سيدي لخضر بن خلوف..

مدّاح الرسول وشاهد على معركة مزغران

غانية زيوي

تحتضن ولاية مستغانم العديد من الأضرحة والمعالم الدينية، والزوايا التي كانت عبارة عن مدارس لتلقين العلوم الإسلامية وحفظ القرآن الكريم، إذ ساهمت في خدمة الرسالة المحمدية وتنوير الفكر وتربية الأجيال على الدين والأخلاق والمبادئ والقيم، كما عملت على توحيد المجتمع على أصول وحدة العقيدة وتحكيم الكتاب والسنة، كل هذه المكتسبات كان لها دورا في الحفاظ على الهوية العربيةّ، فأرض مستغانم أرض طاهرة ما جعلها تلقب بمدينة «الألف ولي»، ولعل أبرزها ضريح الولي الصالح «سيدي لخضر بن خلوف».
يعد ضريح «سيدي لخضر بن خلوف» تحفة معمارية تزينه النخلة الشامخة المنتصبة الممتدة إلى قبره، حيث يتوافد الزوار إلى مقامه طيلة أيام السنة للتبرك به، مما جعل السياحة الدينية التاريخية في المدينة سياحة رائجة تستقطب أعداد كبيرة من السياح المحليين والوافدين من مختلف البلدان للاستمتاع بزيارة المعالم الدينية.
يعتبر الولي سيدي لخضر بن خلوف من الرجال الذين دونوا أسماءهم في التاريخ بمداد كلما طال عليه الزمن زاد إشعاعا، ومن النبغاء الذين كان لهم الفضل الكبير في تصوير الثقافة، والتعبير عن العادات، ونقل تاريخ الأمجاد، وغيرها من الموضوعات التي يعبر عنها من خلال أشعاره.
من سلالة الشرفاء
اسمه الحقيقي «ابو محمد لكحل بن عبد الله المغراوي» ولد في أواخر القرن الثامن للهجري، وتوفي في أوائل القرن العاشر الهجري عن عمر ناهز ال 125 سنة (1479م/1585م)، وقد خلد أيامه الأخيرة عبر قصيدة «الوفاة» الشهيرة.
جوزت مائة وخمسة وعشرين سنة حساب وزدت من ورا سني ست شهور
 ينحدر الوالي الصالح «سيدي لخضر» من قبيلة الزعافرية، إذ يعود نسبه إلى الإمام «علي بن أبي طالب» كرم الله وجهه، الذي خصه بالمديح في قصائده، إلا أنه لم يكن متشيعا ويظهر ذلك جليا في حبه لخاتم الأنبياء والرسل محمد عليه الصلاة والسلام حبا لا مثيل له لأصحابه وأهل بيته جسده بقضائه لقرابة القرن في المدح والتقرب بالصلوات والذكر والرغبة في رؤية تحققت له وهو في سن الأربعين، ولم يقتصر شعر سيدي لخضر بن خلوف على مدح الرسول (ص) بل شمل الحكمة والحماسة والفخر والتوحيد والموعظة، إلى أن وافته المنية ودفن قرب خيمته، وهو محبوب المغرب العربي بفضل أشعاره.
نشأ بن خلوف في بيئة تشتهر بخصال حميدة من جود وكرم وحسن ضيافة، وهي قيم مستمدة من تعاليم الدين الإسلامي، والبيئة العربية المشهورة بخصال العرب الحميدة، تزوج بامرأة تدعى «غنو» وهي ابنة الولي الصالح سيدي عفيف شقيق سيدي يعقوب وأنجب منها بنت أسماها» حفصة» وأربعة ذكور هم (احمد، محمد، أبا القاسم، الحبيب ) وهي كلها أسماء النبي «محمد» عليه الصلاة والسلام،.في إشارة رمزية كبرى إلى أن النبي عليه السلام، كان موضوع حبه كله، وهو الأمر الذي تترجمه قصائده كلها.
