الفلاحــة والسياحـة.. نشاطــان يأبيـــان الإقــلاع
يتطلّع سكان بلدية أعفير الرّيفية رغم صعوبات العيش اليومية إلى غد أفضل، والتعلق بكل لحظة من لحظات الأمل في مشاهدة بلديتهم التي أنشئت في إطار التقسيم الإداري لسنة 1984 وهي ترتقي الى مصاف الحواضر والمدن التي اقتطعت أشواطا في مجال التنمية، والمساهمة بحضورهم الاقتصادي في إخراج المنطقة من دوّامة العزلة باستغلال المؤهّلات الفلاحية والسياحية التي تبقى عذراء، في وقت يعاني الشباب من شبح البطالة وانسداد الأفق بسبب قصور النظرة الاستشرافية وأزمة العقار الصناعي، وعدم استقرار المجلس البلدي نتيجة الحساسية المفرطة بين التيارات الحزبية.
أعفير سرقت قلوب كل وافد جديد وزائر لهذه التحفة الطبيعية، التي اجتمعت حولها المناظر الطبيعية الخلاّبة المتدحرجة نحو شاطئ البحر، ترسمها صورة مجرى وادي اوباي بالجهة الغربية في الحدود مع بلدية دلس ووادي الحصار بالمخرج الشرقي الذي يحدّها مع بلدية ميزرانة باتجاه بلدية تيقزريت.
تحيط بها قمم غابة ميزرانة التاريخية التي كانت بمثابة قلعة حصينة من قلاع الثّورة التحريرية، وتحرصها بركة الولي الصالح سيد محند السعدي الذي يتوسّطها مع عودة الحياة للزاوية المعروفة بولاية بومرداس بعد إعادة فتحها لمورديها من طلبة العلم وحفظ القرآن الكريم والحديث الشريف.
هذا تقريبا هو الوصف المشترك والصّورة المسرّبة لهذه التحفة الفنية الطبيعية لكل من دخل إقليم بلدية أعفير بأقصى شرق الولاية، لكن سرعان ما يبدأ الزائر في اكتشاف ما تخبّئه مفاتن الطبيعية الصامتة من مظاهر أخرى أكثر صمتا وبؤسا، تنكشف أولا في غياب مظاهر التهيئة الحضرية حتى في مركز البلدية. وأخرى ترتسم في عيون الفلاحين البسطاء والعجائز المرتبطين بأرضهم وحقول الزيتون مع رؤوس الماشية والماعز رغم الفاقة الاجتماعية، ثم تزداد سوادا عند مصادفة شباب وشيوخ في رحلة ذهاب وإيّاب باتجاه المنابع المائية بحثا عن مياه الشرب، وآخرون بانتظار مرور شاحنة توزيع قارورات الغاز للتزود بهذه المادة الحيوية ونحن في عز الشتاء، وشباب تتربّص به الأحلام والهواجس وهو يداعب لعبة الدومينو بالمقاهي التي سرقت ساعات طويلة من وقتهم الثمين وحياتهم بسبب الفراغ وقلة فرص العمل.
وهنا تتّضح الصورة جليّا ويتوصّل السائل إلى معرفة سر الهدوء المطلق، الذي لم تخترقه بعد أصوات آلات المصانع والوحدات الإنتاجية، التي لم تستوطن هذه الأرض العذراء رغم استفادة البلدية من مشروع منطقة نشاطات على مساحة 30 هكتارا بقرية «تاضنت» لكنه يتعرض للتأميم المستمر عملا بمبدأ القانون الطبيعي الذي لا يقبل الفراغ.
جغرافيا تمتد بلدية أعفير على مساحات واسعة أغلبها تضاريس جبلية ومساحات غابية تلف القرى المتناثرة هنا وهناك بمجموع 32 قرية، تشكّل تقليديا مكونات عرش «بني سليم» بتعداد سكاني يتجاوز 19 ألف نسمة أغلبهم ينشط في المجال الفلاحي وتربية الماشية والدواجن، إلى جانب نشاط إنتاج الزيتون وبعض الأنشطة الأخرى، خاصة منها زراعة الكروم التي تمتد على طول الشريط الساحلي باتجاه قرية «الزاويا» وحوض واد أوباي، بالإضافة إلى إنتاج الحليب حيث تحتل المرتبة الثانية محليا بنسبة 10 بالمائة من الإنتاج بولاية بومرداس بعد بلدية بغلية، بحسب ما أفاد به رئيس البلدية بالنيابة أحمد بلقاسمي.
