تمتد على مدى أربع سنوات

ألفا بقـرة حـلـوب تصنع المشهـد في غــرداية

عبد الكريم عمارة

تعتبر ولاية غرداية منبعا استراتيجيّا هامّا لحليب البقر، بأكثر من 2000 بقرة حلوب، بحسب المصالح الفلاحية للولاية، وسجّلت حوالي 19 مليون لتر من حليب البقر، نهاية 2020 بزيادة قدّرت بـ 3 ملايين لتر، حيث أنّ 4 ملايين منها يحوّل نحو ولايات مجاورة.

يشهد قطاع الفلاحة بولاية غرداية نقلة «نوعية»، وطفرة «ملموسة» من حيث الكم والنّوع، تجسّدت في بروز ملامح جديدة لهذا النّشاط، الذي تحوّل من فلاحة معيشية محدودة لا تتعدّى بساتين النّخيل إلى مساحات زراعية واسعة، وذلك بفضل جهود أبنائها في استصلاح أراضي جرداء قاحلة إلى مساحات زراعية واسعة، وأيضا بفضل الجهود التي بادرت بها السّلطات العمومية لترقية هذا القطاع الحيوي.
وضمن الخارطة الفلاحية المسطّرة من طرف وزارة الفلاحة، ستمتد خلال الأربع سنوات المقبلة، تشمل ثمانية محاور ستكون ورشات عمل كبرى تخص بالتّحديد: العمل على تطوير الإنتاج الفلاحي بالزّيادة في المساحات المسقية، الزّيادة في مردودية الإنتاج والإنتاجية، بالإضافة إلى الاستغلال العقلاني للعقار، وتشجيع الاستصلاح الفلاحي في المناطق الرّيفية.
وسجّل في هذا الصّدد تزايد العقار المزروع والمسقي، الذي انتقلت مساحته من 39.350 هكتار في 2015 إلى 69.350 هكتار في 2019، ويتشكّل من 8.981 هكتار من واحات النّخيل القديمة، 15.662 هكتار موزّعة في إطار صيغة الامتياز و44.705 هكتار ضمن حيازة الملكية العقارية الفلاحية.
وسمحت هذه المساحة الفلاحية المزروعة المقدّرة بحوالي 8 آلاف هكتار سنة 2000، بالتّحوّل إلى محرّك رئيسي للتنمية الاجتماعية والاقتصادية المحلية بهذه الولاية، التي تتوفّر على قدرات متنوّعة تمكّنها من المساهمة في الأمن الغذائي الوطني، بالإضافة إلى ضمان مناصب شغل ومداخيل للنّاشطين في القطاع.
هذا ما سمح بتطوير أنشطة مختلفة في مجال تربية المواشي، الماعز والأبقار، والتي مكّنت بدورها من تحقيق إنتاج معتبر في مادة الحليب من مصدر حيواني، أهّلها لأن تحتل مكانة مرموقة في مجال تنظيم شعبة الحليب في الجزائر، وتخفيض تكلفة واردات الحليب ومشتقّاته التي بلغت حوالي 123.95 مليون دولار في 2020، حيث تمّ استحداث عديد المستثمرات الفلاحية النّموذجية النّاجحة، بالإضافة إلى مساهمة القطاع الخاص بـ 10 ملبنات على تراب الولاية. استثمارات محلية بأبعاد وطنية، على غرار ملبنة «الصافي» التي تعتبر من أولى الملبنات في المنطقة، وواحدة من أهم الوحدات الخاصة بإنتاج حليب البقر ومشتقاته.

انطلاق التّـجربة بـ 60 لترا في اليوم

في مكتبه بملبنة «الصافي» بغرداية، استذكر عمّي إبراهيم العلواني بدايات تجربة انطلاق ملبنته، والتي كان التّفكير فيها في إحدى ليالي رمضان الكريم من سنة 1999 بعد أن آلمه مشهد طوابير انتظار أكياس الحليب، قائلا: «هناك عقدنا العزم على ضرورة إيجاد حلّ نهائي لهذه الأزمة».
باشر الإجراءات القانونية والبيروقراطية التي امتدّت 4 سنوات كاملة، إلى غاية فيفري 2003 تمّ الشّروع في العمل بعد التّعاقد مع 5 مربّي أبقار بإنتاج يومي يقدّر بـ 60 لترا، ليصبح بعد 10 سنوات وتحديدا في 2013 بـ 91 مربيا و25.000 لتر يوميا، وهو ما كان يُعدّ رقما قياسيا.
ومنذ نهاية 2020، وبسبب العديد من العوامل أبرزها جائحة «كوفيد-19»، التي مسّت كل الجوانب في جميع القطاعات، جعل إنتاج الملبنة يستقر في 13.000 لتر يوميا، بحسب ما صرّح به صاحبها عمي ابراهيم لمجلة «التنمية المحلية».

