بحثا عن الحياة وسط النيران

كأنهـا “القيامة” بغابـات تيـــزي وزو

تيزي وزو: نيليا م.

 

 

 

لم تعد الممتلكات تعني أي شيء، ما يهم هذه الأيام هو إنقاذ الأرواح فقط.. جملة مكثفة ترتسم على تعابير الوجوه، قبل ان ينطق بها لسان، سيقول لك وأنت هائم بين قرى وبلديات تيزي وزو: “قد تجد نفسك محاصرا بالنيران في أية لحظة”..
ليس صعبا فهم ما يدور في تيزي وزو، مما تراه العين المجردة، ويستشعره الجلد عندما تصل درجة الحرارة 50 درجة مئوية، بفعل نيران تقفز من مكان الى آخر، دون إشعار مسبق، وتُسقط من حسابات القرى وخلايا الأزمة المشكلة فيها بسرعة، ما تقرر في آخر اجتماع تنسيقي.

جريٌ وتعبٌ كبير من نصيب شباب القرى، المهيكلين في فرق حراسة ليلية تترصد الحرائق وتخبر السلطات بها، وفرق أخرى تشتغل على إمداد العائلات الهاربة من جحيم النيران بالمعونة والغذاء والأدوية، وسط أخبار الوفيات والاحتراق، التي تشكل خبزا يوميا، وفرق ثالثة تستقبل الإعانات وتعمل على توزيعها، وتخطط لتزويد القرية بمخزون من المياه بالجرارات والشاحنات بصهاريج، تحسبا لأي طارئ، يُطل برأسه من ألسنة لهب، أو دخان كثيف يقول لمن يشاهده: تحضّر النار قادمة..

هيكلة فرق وحراسة ليلية

التنقل بين مداشر وقرى وبلديات تيزي وزو ليس صعبا وليس سهلا، ليس صعبا، طالما ان الطريق مفتوح لمن يريد قضاء حاجة أو التنقل من أقصاها الى أقصاها، أو ايصال معونات الى الولاية وأي نقطة فيها، وليس سهلا بالنسبة لمن يخافون “توقعات الطريق”، التي تعني فيما تعني أن تجد نفسك محاصرا بنيران مشتعلة جانبي الطريق، أو في مكان لا تستطيع حتى الاستدارة فيه والعودة من حيث أتيت، مع تدخل المشاركين في الإطفاء وما أكثرهم، من رجال يمشون على الأرض، “إطرائيون”، بلا لباس رسمي، متطوعون، وما أكثرهم، ومعدات تطالب بإفساح الطريق لها، وأفراد جيش منتشرون في كل مكان بمنطقة القبائل، بحثا عن موقد نار يُخمد، أو إنقاذ عائلة عالقة، أو مسن لا يقوى على حمل نفسه، فما بالك بالهروب من الموت حرقا..

صور صادمة تتكرّر

تكرر هذا المشهد في قرى تغلبت على النيران، ولما ذهب أهلها لمساعدة قرية أخرى بكل ما يملكون من معدات، “عادت النار” إليها، بطريقة تطرح علامات تعجب لدى محاربي ومكافحي الحرائق، ممن يتهربون من كلمة يفكرون فيها لكن لا يجرأون على قولها، دون دليل يوثقها: مؤامرة!
«الوضع لا يبشر بخير”، عبارة تنُط من فم الى آخر، ومن أذن الى أخرى، والخائفون مما يأتي يرون النيران تنتقل على جغرافيا الولاية بجبالها ووديانها، من معاتقة الى عزازقة ومن عين الحمام الى الأربعاء ناث إيراتن، من آث واسيف الى سوق الإثنين، كل الوجوه تتشابه في طرح نفس السؤال: الى متى ونحن نحارب النيران، التي صرنا نخمدها شمالا، فتشتعل جنوبا، ونطفئها يمينا تعود على يسارنا..

