المركب الفلاحي الصّناعي، محيط تندلة ومحطّة تربية المائيات

من تجارب إنتاجيّة... إلى أقطـاب استثماريّـة ناجحـة

الوادي وورڤلة: سعاد بوعبوش

متسلّحا بالتقنيات التكنولوجية الحديثة لاستغلال المياه في المجال الفلاحي، ومنطلقا من المؤهّلات الطبيعية التي تتوفر عليها المنطقة من تربة ومياه حرارية جوفية، اختار الديوان الوطني للسقي وصرف المياه، خوض تجربة الزراعة في صحراء الجزائر عن طريق مشاريع تجريبية، تحوّلت فيما بعد إلى أقطاب استثمارية عمومية ناجحة، شهدت توسّعا بعدها ودعما منه لجهود الدولة الرامية لتحقيق الأمن الغذائي، فكانت النتيجة المركب الفلاحي الصناعي بغمرة بتقرت ورقلة، محيط السقي ببلدية تندلة للحبوب، والمحطة التجريبية لتربية المائيات بالمغيّر بالوادي.


اختارت مجلة «التنمية المحلية» التي تصدرها مؤسسة «الشعب»، تسليط الضوء على نماذج لاستثمارات فلاحية عمومية، نظرا لأهميتها في تحريك التنمية المحلية والوطنية، فهي لا تمثل مشاريع فلاحية فقط بل أقطابا زراعية بامتياز، بعضها بدأت بشراكة أجنبية وأخرى استفادت من تطور وتراكم الخبرات، لتتحول من حلم إلى واقع عبر استخدام المياه الحرارية الجوفية في الإنتاج الفلاحي واستغلال الطاقة الحرارية الأرضية، وبسواعد محلية هي أدرى بشعاب أراضيها تبنّت مقاربة أساسها العلم، التقنية، العمل، التجربة والابتكار.
ولم يتوقف حدود هذه المشاريع عند الإنتاج فقط، بل رسمت لنفسها آفاقا أخرى، من خلال فتح الأبواب أمام التكوين والمرافقة التقنية لفلاّحي المنطقة، وكذا طلبة الجامعات والمعاهد الفلاحية والمتربصين في التكوين المهني بهدف مدهم بالتقنيات الحديثة المستعملة في الميدان.
بحسب نصر الدين ركروكي، المدير الجهوي للصحراء بديوان السقي وتصريف المياه، فإن نوعية هذه الاستثمارات المجسّدة من طرف الديوان الوطني للسقي «لونيد»، كانت بمثابة استغلالا لإمكاناته وخبرته في المجال، انطلاقا من مهامه الرئيسية، فهو يضمن خدمة عمومية لتوفير المياه للفلاحين ضمن شروط تقنية واقتصادية عالية، بهدف تشجيع إنتاج فلاحي جيّد.
ويتكفّل أيضا بتسيير، استغلال والمحافظة على شبكات السقي والشبكات المرتبطة وتوجيه السقي، ناهيك عن تسويق الماء الفلاحي ومرافقة وتقديم النصائح لمستعملي الماء الفلاحي، وبالتالي الأرضية كانت متوفرة والإرادة والرغبة في النهوض بهذا المجال والانخراط في توجه الدولة كان الهدف.

حقول خضراء تعانق الرّمال...

