للإبحار في عالم المنافسة الدولية

«كنان-ميد» تنتهج سياسة اقتصادية جديدة

جمال الدين بوراس

يشرح المدير العام للشركة «كنان-ميد»  نور الدين كوديل، خطة الشركة وخياراتها الإستراتيجية الجديدة التي تسعى من خلالها إلى الرفع من قدراتها التنافسية بتركيزها على النشاط الثاني (نقل الحاويات)، وذلك بعد أن تراجع أداؤها الاقتصادي بشكل ملحوظ السنوات الأخيرة.
تستورد الجزائر نحو 43 مليون طن من السلع سنوياً، ينقل جزء كبير منها في حاويات يصل عددها إلى قرابة مليون حاوية ذات 20 قدم (حاوية يصل طولها إلى 6 أمتار)، غير أن هذا العدد تراجع إلى حوالي 800 ألف حاوية خلال سنة 2020 بسبب جائحة كوفيد-19 وتوقف نشاط العديد من شركات التركيب التي كانت تعتمد على قطع الغيار المستوردة. تصل هذه الشحنات إلى الجزائر قادمة من مختلف أنحاء العالم على متن حاملات حاويات تابعة عادة لشركات شحن عالمية كبيرة، ذات تنافسية عالية في قطاع الشحن البحري العالمي، الذي يعتبر حضور الشركة الوطنية الجزائرية للملاحة «كنان-ميد» فيه محتشما مقارنة مع الإمكانات اللوجيستية لهذه الشركات، لكن لماذا؟
هيمنة الكبار
 للإجابة على هذا التساؤل، يفصل المدير العام للشركة، نور الدين كوديل في الأسباب التي تعود أساساً إلى كون معظم السلع التي تستوردها الجزائر تأتيها من الصين ومختلف دول آسيا وأوروبا، وهي مناطق لا تتواجد فيها الشركة تجارياً، زيادة على حيازة شركات النقل البحري الضخمة في هذه الأقاليم التي تشهد حركية اقتصادية كبيرة، على أنظمة نقل تجعل منافستها أمراً صعباً جداً، بحيث تبدأ سلسلة خدماتها بنقل السلع من مصدر إنتاجها (من المصنع أو الورشة) ثم شحنها في حاملات الحاويات، وإيصالها حتى الوجهة النهائية، زيادة على اعتماد هذه الشركات على ناقلات حاويات عملاقة (mega carrier ships) بإمكانها حمل ما يفوق 24000 حاوية ذات 20 قدم -هي مدن عائمة يصفها المدير العام- فيمكن لهذه السفن التي تسافر غالباً بين القارات أن تنقل في شحنة واحدة كماً هائلاً من الحاويات التي قد تكون متجهة على سبيل المثال من الصين إلى أوروبا، ما يتيح للمتعاملين الاقتصاديين و مؤجري السفن في الصين، إمكانية تنظيم أنفسهم وتشارك أعباء الشحن نحو أوروبا بتأجير سفينة واحدة من هذا النوع بدل عدة سفن. يفرغ الجزء الأكبر من الشحنة المنقولة في موانئ مخصصة للشحن(ports de transbordement)  حيثُ يمكن لهذه السفن الكبيرة أن ترسو، ثم تنقل (الشحنة) إلى وجهاتها النهائية بواسطة ناقلات أصغر تسمى (Feerders) وهي السفن التي بإمكانها أن ترسو في الموانئ الجزائرية، و يصطلح على هذه الرحلة بالمحطة الثانية .
ويقول المدير العام لـ»كنان-ميد» إن عدم توفر سفن شحن ضخمة (mega carrier ships) وغياب مقومات المنافسة العالمية بأنظمتها التجارية والتسويقية المتقدمة، أبعد الشركة الوطنية الجزائرية للملاحة عن التنافسية في هذا المجال، لكنها تركز بالمقابل على بدائل تجارية أخرى قد تصنع لها الفارق مستقبلا في قطاع الشحن البحري.
أسباب التراجع
للشركة الوطنية الجزائرية للملاحة تاريخ حافل في مجال النقل والشحن البحري، إذ يعود تأسيسها إلى سنة 1963، ورغم باعها الطويل في الملاحة، إلاّ أن أدائها التجاري تراجع السنوات الماضية لأسباب عدة، يُنسبها المدير العام لـ»كان-ميد» بالدرجة الأولى، إلى تمسك الشركة في وقت مضى بنظام عمل روتيني وتقليدي غير محفز على الإبداع أو التنافسية، فاعتمدت بذلك على وجهات ثابتة ومحددة سلفاً من دون البحث عن تنويع الخدمات أو التكيف مع تطورات قطاع الشحن البحري العالمي، وفي الوقت الذي كانت الشركات المنافسة تجتهد في تطوير خدماتها وأدائها اعتماداً على البحث العلمي والدراسات الاقتصادية المعمقة لمتطلبات السوق التجارية العالمية، بقيت «كنان» حبيسة الروتين.