الشباب في الميدان

«الحركة تكاد تنعدم. فقط الشباب المتربصين على حدود القرى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه”.. تسمع هذا الكلام وأنت قاصد سوق الإثنين، وقبل أن تُفكر فيما سمعته، تجد نفسك تتأكد من تفاصيل العبارة في وجوه شباب الفرق التي تحدثنا عنها، أعلاه، من حراس القرى، ليلا، وإطفائيتين نهارا، ومساعدين على تفريج كرب المتضررين في كل الأوقات.
أنباء عن “محطة غاز طبيعي” في البلدية قد تنفجر في أية لحظة، بعدما حاصرت النيران المكان. شيخ البلدية وسلطات عسكرية وأمنية تهرع الى المكان لتفادي ما يمكن تفاديه، في وقت انتشر حريق بسرعة البرق، في بلدية بني زمنزر من جهة بني دوالة، وهو يثير مخاوف من يعرفون المنطقة، والتشابك الغابي والجغرافي، الذي يسهل انتقال اللهب متى نسفته نسمات خفيفات، وليس ريح عاتية..
جنود الجيش في جزيرة بلدية سوق الإثنين يُشعرون المارة بهذا المكان، بالأمان والتدخل في أية لحظة يحتاج فيها المستغيثون تدخلات إنسانية أو إفساح طريق وما شابه..
من لم يزر الولاية هذه الأيام قد لا يفهم ما يسمعه عن “الحرائق تشتعل في مناطق متفرقة بين لحظة وأخرى” أو “النيران عادت الى محيط قرى مرت به وتركت جزءا من رمادا”..
بالفعل، حدث هذا على طول التضاريس الجبلية الممتدة من عين الحمام الى عزازقة، وظهور القرى المنتشرة بينهما، وهي قرى متناثرة، وبعضها ملتصق بالأحراش والغابات، في المنطقة بطريقة جميلة في حالة الإخضرار، ومُفزعة متى زارها اللون الرمادي الباهت..

المساعدات تصل تباعا

المساعدات تصل تباعا الى معاتقة، وغيرها من البلديات، وعادة ما يشكل شباب المنطقة رواقا للترحيب بالقادمين وما يحملونه من أغذية وأفرشة ومشروبات وأدوية وغيرها، من غالبية الولايات التي حركت شاحنات التضامن منذ الساعات الأولى من اندلاع “نيران إجرامية” في هذه الولاية وغيرها.
شباب تيزي وزو يشكر على طريقته من يتضامنون معهم، وتسمع منهم عبارات ترحيب خاصة، وكلام مرتب، يسقط في الأذن مسقطا جميلا، وفي القلب بطريقة ستقول عنها أنت بدورك: لا شكر على واجب!

«المهم نعيشوا”

وسط كل هذه النيران ستصبح للجملة، التي تسمعها من الحكماء، والشباب على السواء “لم تعد الممتلكات تعني لنا شيئا، فقط انقاذ الأرواح”.. معنى، وصور متراقصة تحفها بكثير من الشواهد على “صحتها”، وصدقيتها..
«المهم نعيشوا” البسيطة، تشبه الى حد كبير “المهم الهنا”، التي سمعها الجزائريون سنوات التسعينيات المرعبة، والتي لا يتمنى أحد عودتها ولو في الكوابيس..
الرياح، التي تهب من حين لآخر، لا تترك متسعا من الوقت لمحاربي الحرائق، التي تستهلك من مجهود الشباب وعناصر الحماية المدنية وأفواج الجيش، ساعتين الى اربع ساعات، إذا كانت الحرائق صغيرة..
أما إذا كانت الحرائق كبيرة ومن ذلك النوع الذي لا يشفع فيه وصف مهول، تستمر مقاومة النيران يوما وأكثر، وبمعدات لا تكتفي بـ«البالات” وخراطيم المياه الصغيرة، التي تخرج من بطون صهاريج صغيرة الحجم، بل يتطلب الأمر شاحنات الحماية المدنية المهيأة لمثل هذه المهمات العاجلة..
يزداد الجو حرارة، ولا ينفع مع هذه الحالة غير الماء البارد والمثلج. الحرارة في الخارج تساوي أو تفوق 50 درجة، ومعها يزيد الطلب على المياه المعبئة في القوارير، وبالتالي المساعدات من هذا القبيل، خصوصا بالنسبة لمن سبلوا أنفسهم لمصارعة قرون النار العاتية..