يعد محيط السقي للحبوب بتندلة أنموذجا للاستثمار العمومي الناجح، داعب الإخضرار فيه رمال الصحراء، هو نتيجة لمشروع تجريبي بدأ العام الفارط بزرع الشعير على مساحة 10 هكتارات، وبعد نجاح التجربة تم توسيع المساحة المستغلة إلى 60 هكتارا، 40 منها مسقية خصصت هذه السنة لزراعة القمح في إطار الزراعات المتأخرة.
وذكر نصر الدين ركروكي، المدير الجهوي للصحراء، أنّه أمام النتائج المبهرة المحققة، تمّ التفكير في تجهيز مساحة أخرى وتهيئتها، تتربع على 50 هكتارا لاستغلالها العام المقبل، سيما مع الوفرة المائية. علما أنّ المحيط يتوفّر على أحواض مائية تتراوح سعة استيعابها بين ألف وألفي م3 لتبريد المياه المنبعثة من الآبار الألبيانية وتوجيهها للسقي الفلاحي، بالإضافة إلى مرش محوري بطول 252 متر.
في المقابل أكّد ركروكي، أنّه تمّ استخدام الجهد التقني لتطوير الزراعة الصحراوية، سيما في الزراعات المتأخرة، من بينها المعالجة الكيميائية التي تكون من بداية الزرع إلى التسميد، مبررا اختيار المنتوجات الاستراتيجية بدعم جهود الدولة لتعزيز الأمن الغذائي، بالإضافة إلى دورية هذه المحاصيل وسهولة تسويقها.
ويتم أيضا استغلال التجارب المحلية التي من شأنها ضمان استدامة هذه الفضاءات كحماية المساحات المسقية من أي اعتداء، سيما من الجمال، وذلك عن طريق بناء خنادق أو إقامة حواجز رملية أو كما يعرف عند أبناء المنطقة بـ «طابيا».
من جهة أخرى، أكّد المتحدث أن هذه المحيطات مفتوحة أمام أي مبادرة من شأنها تشجيع تبادل الأفكار والخبرات، وكذا ضمان الاحتكاك الميداني مع الأرض والمنتوج، مشيرا إلى وجود اتفاقية مع محافظة تطوير الفلاحة بين المناطق الصحراوية من أجل المرافقة، وكذا متربصي التمهين بمراكز التكوين المهني والجامعة.

مركب غمرة... مغامرة استثماريّة

إنجاز مركب أنموذجي باستخدام المياه الحرارية الجوفية في الإنتاج الفلاحي ذي القيمة الإضافية العالية بتقرت، لم يكن وليد الصدفة، فهو مشروع طموح ومغامرة استثمارية تجسّدت بفضل إرادة المسؤولين المركزيين والمحليين، ويعد اليوم ثمرة نجاح تجربة بمحطة المغير المكلفة بمحيط السقي وادي ريغ، حيث تم إنجاز بيت بلاستيكي نموذجي يخضع للتسخين عبر مياه الآبار الألبية بمنطقة المغير بوادي ريغ، وهي تقنية ذات قيمة طاقوية شبه منعدمة، تسمح بتوفير ظروف بيئية ملائمة لإنتاج البواكير في 2011.
وفي أفريل 2013 طلب من الديوان الوطني للسقي وصرف المياه تجسيد هذه المبادرة في مشروع نموذجي ضخم بالمنطقة، وبالفعل بتاريخ 3 ديسمبر من نفس السنة، وفي غياب مبادرة خاصة تمّ تشجيع «لونيد» على خوض تجربة الاستثمار في إنجاز مستثمرة فلاحية نموذجية، وبالفعل طلب بداية سنة 2014 القيام بدراسة تقنية اقتصادية من طرف مكتب دراسات معتمد لإنجاز مستثمرة فلاحية ذات 10 هكتارات موسعة لـ40 هكتارا تستخدم المياه الحرارية الجوفية بولاية ورقلة، ليتم إطلاق مناقصة وطنية ودولية لإنجاز المستثمرة الفلاحية، والتي كانت من نصيب المؤسسة الإسبانية المتخصصة في الكنترة «إليكانتارا سيستامز».