ذاع صيت سيدي لخضر بن خلوف، واشتهر اسمه، وعمت مناقبه، فكان زاهدا في الدنيا، مترفعا عن متاعها وزخرفها، فاستحق بهذه الصفات مقام الولاية، كل هذه الصفات جعلت منه مثالا يقتدى به في الحكمة والموعظة الحسنة، وزادت قيمته وشهرته بإبداعه الشعري الرائع، خلده التاريخ وغنت به الأجيال، حيث جمعت أشعاره في ديوان شعري تناول مدح الرسول صلى الله عليه وسلم، وتناول الأمثال والألغاز والدعوة إلى التعاون والتضامن والدفاع عن حمى الأرض.
كتب بن خلوف المئات من الأبيات والقصائد حكا في البعض منها عن مغامراته وحياته لكنه خصص الجزء الأكبر منها لسيد الأنام عليه الصلاة والسلام حيث عرف بـ «مادح النبي «، إلى جانب الإلياذة التي وصف فيها معركة مزغران ضد الأسبان في 26 أوت 1558 التي أصبحت مرجعا هاما للمؤرخين والباحثين.
 وجعل بن خلوف الشعر الشعبي المعروف بالشعر الملحون في متناول الجميع حيث عرف بكبار شيوخ هذا الفن من أمثال المغراوي، المجدوب ....وغيرهم.
قصة مزغران
يعد شعر بن خلوف مرجعا هاما لحقبة مميزة من تاريخ الدولة الجزائرية التي تكالب عليها الاستعمار الاسباني ذو النزعة الصليبية من خلال الوصف للأحداث في قصيدتينّ، يروي فيهما ما وقع في ساحة الوغى التي خاضها شخصيا ضد الغزاة الإسبان، ولعل أشهرها «قصة مزغران».
القصيدة الأولى تتحدث عن معركة شرشال» تعرف بـ «قصة شرشال» مدونة تاريخيا، وهي رحلة طويلة في المقاومة كانت بدايتها الجزائر شمالا مرورا بالبليدة والأصنام ثم مزغران غربا حيث يقول:
في جبل شرشال حطينا للقتال
يحق في ذاك اليوم امرا بكاية
كما شارك في الكثير من المعارك، ولعل أبرزها معركة مزغران ضد هجوم «الكونت دالكوت» حاكم مدينة وهران على مدينة مستغانم، أين انهزم فيها الجيش الإسباني وقتل الكونت برفقة ابنه.
تدور القصيدة حول معركة «مزغران» الشهيرة التي دارت بين الإسبان والمسلمين بقيادة الأمير حسن باشا نجل خير الدين، قصيدة للدفاع عن الوطن والذود عن كرامته واستقلاله، فخلد ذلك في قصيدة وصف فيها هذه الواقعة في حماس وطني يشعرنا بتلك الملحمة الضارية التي عاشها وطننا.
يا فارس من تم جيت
غزوة مزغران معلومة
يا سايلني كيف ذا القصة
بين النصراني وخير الدين
وقد استطاع سيدي لخضر بن خلوف بشعره الحماسي وباعتباره ممن عايشها أن ينقل لنا وقائع تلك المعركة بكل وقائعها وأحداثها وأبطالها.
لقد ساهم بن خلوف في الدفاع عن الوطن والتاريخ لأحداثه وبطولات شعبه، وكان الشاعر يغرس الأمل في نفوس المحاربين بشعره، ويدعو الجميع إلى الالتفات نحو القضية الوطنية، والدفاع عن شرف الأمة، فكان النصر وكانت البشرى.
سيدي لخضر بن خلوف «مداح النبي»
سخر بن خلوف الوقت الأكبر من حياته في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم حيث يقول « ربعين سنة وأنا جاهل
والباقي مشالي من المدح المبرور»، ويعني البيت الشعري بأن جرى به الزمن بسرعة وقضى 40 سنة من حياته في محاربة العدو وطرده، وما تبقى منها سيتركه لمدح الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، حيث انتقل إلى مدينة تلمسان بقصد القرب من الشيخ محمد عبد الحق بن عبد الرحمن بن عبد الله المعروف باسم سيدي بومدين، بهدف التعلم وتصفية الروح وتكريسها للعبادة. وتذكر بعض الروايات، أن الوالي الصالح سيدي بومدين الشعيب، كان له عظيم الأثر في نزعة لخضر بن خلوف الصوفية، وتوجيه ملكته الشعرية نحو مدح النبي الأعظم.
