الكثير منهم البقاء أعزبا عن الارتباط خوفا من تجربة ستؤول إلى الفشل كسابقيه.
وقالت قادري إنّ خوف الشاب من مسؤوليات الزواج المتعدّدة ترهب الشاب وتبعده عن الزواج، فكثير ما يرى نفسه عاجزا عن تحمل مسؤولية أسرة فيها زوجة وأطفال، ويساهم المجتمع من خلال ما يرويه أفراده حول الزواج ومشاكله في تشكيل تراكمات تتحول مع مرور الوقت الى عائق نفسي يمنع الشباب قبول فكرة الزواج.
إلى جانب المستوى التعليمي، الذي يقف في كثير من الأحيان حسبها عائقا أمام الارتباط سواء كان بالنسبة للفتاة أو الرجل، ففي بعض الأحيان ترفض الفتاة الارتباط بمن هو أقل منها في المستوى التعليمي، فيما يرفض بعض الشباب الارتباط بمن هي أعلى منهم في المستوى التعليمي خوفا من انتقاصها له، بالرغم من ان التوافق في المستوى التعليمي قد يكون معينا لكنه ليس شرطا أساسيا لنجاح الزواج.
ولاحظت المتحدثة أنّ الظاهرة لا تمس الرجل فقط بل حتى المرأة اليوم ترفض الارتباط نظرا الى تمتعها بالاستقلالية المادية، واكتفائها بما حققته من نجاحات على المستوى الشخصي والمهني، بل ترى الرجل في بعض الأحيان عبئا كبيرا عليها ومنغصا ليومياتها، لذلك هي تفضّل البقاء مع والديها، تعيش تفاصيل حياتها كما تريد هي ولا أحد غيرها، وهو السبب في ارتفاع سن الزواج لدى الفتيات، فأغلب من تتزوجن اليوم يتراوح سنهن بين الثلاثين فما أكثر، حيث تدرس الفتيات ثم تعملن ما يعطيهن استقلالية مادية تجعلها صاحبة قرار، بالإضافة الى تمكُن التحرر على الطريقة الغربية من فتيات الجزائر، حيث أصبحت لها استقلالية تامة عن الرجل، لأنها تملك كما الشاب موروثا شعبيا عما تعانيه المرأة المتزوجة بسبب زوجها، لذلك تفضل البقاء سيدة نفسها.
الانفتاح الرّقمي
 لم تستثن المستشارة الأسرية مساهمة الانفتاح الرقمي في رفع نسبة العازفين عن الزواج، فقد منحت مواقع التواصل الاجتماعي الشباب اتصالا افتراضيا بالطرف الاخر دون تكاليف زواج تثقل كاهله.
في الوقت نفسه، أوضحت المتحدثة أنّ الزواج اليوم لم يعد من أولويات الشباب لأن الهجرة الى الخارج تعتلي أولوياته لأنها الشيفرة السحرية لبناء مستقبله، لذلك نجد الشباب يبحثون عن كل السبل الممكنة للهجرة، ولعل ما نراه من طلبات كبيرة الى كندا بعد فتحها باب الهجرة يعكس الرغبة القوية لديهم لمغادرة الوطن، دون الحديث عن الهجرة غير الشرعية حيث تحولت في السنوات الماضية الى أسهل طريق لتحقيق أحلام المستقبل. فيما ساهم تخلي الآباء عن الأبناء أيضا في تنامي الظاهرة، فعلى عكس المدن الداخلية التي ما زالت العائلة تساعد في تزويج أحد أفرادها، نجد الشاب في المدن الكبيرة يتحمل كل أعباء الزواج من ألفها الى يائها، فيجد نفسه في سن الـ 45 سنة او الـ 50 سنة وهو لم يستطع توفير بعض متطلبات الزواج أو كما يقال فشل في تحقيق «التاويل».
الحلول ممكنة
 أوضحت قادري أنّ انعكاسات العزوف عن الزواج وخيمة على المجتمع كتفشي الجريمة، وعدم الاستقرار النفسي والاجتماعي للشباب، والانحطاط المستمر للأخلاق بسبب تأثير العالم الافتراضي، لذلك يجب وضع حلول ناجعة لها حتى لا يهوي المجتمع الى الهاوية.
وأثارت المختصّة مسألة الزواج الجماعي الذي نراه في ولاية غرداية مثلا، حيث يقوم المجتمع هناك بتزويج الشباب غير القادر على الزواج، في صورة جميلة عن التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد، حيث تعمل الكثير من الجمعيات أيضا على مساعدة عدد من الشباب على الزواج، مقترحة في ذات السياق تخصيص جزء من صندوق الزكاة لتزويج الشباب، ومساعدتهم على بناء أسرة.
كما أكّدت على ضرورة انخراط المسجد في محاربة هذه الظّاهرة، من خلال الدور التوعوي للإمام الى جانب الأعلام للعمل على تصحيح رؤية الشباب للزواج وكل المشاكل المتصلة بعزوفهم، لذلك لا بد من تضافر جهود الجميع من أجل إعادة المجتمع إلى سكة التماسك والتلاحم، وإبعاد تهديد الانحلال والتمييع لكل القيم والأخلاق التي تميزنا كمجتمع، وأصرّت في حديثها مع «الشعب» على ضرورة أخذ السلطات المعنية بعين الاعتبار هذا المشكل لأنّنا أمام قضية محورية تمس بالمجتمع وتماسكه.
في الوقت نفسه، اقترحت قادري وضع ضوابط للخلع، الذي تحوّل إلى ظاهرة تزداد أرقامه سنة بعد سنة، ففي السداسي الأول من 2021 سجّلت 10 آلاف حالة خلع وهو رقم رهيب، لذلك ستحول الضوابط دون استسهال الانفصال عن الزوج وتخريب حياة أسرة كاملة، فيكون الضرر ماديا أو معنويا شرطا أساسيا لطلب الخلع حتى يكون آخر الحلول المتوفّرة وليس أوّلها، مع ضرورة كتابة المهر في عقد الزواج لمنع أي تلاعبات من أحد الطرفين.

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024