استفادت الشركة من أخطاء وهفوات الماضي، وهي تعمل حالياً -حسب نور الدين كوديل- على استعادة زخمها بانتهاج ديناميكية جديدة، تهدف إلى الرفع من قدراتها التنافسية، وسط عالم تستحوذ فيه الشركات العملاقة على الجزء الأكبر من الأسواق بفضل سَنِها لأنظمة نقل وشحن خاصة بها، تجعل مجاراة خدماتها أمراً صعباً، فهي تستند دائما على اليقظة التجارية المستمرة وتتكيف مع التطورات الاقتصادية الدولية في كل لحظة.
 بديل استراتيجي
بما أن «كنان ميد» لا تقوى على منافسة كبرى شركات الشحن البحري في السوق الدولية لعوامل لوجيستية وتنظيمية، فهي تركز حالياً على السوق الإقليمية بدل ذلك، من خلال عرض خدمات النقل من موانئ الشحن المتواجدة في حوض البحر الأبيض المتوسط(ports de transbordement)  حيث تُفرغُ نحو 70% من حمولات السفن الكبيرة القادمة من مختلف أنحاء العالم (المحطة الأولى)، ثم تنقل هذه الشحنات في حاملات تسمى Feeders إلى وجهتها النهائية (المحطة الثانية)، وهي السفن التي تحوزها الشركة الوطنية الجزائرية للملاحة «كنان-ميد». لأجل هذا، تعتمد الشركة حالياً على رؤية حديثة تتكيف مع حقيقة ومتطلبات السوق وفق سياسة تسويقية جديدة، تُركزُ جهدها على خدمات «المحطة الثانية» أو ما يصطلح عليه بـ Feedring، وذلك بالاستغلال الأمثل لقدراتها اللوجستية ومحاولة التموقع تجارياً والظفر بأسواق جديدة.
وتسعى الشركة بسياستها الجديدة إلى حجز مكان لها في مصاف الشركات العاملة على رحلات الشحن المتجهة نحو الجزائر من موانئ الشحن الإقليمية اعتماداً على نشاط الـ Feedring، وقد أقامت لهذا الغرض عدة شراكات مع شركات مستأجرة للسفن. ويقول المدير العام لـ «كنان-ميد» في هذا الشأن إن «هذا النشاط البحري الذي تركز عليه الشركة اليوم كان في وقد مضى حكراً على الشركات الكبرى التي تنقل البضائع من مصدرها الرئيسي إلى وجهتها النهائية، وبدخولنا هذه السوق، فسنقلل بصفة كبيرة من فاتورة الشحن التي كانت تذهب لفائدة شركات أجنبية».
ويحصي النشاط البحري الذي تسعى الشركة الوطنية للتخصص فيه حسب مديرها العام نور الدين كويل، نحو 700 ألف حاوية تنقل سنوياً إلى الجزائر من موانئ الشحن، وفي حال ظفرها بنسبة 20% فقط من إجمالي هذا العدد، فستضمن بذلك تعبئة دائمة لكافة أسطولها طيلة السنة، ومداخيل معتبرة تسمح لها بتوسيع نشاطها وإقامة استثمارات جديدة، ومنه العودة إلى نشاط الشحن ذو البعد العالمي (World-wide) والذي يحتاج إلى تنظيم خاص.
نشاط شحن الحاويات
لشركة «كنان ميد» ثلاث سفن، الأولى متخصصة في نقل الحاويات فقط، فيما تنقل السفينتان المتبقيتان وهما من صنف (General cargo / multi-purpose vessel) البضائع والسلع من مختلف الأنواع، ولأن الإستراتيجية التسويقية الجديدة تركز عن نشاط نقل الحاويات، عززت الشركة أسطولها بسفينتين جديدتين «جانت» و «سيرتا»، وهما ناقلتا حاويات من نوع Fully cellular، صديقتان للبيئة، وقد أصبح هذا النوع من سفن الشحن محبذاً لدى شركات النقل والمؤجرين على حد سواء، لاقتصادها الوقت في عملية الشحن، فسطحها مصمم على نحو يخصص أماكن محددة للحاويات، ما يقلل من العناء والوقت أثناء عملية شحنها.
ويفيد المدير العام نور الدين كوديل أن اقتناء السفينتين سيرتا وجانت، سيرفع من قدرات الشركة في الشحن والنقل، إضافة إلى تمكينها من القيام برحلات أكثر بفضل الوقت الذي تربحه السفينتان أثناء الشحن في الموانئ، وكذا ضمان الالتزام بالمواعيد مع الشركاء والمتعاملين الاقتصاديين.