المياه الحرارية الجوفية لإنتاج البواكير

 يعد المركب، بحسب مسيره بالنيابة عبد الكريم تيجاني، الأول من نوعه في الجزائر، يستخدم المياه الحرارية الجوفية المنبعثة من الآبار الآلبية لإنتاج البواكير ذات المردود العالي والقيمة الإضافية العالية، يتربّع على مساحة إجمالية قدرها 250 هكتار، 40 هكتارا من البيوت البلاستيكية المجهزة للزراعة خارج التربة لإنتاج البواكير، 16 بيتا بلاستيكيا هو عدد البيوت البلاستيكية المزمع تنصيبها عبر ثلاث مراحل، 4 بيوت بلاستيكية لكل 10 هكتارات.
يتم تزويده بالماء الساخن المنبعث من الآبار بدرجة حرارة تتراوح بين 50 إلى 60 درجة، بملوحة تتراوح بين 2,5 و3,5غ/ل، يتم عبر الآبار الارتوازية للمنطقة التي يتراوح عمقها ما بين 600 إلى 2000 متر خطي، يتم استرجاع الطاقة الحرارية لتسخين البيوت البلاستيكية عبر التدفئة المركزية، من خلال تخزينها بأحواض بطاقة استيعاب الواحد منها 10 آلاف م3، سواء في شكلها الخام أو المعالج عبر تخليصها من المعادن.
يعتمد على نظام التقطير ونظام الرش في الصيف لتلطيف الجو، والتسخين من خلال تدوير الماء الساخن لخفض درجته إلى 25 درجة، وهي الخدمة التي يقوم بها الديوان من خلال تسيير المياه الساخنة وإعادة استغلالها مرة أخرى وتوزيعها على الفلاحين. كما يتم استعمال نظام الظل من خلال شباك، سيما بالبيوت البلاستيكية بهدف توفير كل الظروف والمعايير من أجل ضمان نمو سليم للنبات وفق تقنيات مدروسة.
ويتضمّن المركب وحدة لخسف المعدنيات مصمم وفق الخصائص التحليلية وحرارة المصدر، تسمح بالحصول على مياه عذبة بخفض ملوحة الماء إلى 1غ/ل، حيث تنتج ما معدله 750م3 في اليوم، بالإضافة إلى حوضي تخزين بطاقة استيعاب إجمالية تقدّر بـ20 ألف م3، يتم من خلالها تزويد المنشآت بهدف ضمان نظام سقي بالتقطير لوقت محدد مناسب لكل أصناف المزروعات.
كما يضم مشتلة تتربّع على هكتار واحد لإنتاج الفسائل ذات جودة عالية بمعدل 20 مليون فسيلة في السنة، عبر غرفة للإنتاش أو الإنبات، مشتلة النمو مجهزة بنظام أوتوماتيكي، مراقبة المناخ، الحماية ضد الأضرار ومنشآت المعالجة الفيتو صحية.
يعتمد المركب على الزراعة خارج التربة كتقنية تتمثل في غرس الفسائل في حوامل بلاستيكية خارج التربة توضع بها المادة الأساسية المكونة من ألياف جوز الهند المستوردة من إسبانيا أو ألياف النخيل، مشيرا إلى وجود تجارب أيضا حول الفلين قام بها المعهد المختص في الخضروات بسطاوالي - يضمن المرافقة التقنية للمجمع وتبادل التجارب - والذي ثبت إمكانية استغلاله كبديل في مثل هذا النوع من الغراسة، ما سيساهم في التخلي عن ألياف جوز الهند المستوردة تدريجيا والاعتماد على الألياف المنتجة محليا.

تجربة ناجحة لإنتاج طماطم الكرز

أما عن التلقيح، فيتم بشكل طبيعي من خلال النحل المحلي. أما بالنسبة للطماطم، فيتم استيراد نوع من الدبابير من إسبانيا تعيش لمدة 40 يوما، يتم تخصيص حوالي 8 أعشاش منها في كل بيت بلاستيكي تتولى مهمة التلقيح ونقل غبار الطلع من زهرة لأخرى، ما يسمح بتكوين سليم لنسيج الثمرة.
ويتضمن المركب مركز المعالجة والتكيف قابل لاستقبال وتخزين وترويج المنتوج الفلاحي للمركب والواردة من فلاحي المنطقة، وذلك باحترام المعايير الصحية الصارمة التي يفرضها الاتحاد الأوروبي.
وبحسب تيجاني، أظهر المركب مؤشرات اقتصادية إيجابية جدا، سواء من حيث المردودية، أو آجال الاسترجاع، والقيمة الإضافية الجد مرتفعة ومعدل الإنتاج الذي يعادل حوالي 250 طن في الهكتار الواحد، وكل هذا من خلال التسيير العقلاني في استهلاك الماء باستخدام تقنيات سقي ممركزة، واستغلال الطاقة الطبيعية التي تنتجها المياه الحرارية الجوفية.
وتمّ مع الشريك الإسباني تجربة زراعات يكثر الطلب عليها، كالطماطم الكرزية، قرع غلوريا، حيث سمحت هذه الشراكة بضمان 3 سنوات من المرافقة التقنية من الإنتاج إلى التسويق من خلال التصدير، وبعد انتهاء عقد الشراكة تم تجربة أربع زراعات محلية كالطماطم، البطيخ الأصفر، الفليفلة والقرع المحلي.
وحاليا يتم اعتماد مخطط زراعي سنوي موجه للسوق الوطنية أو للتصدير، من خلال دراسة ميدانية للسوق، وذلك بعد أن نجح المنتوج الجزائري في دخول السوق الأوروبية بفضل التقنية العالية المعتمدة في البيوت البلاستيكية.