هذه الأنشطة المنتجة شكّلت مع ذلك ملاذا آمنا لفئة واسعة من الشباب من أصحاب التفكير العقلاني أغلبهم من خرّيجي الجامعات ومراكز التكوين، الذين لم يستسلموا لحالة الوهم باللجوء إلى استغلال الأرض واستصلاح مساحات غابية، وآخرون استفادوا من قروض بنكية ومرافقة الوكالة الوطنية لدعم وتنمية المقاولاتية «أونساج سابقا» لإنشاء مؤسّسات مصغّرة، ومعاصر زيت الزيتون عصرية هي حيز الخدمة حاليا من أبرزها مؤسسة الشاب يوغرطة باجا، التي بدأت النشاط سنة 2015 وتعتبر من أنجح المؤسّسات المحلية الحاضرة في مختلف المعارض الخاصة بزيت الزيتون وصالون المؤسّسات الناشئة.
أزمة بخلفية صّراعات وشحّ الموارد
هذه الوضعية بحسب تعليقات السكان والمتتبّعين لملف بلدية اعفير، تحاملت عليها عدة أسباب أبرزها قلة عدد المشاريع السنوية المخصّصة للمنطقة وضعف الميزانية السنوية في ظل افتقاد البلدية لموارد محلية نظرا لغياب منطقة نشاطات ووحدات اقتصادية ما عدا العائدات السنوية الضئيلة لموسم الاصطياف غير المستغل جيدا من طرف السلطات المحلية.
وفي هذه النقطة بالذات أكّد رئيس البلدية أحمد بلقاسمي، أنّ «المنطقة تفتقد لموارد ومداخيل مالية لتدعيم الخزينة رغم وجود الكثير من المبادرات والمشاريع الاستثمارية بالأخص في مجال تربية الأبقار وإنتاج الحليب التي أثبتت نجاحها وبحاجة إلى توسعة النشاط لكن مشكل العقار الصناعي حال دون ذلك، لتبقى بلدية أعفير مرتبطة بنسبة كبيرة بإعانة الدولة عن طريق الميزانية السنوية التي تصل أحيانا إلى 19 مليار سنتيم، جزء كبير منها يذهب في مجال التسيير والتجهيز وتغطية نفقات المستخدمين، مع تخصيص جزءا ضئيلا للقيام ببعض العمليات وأشغال التهيئة».
ماء الشّرب والغاز الطّبيعي ..مطلبان رئيسيّـان
يشتكي سكان بلدية أعفير من أزمة مياه الشرب المتواصلة منذ سنوات بالرغم من كل المحاولات المبذولة من قبل مديرية الموارد المائية والسلطات المحلية لربط البلدية من مصادر مختلفة وتجديد الشبكة وقنوات الجر المهترئة للقضاء النهائي على مشكلة التموين وتذبذب عملية التوزيع المتفاوتة جدا بين قرية وأخرى، وهي الظاهرة التي تزداد حدة خلال فصل الصيف، حيث تجف الحنفيات لعدة أيام وحتى أسابيع.
ونظرا لحساسية الموضوع وحاجة المواطنين الماسّة لهذه المادة الحيوية، استفادت البلدية من عدة مشاريع لتزويد المواطنين بمياه الشرب، كان آخرها مشروع الربط انطلاقا من محطة تحلية مياه البحر لبلدية رأس جنات، الذي واجه الكثير من الصعوبات والعقبات التقنية والمادية.
كما استفادت البلدية من مشاريع أخرى قطاعية مستعجلة للتخفيف من حدة المعاناة، كان آخرها مشروع إنجاز محطة ضخ بقوة دفع عالية على مستوى قرية «الثوابت» بغلاف مالي قدّر بـ 5 ملايير سنتيم لتدعيم الشبكة، وتحقيق نوع من الاستقلالية عن القناة الحالية المشتركة التي تزوّد المدينة الجديدة لدلس وعدد من القرى الأخرى، إضافة إلى مشروع إنجاز 9 خزانات جديدة لتوسيع طاقة التخزين الحالية.
نفس الصعوبات يواجهها مشروع الربط بشبكة الغاز الطبيعي، الذي يبقى عالقا وغير مكتمل في مرحلته النهائية المتعلقة بربط السكنات ووضع العدادات من أجل وضعه حيز الخدمة للتخلص النهائي من أزمة التزود بالغاز لمواجهة الظروف الطبيعية القاسية في فصل الشتاء.
وفي ردّه على هذا الانشغال، كشف أحمد بلقاسمي «أنّ نسبة الربط الحالية بشبكة الغاز لا تتعدى 15 بالمائة، في انتظار العمليات القادمة بعد استفادة أزيد من 600 عائلة مؤخرا من هذا المادة الحيوية شملت قرى الرباعي، تلاعياش، اشعباتن، واد أوباي وبوسكور، في حين يتم انجاز مشروع حاليا لربط قرى فجدان، أيت أورمضان وعبادة».