أهداف براغماتية
يؤكد المسؤول الأول على «كنان ميد» في إفادة للشعب الاقتصادي، أن السلطات العمومية تعول على تطوير قطاع الشحن البحري ورفع حصة الجزائر منه في السوق الدولية، ولأجل ذلك وضعت الشركة خططاً وأهدافاً براغماتية تسعى من خلالها لزيادة حصتها في سوق الشحن (من وإلى الجزائر) على المدى القصير، من 6% إلى 10% مع نهاية السنة الجارية، ثم إلى 20% في 2022، غير أن تجسيد هذه الأهداف يحتاج إلى إطلاق استثمارات جديدة، تتمثل في اقتناء مزيد من السفن الناقلة للحاويات مستقبلاً كلما سمحت الفرصة، وهي الاستثمارات التي ستمنح الشركة مجالاً للتوسع، ومكانة لدى المتعاملين الاقتصاديين الوطنيين والأجانب، خصوصاً وأن فرص التوسع جد متاحة، فالسوق الإقليمية تحصي حالياً مليون حاوية ذات 20 قدم تصل الجزائر سنوياً في شكل واردات،
وما على الشركة الوطنية سوى الاستعداد لتكون في مستوى متطلبات هذه السوق، وكذا في مستوى تطور نشاط التصدير في الجزائر الذي يشهد انتعاشاً نسبياً.
ويأتي استلام السفينتين الجديدتين «سيرتا» و»جانت» تجسيداً للأهداف والإستراتيجية المسطرة من طرف الشركة، والتي تسعى من خلالها إلى زيادة حجم مساهماتها في الاقتصاد الوطني بالتقليل من فاتورة استئجار سفن الشحن.  
توسيع الخطوط والوجهات
يؤكد المدير العام للشركة الوطنية الجزائرية للملاحة – ميد في حواره مع مجلة الشعب الاقتصادي، أن توسيع وجهات وخطوط النقل هو هدف حيوي لكل شركات الشحن البحري الراغبة في الاستمرار والبقاء على مضمار المنافسة، وذلك بمواكبة التغيرات الحاصلة في مجال الشحن البحري العالمي، مشيراً إلى أن «الروتين دائماً ما يقتل النشاط ويبعد الشركة عن المنافسة، لتفتح بذلك المجال أمام المنافسين لاستفادة من غيابها في الساحة، هذا ما حصل مع «كنان-ميد» في وقت مضى، لكننا نعمل الآن وفق إستراتيجية وسياسة اقتصادية جديدة». وبحسب ذات المتحدث، فإن الشركة الوطنية تعمل الآن على التكيف مع التوجهات الاقتصادية العالمية في مجال الشحن البحري، وذلك بجعل خدماتها وكفاءاتها البشرية في مستوى يمكنها من تقديم خدمات جذابة للمتعاملين.
طموحات مستقبلية
تطمح «كنان-ميد» بحسب مديرها العام، إلى الرفع من حصصها في سوق الشحن البحري والظفر بأكبر عدد ممكن من صفقات النقل، كما تسعى الشركة التي باتت متخصصة في نقل الحاويات، إلى تطوير نشاط الـ Tramping (النقل البحري تحت الطلب بواسطة سفينة تجارية غير مخصصة لخط منتظم) والذي يمثل هو الآخر سوق نقل كبيرة من وإلى الجزائر، سواءً كان نقل الواردات أو الصادرات، لكن مع تركيز الجهود حالياً على نقل الحاويات وبالتحديد نشاط الـ Feedring على مستوى حوض البحر الأبيض المتوسط، والتفكير في توسيع الخطوط والأنشطة خارجه عند توفر المؤهلات المناسبة.
ويرى نور الدين كوديل أن الانفتاح على السوق الدولية والتكيف مع متغيراتها الدائمة، بات أمراً محتوماً على الشركة الوطنية الجزائرية للملاحة-ميد، التي وإن كانت تحمل وسم شركة وطنية، فهي غير ملزمة بحصر خدماتها نحو الجزائر فحسب وجعلها وجهة وحيدة وإجبارية، بل عليها حمل الراية الوطنية إلى كل مكان، فهي في الأخير ذات طابع تجاري ويُستلزمُ أن يكون منطلق عملها تجارياً واقتصادياً بالدرجة الأولى، ويختم «كوديل» حديثه لمجلة «الشعب الاقتصادي» بالتأكيد على أن «كنان-ميد» تركز في إستراتيجية تطوير أداءها على البحث عن شركاء وبدائل للوجهات التقليدية المحكومة بعوامل اقتصادية غير ثابتة (الاستيراد والتصدير)، في حين أن الانفتاح على السوق الدولية يمكن أن يكسبها أسواقاً وعقوداً أفضل، إضافة إلى ضمان مكانة بين المتعاملين، والهدف في النهاية هو المساهمة في نماء الاقتصاد الوطني من خلال توفير مداخيل إضافية للخزينة العمومية.
«عن مجلة الشعب الاقتصادي»

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024