«ذهب أبيض»..لكن بأي ثمن؟

أصبحت بعد ذلك ولاية غرداية منبعا استراتيجيّا هامّا لحليب البقر، بأكثر من 2000 بقرة حلوب، بحسب المصالح الفلاحية لولاية غرداية، وتسجيل حوالي 19 مليون لتر لحليب البقر، نهاية 2020 بزيادة قدّرت بـ 3 ملايين لتر، حيث أنّ 4 ملايين منها يتم تحولها نحو ولايات مجاورة.
«كل هذه النّتائج تترجم مدى الجهود المبذولة من مربّي الأبقار والملبنات، وكذا الجهات الوصية بالقطاع في تحقيق هذه المادة الحيوية»، بحسب المصالح الفلاحية بالولاية.
لكن من يسهر على إنتاج الحليب بشكل أساسي هم مربّو الأبقار الذين ينتشرون على تراب الولاية و»هم من صغار الفلاحين، ومنهم من يملكون أقل من 10 بقرات»، بحسب إسحاق أولاد حاجو، وهو من أقدم مربّي الأبقار في المنطقة، ورئيس المجلس المهني لشعبة الحليب بغرداية، مضيفا أنّه «في غالب الأحيان هم لا يملكون الأراضي لزراعة وتوفير الأعلاف المناسبة للأبقار الحلوب بالكميات وبالجودة اللازمة مثل الماييز أو الذرى الملفوفة، السيلاج، بذور الذرة والصوجا. هذه الأعلاف تساهم في رفع إنتاجية الأبقار، لكن يتم استيرادها بأثمان باهضة تختلف من سنة إلى أخرى.
وبذلك يظل المربّون مرهونين دائما بأسعارها خصوصا الأعلاف المركّزة ذات المواد الآزوتية الخضراء والمواد البروتينية والسيليلوز الضرورية للأبقار الحلوب، التي تستهلك منه البقرة الواحدة حوالي 15 كلغ في اليوم.
في هكذا ظروف حرجة وغير مريحة، تنتج أبقار مزرعة أولاد حاجو حوالي 1000 لتر يوميا. وبعد كل عملية حلب للأبقار، يقوم الفلاحون ببيع محصولهم من الحليب، أما ما يربحونه فلا يكفيهم حتى لإدامة نشاطهم وفك الارتباط عن الأنماط التقليدية للتعامل مع تربية قطيعهم، وتحسين مستواهم وكفاءاتهم العلمية للتأقلم مع اقتصاد السوق، يضيف عمي إسحاق.
أغلب المربّين والمنتجين المحليّين هنا في غرداية يفضّلون بيع إنتاجهم للملبنات، ويخضعون لنفس القوانين التي تحدّد سعر بيع لتر الحليب بـ 50 دج، بعدما كان 48 دج في السّنوات القليلة الماضية.
ياسين هو مربّي الأبقار الحلوب في سبسب، وسط أراضي جفّفتها حرارة الصيف الملتهبة، يشتغل معه عاملان في الحظيرة لتنظيف ضرع الأبقار، لتنطلق عملية حلبها صباح كل يوم. يملك هذا المربّي مزرعة متوسطة تحتضن ما يقارب 15 بقرة. رغم ذلك، فإنّ مزاولة مهنته تبقى أمرا صعبا بالنسبة إليه، حتى وإن كان وضعه أحسن نوعا ما بالمقارنة مع مربّين آخرين.
بفضل العمل مباشرة مع الملبنة، رغم بعد المسافة بـ 300 كلم عن مقر الملبنة، إلاّ أنّ ياسين أصبح يبيع حليب أبقاره لشاحنة الملبنة كل صباح، منذ شهر جويلية الماضي، بسعر 50 دج للتر الواحد، وهو أغلى قليلا عمّا كان عليه من قبل، فقلة من مربّي الأبقار يستطيعون بيع الحليب بسعر أعلى من 50 دج الذي حدّدته الملبنات، والذي يشتري وفقه مصنّعو الحليب ومشتقاته.
رغم هذه الامتيازات، فإنّه يجد نفسه أمام صعوبات مالية لتغطية نفقاته الشّهرية يقول متذمّرا: «صحيح أنّني تمكّنت من تغطية تكلفة الإنتاج، لكن دون أن أُحقّق أرباحا مريحة»، قبل أن يُضيف «لو كنت أملك أرضا إضافية لزرعتها بالأعلاف من أجل شراء الصوجا بـ 13000 دج قبل أن كانت 6000 دج».
ولو لم يكن عند ياسين نشاط فلاحي في زراعات أخرى، لما كان بمقدوره أن يغطّي هذه الخسارة، حيث يقول متأسّفا: «أن تكون فقط مربّي أبقار، فهذه ليست مهنة مربحة تماما..لم يبق لديّ الكثير أنا على وشك بيع أبقاري».