وهكذا ظل الولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف طوال حياته مستخرا لمدح الرسول صلى الله عليه وسلم لدرجة أنهم يقولون « إنه رآه في المنام تسعا وتسعين مرة»، ولا تزال هذه القصيدة مستوية على سوقها توشح المراسيم الجنائزية والمناسبات الدينية، حيث تتعاقب على حفظها أجيال كثيرة في الزوايا والكتاتيب.
محمد آي سيدي
صلى عليك لبدا
محمد آ العربي
وما عزك يا عين وحدا
كما تضمن خطابه الشعري جملة من الخصائص الدينية التعبدية المرتبطة بالوعظ والحكمة والورع.
النخلة .. الحارس الأمين لضريح الولي الصالح
وإذا قصدت هذا الضريح فإن أول ما يتراءى لك تلك اللحظة وصولك إلى مقام سيدي لخضر تلك النخلة العجيبة التي تطلع من الضريح حيث تراها باحثة عن السماء حيث روحه وبالقرب منها مقام الكرمة الذي يحتوي على آثار فرسه وعصاه على الصخر.
للإشارة فالنخلة التي امتد جذعها كحارس أمين وأبدي لضريح الولي الصالح قد تعرضت للقطع في العشرية السوداء بواسطة منشار، إلا أنها قاومت وضمدت الجرح وقد أوصى بن خلوف أولاده بأن يدفن عندها عندما علم بقرب أجله قائلا «النخلة المثبتة تلقح من بعد اليبوس حذاها يكون قبري يا مسلمين».
 زيادة على هذه النخلة توجد خيمة الشعر وسر الأمنيات التي يقطنها سيدي لخضر وانفرد فيها لمدح النبي وذكر الله، يقال إن كل من يقصد خيمة الشعر تلك، تستجاب دعوته، لذلك يقصدها العديد من الأشخاص كبارا وصغارا، بعضهم يطلب عملا، وبعضهن تطلب زوجا صالحا، وآخرون يريدون أن تصبح تجارتهم مباركة.
الطعم والركب لإحياء ذكرى الولي الصالح
ومازالت حكايات الولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف عن كرمه بلا نهاية حيث يقيم أحفاد الولي الصالح سيدي لخضر بن خلوف ولائم تتخللها أفراح وأهازيج مصحوبة بعروض للفروسية، الحفل الذي يسمى «بالطعم» وهو مناسبة للتبرك بالولي بعد زيارة ضريحه الطاهر، كما يقام سنويا الركب من طرف محبي سيدي لخضر بن خلوف بمعية أحفاده لمدة يومين يجتمع فيها أتباع هذا الولي في حلقات ذكر يتلون كتاب الله، ويتذكرون مناقب هذا الولي الصالح الذي جمع بين التصوف والجهاد، كما تشارك فيه فرق البارود قبل أن تحل محلها ليلا فرق الموسيقى الشعبية ولا تغنى فيه إلا قصائد من نظم سيدي لخضر بن خلوف في مدح الرسول صلى الله عليه وسلم.
ويبقى الولي سيدي لخضر بن خلوف أحد أهم الشعراء الذين خلدتهم قصائدهم في حقل الشعر الملحون، حيث لا زالت أعماله تتوارثها الأجيال جيلا بعد جيل رغم طول المدة.

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19472

العدد 19472

الجمعة 17 ماي 2024
العدد 19471

العدد 19471

الأربعاء 15 ماي 2024
العدد 19470

العدد 19470

الثلاثاء 14 ماي 2024
العدد 19469

العدد 19469

الثلاثاء 14 ماي 2024