إخلاء المنازل

بالأمس فقط، جرى إخلاء 6 منازل، إستنجد أصحابها وعوائلها، بفرق “الدفاع عن حق الآخر في الحياة”، مثلما أسميها. التلاحم هنا ليس كلمة تقال، بل فعل يتسابق من أجله الصغير مع الكبير، تحت مفعول “ثاجماعت” عبر القرون.. تستنجد قرى بأخرى، ويُنقل الباحثون عن مهرب من بوابات الخطر الى قاعة حفلات بمعاتقة.
يتوقف فضول الأسئلة عند عتبة “كم قرية تضررت”، وهو سؤال يستحيل أن يجيبك عنه مسؤول أو رئيس جمعية أو مهتم بشكل أو بآخر بأخبار تيزي وزو، في نفس اليوم الذي تنقل فيه الوزير الأول أيمن عبد الرحمان، وتحدث عن بداية جرد وإحصاء خسائر الولاية..

لعنة الرياح

الرياح تصعّب من مهمة الإطفاء، وتضيف ضغطا على ضغوط تشعر بها القرى، التي شكلت خلايا أزمات للتعامل مع الوضع الراهن، وفصلت في أدوار ومهمات من يطفئون النيران ومن يتولون توزيع الإعانات، ومن يقومون بالحراسة والترصد ليلا، وسط أنباء وإشاعات عن وجود من يشعلون النيران، وعن سيارات بلا ترقيم، وما شابه من الإشاعات، التي كانت في مكان ما سببا في قتل فنان بريء وشاب مقبل على الحياة بشراهة من يريد فعل الخير ومساعد الآخر، ولو على حساب حياته..
اليوم، وصلت شاحنات تضامن كثيرة الى ولاية تيزي وزو محملة بمختلف المساعدات الغذائية والطبية وقارورات المياة.
ومثلما كانت صور وصول الإعانات جميلة، ومتراقصة في عيون الأمل، مثلما تكبُر صور اسعاف الجرحى الى مستشفى تيزي وزو الذي يعج عن آخره بهم، في مقلتي المتسائلين عن: إلى متى..
مساجد وزوايا فتحت أبوابها لإيواء للعائلات المنكوبة، وتستمر مكبرات الصوت، التي تستعملها لجان القرى في توجيه الارشادات عند اندلاع الحرائق ومطالبة السكان بالحذر أو حتى الخروج من المنازل أو تستعملها من أجل إعلام الشباب بالتجمع من أجل حراسة القرى.

المدارس تفتح أبوابها

في الأماكن المتضررة من النيران، تظهر في الأفق “أزمة صحية” لا علاقة لها بكورونا، وهي ملازمة لعدد كبير من مرضى قصور التنفس، مرفوقين، بمن وقعوا فرائس لأزمات نفسية، من شدة صور الفزع التي تشربوها، أو بسبب فقدان عزيز بطريقة مؤلمة جدا، مثل تلك المرأة التي غادرت الدنيا ملتصقة ببنيتيها، حرقا..
يجري إسعاف عدد من هؤلاء في المركز النفسي البيداغوجي بامالو، في الأربعاء ناث ايراثن، على جانب اسعاف مرضى السكري والضغط.
وهناك نداءات لتدعيم مراكز وأماكن الايواء المؤقتة بممرضين وأطباء، ومرافقة حالات خاصة مثل المعاقين..
والعارفين بطبيعة النفس البشرية يحذرون من تداعيات “حرائق تيزي وزو” على أطفالها، الذين يلعبون بقوارير المياه، ولا يحسبون النار خطرا داهما، وما يخزّنون عن الحرائق من صور قد ينفجر في “حالات نفسية”، لاحقا، تستحق من الآن التفكير في طريقة التكفل بها..

 

 

 

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19628

العدد 19628

الأربعاء 20 نوفمبر 2024
العدد 19627

العدد 19627

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19626

العدد 19626

الثلاثاء 19 نوفمبر 2024
العدد 19625

العدد 19625

الإثنين 18 نوفمبر 2024