أعلاف لا تُشبِع بشكل كاف

أن تكون فلاّحا في الجنوب، متخصّصا في تربية الأبقار فهو عمل شاقّ ومرهق، حيث يواجه المربّون صعوبات عديدة لإنتاج الحليب، وتكمن الصّعوبة في توفير الأعلاف المركّزة بشكل كاف ومستمر، وبسعر معقول ومناسب، هذا ما يجعل المربّي مرتاحا في الاستمرار بتطوير استثماره وتنويعه. يقول إسحاق أولاد حاجو في هذا الصدد: «الوضعية جدّ صعبة، نظرا للغلاء الفاحش للأعلاف المركّزة، والدعم الحالي بتقديم 3 كلغ لكل بقرة غير كاف تماما».
بارتفاع أعلاف الحيوانات التي تعدّت سقف 6600 دينار للقنطار، وعدم امتلاك المربّين مساحات زراعية مخصّصة لهذه الأعلاف، فإنّ كلفة إنتاج اللتر الواحد من الحليب ارتفعت بالنسبة للمربّين. ويضيف صاحب  30 سنة في تربية الأبقار: «نحاول في عديد المرات خلال المفاوضات مع أصحاب الملبنات رفع سعر الحليب، لكن لا نحصل إلا على دنانير معدودة، وزيادات خفيفة جدا!».
هذه الزّيادة لو تمّت، سوف تمسّ السّعر النّهائي الذي يصل إلى المستهلك (بحسب أصحاب الملبنات)، فهامش الرّبح عن كل لتر من حليب البقر لا يتعدّى 10 دنانير فقط، فهو يباع لمحلات المواد الغذائية بـ 60 دج، في حين أكّدوا بأنّ مطلبهم الرفع من قيمة الدعم المقدّرة بـ 12 دينارا عن اللتر الواحد لمربي الأبقار الحلوب في الجنوب، فهو يراوح مكانه منذ عدة سنوات، والجميع يعرف مدى صعوبة منطقة الجنوب وتحدّياتها الجغرافية.
ويرى ابراهيم العلواني، أنّه «يجب التفكير في وقف استيراد حليب البودرة الذي يستنزف الخزينة العمومية للدولة، والدفع نحو استعمال حليب البقر»، مضيفا «بأنّ الدولة منحت حوافز عديدة لتربية الأبقار، فيجب التفكير في كيفية التسويق».
ومن بين الحلول الاستراتيجية المقترحة من المجلس المهني لشعبة الحليب بغرداية، «ضرورة رقمنة القطاع لاتّضاح الرّؤية، ومعرفة خط سير الدعم بالأعلاف لإزاحة المتطفّلين».  