نظام آلي من أجل نموّ سليم

يتم متابعة البيوت البلاستيكية آليا من خلال قاعة القيادة التي تتولى ضبط كل الشروط الملائمة لكل نبات وذلك حسب معدّلات محدّدة، يشرف عليها الشاب المهندس في الري عماد شافو، حيث يسهر من خلال برنامج آلي على متابعة وضمان استخدام منطقي للمضادات الحيوية والمنتوجات الفيتو صحية، وقراءة مناخية من خلال مراقبة درجة الحرارة والرطوبة، نظام السقي الأوتوماتيكي، الاستخدام العقلاني للأسمدة والأملاح حسب حاجة النبات، فتح البيوت البلاستيكية وغيرها من الأمور التي تضبط بدقة من أجل توفير المناخ الملائم للنبات من أجل نمو سليم.
وعن البعد الاجتماعي للمركب، أوضح تيجاني أنه يشغّل حوالي 170 عامل متعاقد بينهم 5 مهندسين مؤطّرين، ويتم السهر على ضمان تكوين دوري لهم، سواء داخل المجمع أو حتى بالخارج، وبالتالي فالتشغيل به محلي يعتمد بالأساس على إطارات من أبناء المنطقة ويضمن الاحتكاك الميداني مع الخبرة الأجنبية في هذا المجال، فأبوابه مفتوحة لجميع المستثمرين ونقل الخبرة وتشجيع الخواص على الاستثمار.

طموح التّوسّع لإنتاج الفسائل

يشير المسيّر بالنيابة للمركب الفلاحي، إلى طموح التوسع بهدف تلبية الاحتياجات المحلية من إنتاج الفسائل، بالإضافة إلى التفكير في الإنتاج خارج البيوت البلاستيكية في فضاءات مفتوحة. كما يهدف المركب إلى تمويل نفسه بنفسه، حيث يسعى، السنة المقبلة، لتلبية طلبيات تم تسجيلها.
ويستفيد المركب من تأمين الصندوق الوطني للتعاون الفلاحي ضد المخاطر الكبرى، سيما الرياح، التي تلحق أضرارا بالبيوت البلاستيكية. علما أن المركب يمتلك فريقا مختصا في الصيانة والتصليح السريع بفضل الشراكة مع إسبانيا للحفاظ على المناخ الملائم واستدامة التجهيزات.

محطّة تّجريبية لتربية المائيات بالمغير

غير بعيد عن الإنتاج الزراعي بالمياه الحرارية، قرّر «لونيد» خوض تجربة أخرى مدمجة مع الفلاحة، تتعلق بتربية المائيات عن طريق إنشاء محطة تجريبية في أكتوبر 2018 على مساحة 550م2، من بين 5 هكتارات تتوفر عليها قاعدة المغير، وتتضمّن 4 أحواض بسعة 60م3، بالإضافة إلى ثلاثة أحواض للتفريخ  تضم ثلاث إناث وذكر بهدف تجميع البيوض كل شهرين وحوض لتخزين المياه.
ويتم، بحسب رئيس المصلحة التقنية لوحدة الاستغلال وادي ريغ، طارق باوية، إنتاج بلاعيط البلطي الأحمر بالمحطة التجريبية على درجة حرارة تتراوح بين 20 إلى 30 درجة مئوية على طول السنة، والتي تبلغ فترة حياتها مدة سنة ويصل وزنها إلى 500 غرام للسمكة الواحدة.
وتتمثل مهام المحطة في الإرشاد في مجال تربية المائيات المدمجة مع الفلاحة، وتطوير تربية الأسماك بإنتاج بلاعيط البلطي الأحمر، بالإضافة الى تقديم الدعم التقني في هذا المجال، وذلك في إطار محيط سقي وادي ريغ المتربع على مساحة 6460 هكتار. علما أن الكثير من المستثمرين الصغار في إطار المؤسسات الناشئة أبدوا اهتمامهم بهذه الشعبة.
في المقابل، تحدّث باوية عن مشروع لإنشاء مشتلة قيد الانجاز تتربّع على مساحة ألف م2، تسمح بإنتاج 150 ألف شتلة سنويا، وذلك بعد أن كان لهم تجربة في هذا المجال، باعتبارها النواة التي أدت إلى إنشاء المركب الفلاحي الصناعي بغمرة فيما بعد.
صدر في مجلة التنمية المحلية - العدد  02 مارس 2021

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024