وفي سؤال عن قضية أزمة المياه، أكّد بلقاسمي «أنّ الوضعية تحسّنت قليلا مقارنة على ما كانت عليه سابقا»، مرجعا سبب الأزمة المتواصلة «إلى طبيعة الشبكة الحالية وصعوبة ربط كل إقليم البلدية بسبب تضاريس المنطقة»، مضيفا «أن البلدية بحاجة إلى دراسة تقنية شاملة لإعادة النظر في شبكة التوزيع، وهو لب المشكل وليس نقص الموارد، وهو ما تقوم عليه حاليا السلطات المعنية ومنها مديرية الموارد المائية لإنجاز مخطط توجيهي شامل لمعالجة مشكل مياه الشرب».
بالإضافة إلى هذه الانشغالات الأساسية التي أثقلت كاهل السكان، تعاني البلدية من أزمة ضعف شبكة الصرف الصحي، حيث لا تتعدى نسبة الربط 40 بالمائة حسب مصدرنا، وبالتالي تبقى نسبة 60 بالمائة من سكان أعفير يعتمدون على الحفر الصحية التقليدية دون تقدير لحجم الضرر على الطبيعة والمحيط العمراني، مع مطالب بالإسراع في تهيئة قاعة العلاج لقرية «عبادة» التي وصلت 60 بالمائة وتوفير الوسائل والتجهيزات لقاعة العلاج بالزاوية وبومعطي، وتدعيم العيادة متعددة الخدمات بأطباء متخصّصين كمصلحة الأمومة.
أما عن قطاع التربية، فإن بلدية أعفير رغم طابعها الريفي تعتبر محظوظة من حيث المرافق التربوية والخدمات المرافقة للتلاميذ مقارنة مع عدد من بلديات بومرداس التي تعاني صعوبات كبيرة في هذا المجال، حيث تتوفر حاليا على ثانوية جديدة، متوسطتين و9 مدارس ابتدائية توفّر الوجبات الساخنة، تتكفّل بها 6 مطاعم مدرسية عن طريق التنقل إلى باقي المؤسسات التي تفتقد للمطعم، مع تحذيره من عودة الوجبات الباردة بسبب أزمة نقص العمال المهنيّين، كما تحوي حظيرة البلدية 9 حافلات للنقل المدرسي أربعة منها جديدة استفادت منها مؤخرا في إطار الإعانات المقدمة للبلديات من طرف وزارة الداخلية والجماعات المحلية.
«مسح الأراضي» حجر عثرة
لا تزال قضية مسح الأراضي التي تمت بطريقة ارتجالية ومتسرعة بحسب تصريحات المواطنين تشكل عقبة حقيقية في وجه التنمية المحلية والحركية الاقتصادية لبلدية أعفير، حيث كبحت صيغة السكن الريفي الذي شكل مخرجا وحيدا للسلطات المحلية لتجاوز أزمة السكن الخانقة نتيجة قلة عدد المشاريع المخصصة لهذه المنطقة النائية التي لا تتعدى 150 وحدة تصارع الزمنو منذ سنة 2011و تاريخ انطلاق المشروع المجزأ بين قرية بومعطي ومركز البلدية لأكثر من 700 طلب استفادة.
في حين يواجه أصحاب ملفات السكن الريفي صعوبات جمة أيضا للاستفادة من إعانة السكن الريفي وإتمام وثائق الملف، حيث تحصي البلدية 400 طلب استفادة عالق لغياب عقد الملكية، مقابل فقط 1740 استفادة منذ سنة 2002، رغم تضاعف عدد السكان ورغبتهم في إنجاز سكنات فردية بواسطة هذه الصيغة حماية لنشاطهم الفلاحي والتشجيع على الاستقرار على حد قول أحمد بلقاسمي.
وعن هذا الموضوع وخلفياتهو يشير رئيس المجلس الشعبي البلدي بالقول «إن أزيد من 50 بالمائة من أراضي البلدية مصنفة في خانة «المجهول» من قبل مصالح مسح الأراضي لبومرداس الذين قاموا قبل سنوات بهذا المشروع في إطار تنظيم العقار وتسجيله، لكن النتيجة كانت كارثية على المنطقة بسبب التعقيدات والمشاكل التي يتخبط فيها المواطنون لحد اليوم بالنظر إلى مشكل التصنيف وإعادة إثبات الملكية الخاصة المتوارثة التي تتم عادة عن طريق القضاء».