70 دينارا.. ليس في متناول الجميع

عبد المالك التقينا به صدفة في محل بيع المواد الغذائية بالتجزئة، يحمل في يده كيسين من حليب البقر. سألناه عن رأيه في الموضوع فأجاب بنوع من التذمر: «في النهاية المواطن دائما من يضطر لدفع المزيد من المال لاقتناء كيس حليب البقر، والذي يفترض أن يكون سعره معقولا..»، مضيفا: «لماذا يقولون إنّنا حقّقنا اكتفاءً ذاتيا؟».
انتقلنا بهذا السّؤال إلى أصحاب الملبنات، الذين اعتبروا بأن السعر الذي يصل إلى المستهلك المحلي فعلا مُبالغ فيه لأنّ المُصنّع يأخذ 10 دنانير فقط عن كل لتر من الحليب، بعد رحلة طويلة تبدأ من شاحنة الجمع، آلات البسترة والتعقيم، التغليف ثم شاحنة التوزيع، بدون احتساب تكلفة اليد العاملة، الكهرباء ومراقبة الشّاحنات..
وعند اتّصالنا بالجمعية الوطنية للتجار والحرفيين بغرداية، شدّد حاج صالح هميسي على ضرورة احترام التاجر لهامش الربح، وهو على الأكثر 5 دنانير، وأضاف: «يفترض أن ينعكس ارتفاع أسعار الحليب بشكل إيجابي على مربّي الأبقار»، متعهّدا «بالعمل على انعقاد جلسات حوار لضبط القضية مع التجار».
بينما تحدّث مصطفى زبدي، رئيس جمعية حماية المستهلك على «ضرورة تدخّل الدولة لتحديد هامش الرّبح بالنسبة للتجار في المواد الغذائية الأساسية، والمواد التي تسعى الدولة إلى توزيعها وتوسيع استعمالها تماما كحليب البقر، ليكون ضمن الثّقافة الاستهلاكية للمواطن».
بينما قال رئيس المجلس المهني لشعبة الحليب: «لو خُيّر المواطن بأن يزيد 5 دنانير لكيس حليب البقر، أو أن تعود الطوابير الطويلة من أجل الحصول على كيس الحليب، لاختار الأولى حفاظا على منبع الذّهب الأبيض».
وأضاف: «يجب أن نفسّر للمستهلك أنّ هناك ثمن لابد من دفعه»، فبالنّسبة له، إذا قام المربّون بالرّفع من ثمن الحليب، فهذا من أجل تغطية تكلفة الإنتاج، أي أن هذه الزيادة لا تعود بالنفع فقط على المصنّعين أو الوسطاء.  
ويواصل عمي إسحاق حديثه منبّها: «لأنّنا نعيش ضمن سلسلة مترابطة تشمل زراعة الأعلاف والحشائش، مربّي الأبقار، المصنع والتاجر، وأي من هؤلاء لو فكّر بشكل أناني فإنّه في النهاية سيخسر الجميع، والعكس صحيح أيضا».
لكن هذا الحل الذي طرحه لا يخلو من المخاطرة، يقول خالد وهو متّكئا على الجدار «لأنّ الزّيادة في الأسعار يمكن أن تؤدي إلى انخفاض الاستهلاك».
فحقا هي معادلة صعبة التحقيق، فهل نحن أمام مستقبل غامض؟ تساءل خالد، عمي إسحاق وياسين مقعمز..وغيرهم ممّن التقينا بهم بكثير من الخوف والحيرة بأنّ القطاع لم يعرف استقرارا بخطّة استراتيجية واضحة المعالم، وبقي يتقلّب بصفة دورية. أحيانا يرتفع الإنتاج بحيث يسجّل فائضا، وأحيانا أخرى يكون هناك نقص، دون أن تكون هناك حلول دائمة للقطاع.
وبحسبهم فإنّ البعض من المربّين بدأوا يفكّرون فعليا في التخلي عن قطيعهم وبيع أبقارهم. فمِنحُ الدّعم لا تسمح لهم بمواصلة النشاط وتغطية تكاليف الإنتاج، فهل هي حلقة مفرغة ستهوي بالجهود الجبّارة التي بذلها الفلاحون والمربّون والمستثمرون بشعبة الحليب.

حلول تنتظر التّـنفيذ

 أجمع كل من التقينا بهم بأنّ الدولة اختارت أن تُنشئ قطاعا لحليب الأبقار الطازج، وقدّمت دعما لا متناهيا للمربّين والفلاحين والمستثمرين في مختلف ربوع الوطن، ولذلك فإنه يفترض أن تمتلك نظرة واضحة واستراتيجية بعيدة المدى حول القطاع، ورفعوا جملة مقترحات تشمل:
- التقليص من استيراد حليب البودرة،
- مزج حليب البقر داخل كيس حليب البودرة المدعّم في إطار نظام دعم ومرافقة يخفّف من معاناة منتجي الحليب في ظل ارتفاع أسعار الأعلاف؛
- رقمنة القطاع وتتبّع مسار الحصص السّنوية من الدعم بالأعلاف إشراك مختلف الفاعلين؛
- الرفع من منحة الدعم عن كل 1 لتر من حليب البقر في الجنوب؛
- توسيع رقعة غرس الأعلاف الخاصة بالأبقار الحلوب خصوصا في المنيعة؛
- إصدار المراسيم التنفيذية للتكتل في تعاونيات متخصّصة؛
- التكفل بالصحة الحيوانية، وفتح مخبر بيطري متخصّص في غرداية.
وأخيرا مقترح ترسيم عيد سنوي لعرض «مشتقات الحليب وصناعة الأجبان والمنتجات الغذائية من الحليب»، بمشاركة مخابر، مديريات فلاحية، ممثلين عن جامعات ومعاهد التغذية والصناعات الفلاحية والغذائية ومختلف الفاعلين والمهتمين.
فهل ينذر المنبع بموسم جفاف أم سيشهد تدفّقا غزيرا؟

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024