مشاريع رهينة الإرادة والمتابعة
إلى جانب انشغالات المواطنين اليومية مع مشاكل التهيئة الحضرية، محدودية شبكة الصرف الصحي، الإنارة العمومية وقلة المرافق الرياضية والشبانية، فشلت البلدية في تقديم بدائل لخلق الثروة ودعم الجباية المحلية لدعم الميزانية السنوية المخصصة لإنجاز المشاريع، فرغم الإمكانيات والقدرات الهامة التي تنام عليها المنطقة في المجال الاقتصادي كالنشاط الفلاحي والسياحي، إلا أن غياب الإرادة وروح المبادرة قد جعل بلدية اعفير تتذيل البلديات الفقيرة من حيث المداخيل التي انعكست سلبا على الجانب التنموي والتهيئة الحضرية وزادت من تدني المستوى المعيشي للسكان.
فرغم ما وهبته الطبيعة من مقدرات لبلدية اعفير ومن أبرزها شاطئ صالين غرب الواقع بمصب واد اوباي والمعروف على المستوى الولائي وحتى الوطني، إلا أن سوء إدارة هذا المورد من قبل السلطات المحلية التي تركته عرضة للفوضى وتلاعبات شباب «الباركينغ «والمظلات الشمسية الذين استغلوا حالة الفراغ لابتزاز المصطافين لكن على حساب خزينة البلدية التي لم تستفيد من هذا الريع، بالإضافة إلى عدم المتابعة واستغلال دعم الولاية المخصص للبلديات الساحلية لتطوير النشاط وتهيئة الشواطئ واستغلالها في الجانب الاقتصادي.
مورد اقتصادي آخر هام غير مستغل بطريقة عقلانية ويتعلق بنشاط الصيد البحري المحتشم الذي لم يلق الاهتمام الكافي من قبل السلطات والقائمين على قطاع الصيد بالولاية، خاصة بعد اندثار مشروع تهيئة ملجأ الصيد لقرية الزاوية بمنطقة لحصار الذي كان مسجلا ضمن المخطط 2009/ 2014 من أجل تحسين ظروف عمل عشرات المهنيين الذين ينشطون بطريقة تقليدية بسيطة بسبب نقص الإمكانيات وانعدام فضاء مهيأ لرسو سفن الصيد التي يتم جرها بعيدا عن الساحل خوفا من هيجان البحر.
لكن هذه الوضعية الاقتصادية الصعبة لبلدية اعفير ليست مرتبطة فقط بمشكل التسيير وانعدام المشاريع الاستثمارية للمنطقة بنظر رئيس المجلس الشعبي البلدي الذي كشف عن مشاكل أخرى عويصة تعاني منها البلدية وتتمثل في أزمة مسح الأراضي، حيث تبقى 50 بالمائة من الأراضي مصنفة في خانة «المجهول» وهو ما أعاق كل النشاطات المبرمجة بما فيها مشاريع الخواص لانجاز وحدات صناعية بسبب غياب العقار الصناعي.
كما طالب بهذه المناسبة «السلطات العمومية بضرورة إعادة تفعيل مشروع منطقة التوسع السياحي لبلدية اعفير الممتد على عدة هكتارات بمنطقة صالين شرق الذي سجل لفائدة البلدية من قبل وزارة السياحة من أجل تذليل العقبات أمام المستثمرين وحاملي المشاريع الذين ينتظرون تسوية الملف لتجسيد مرافق سياحية تساهم في تنشيط القطاع السياحي وخلق مناصب الشغل».
المجتمع المدني شريك لإضاءة نقاط الظل
أمام الحالة المتدهورة لبلدية اعفير من حيث التسيير ونقص المشاريع التي حرمت المواطن من حق التنمية واتساع رقعة التهميش ونقاط الظل مع تطلع السكان لمشاريع فك العزلة، أدركت السلطات العمومية أهمية المشاركة والتعاون مع جميع الأطراف لإعادة قطار التنمية إلى السكة ولن يكون ذلك إلا بتكاتف جهود الجميع، وهي الرسالة التي فهمها أبناء وشباب المنطقة المخلصين الذين اقتنعوا أخيرا «بالمشاركة الايجابية» في تنمية المنطقة وترك سياسة «الكرسي الشاغر» التي أثبتت فشلها في تقديم إضافة جديدة وتحسين الإطار المعيشي للمواطن عن طريق المساعدة في تقديم مقترحات وانشغالات للسلطات المحلية من أجل الإسراع في تجسيد المشاريع التنموية المسجلة التي يتطلع إليها السكان وفق مبدأ الأولويات.
تبقى الكرة في مرمى السلطات المحلية والولائية بحسب تصريحات بعض المواطنين من بلدية اعفير وممثلي الجمعيات الناشطة في الميدان من أجل التكفل التام بمجمل الانشغالات المطروحة حتى لا تبقى مجرد حبر على ورق.
(عن «مجلة التنمية المحلية» عدد فيفري 2021)