حي طريق الشيوخ الفوضوي ببوزريعة

التّـرحيـل.. حلـم مؤجــّـل في أعالي العاصمـة

ريبورتاج: نضرة زيني

في قلب جبل بوزريعة، وعلى أطراف أوديته بأعالي الجزائر العاصمة، تتواجد منطقة ظل يعيش فيها مواطنون جزائريون حياة غير عادية، وسط الغابة وفي بطون الوادي، يجاورون فيها خنازير برّية وبالضبط بالحي الفوضوي طريق الشيوخ بوفريزي، ببوزريعة.
إلتقينا في هذا المكان بعض ممثلي عائلات باتت تنتظر دورها في الترحيل إلى سكنات لائقة. من أجل كشف الغطاء عمّا تخفيه الغابة من محن إنسانية، تغلغلت في وسطها مجلة “التنمية المحلية” في زيارة مفاجئة، بدون موعد مسبق، لمكان موحش بالرغم من ترحاب أهله، وذلك بهدف اكتشاف ونقل ولو القليل من معاناتهم اليومية مع صرخاتهم المتعالية لإيصالها للسلطات العليا في البلاد، والتي قدّمت لهم وعودا بالترحيل طال انتظارها، ولم يوف بها البتة لحد كتابة هذه الأسطر.
صعدنا نحو الأعلى، غصنا في أحشاء وبطون هذه الغابة المترامية الأطراف على وادي بوفريزي، أصل هذه التسمية القديمة ترمز إلى مكان جميل، بين وديانه وأشجاره الكثيفة يتواجد حي فوضوي يحوي سكنات أقل ما يقال عنها، إنّها بُنيت بوسائل بسيطة وغير آمنة، تقيم به تقريبا أكثر من 300 عائلة، بحسب وثيقة توجد بين أيدينا، قدّمها لنا أحد ممثلي السكان تحوي طلب التعجيل بالترحيل، وجّهها هؤلاء إلى مندوبة وسيط الجمهورية لولاية الجزائر العاصمة.
يقول أحد السكان الذي عرض علينا مرافقتنا: “في الأصل كنّا بتعداد 500 عائلة، رُحّلت 200 عائلة وبقيت تقريبا 300 عائلة، ملفاتنا توجد على مكتب والي الجزائر، بحسب ما صرّحه رئيس بلدية بوزريعة على أمواج إذاعة البهجة مؤخرا”، مؤكدا أنّ “ملف سكان حي طريق الشيوخ لم يعد على مستوى المجلس الشعبي البلدي، التابع لدائرة بوزريعة، وإنما حوّل إلى ولاية الجزائر ولا نعلم ماذا ينتظر هؤلاء المسؤولين للقيام بترحيلنا، بعدما تمّ تسجيل كل الشروط لذلك”.
في هذا المكان الذي يصعب إيجاد كلمات لوصفه، لا يمكن أن نقول إن عائلات بأكملها تقطن أو تسكن فيه، بل من أنسب الوصف القول إنّها لجأت إليه بحثا عن مأوى وسط الوديان وبجوار الخنازير البرّية، مُرغمة على تقاسم يومياتها معها على امتداد الزّمن، والظاهر أنّ هذه الحيوانات البرّية اعتادت على تواجد بني البشر في محيطها الطبيعي ووسطها الغابي.

ظروف قاسية تُنذر بكارثة بيئية

عرض علينا “عزّ الدين”، أحد المواطنين الذين التقيناهم في ذات المكان مرافقتنا هو أيضا، أخبرنا أنه يشتغل ببلدية باب الوادي كعامل نظافة، وهو أب لبنتين توأم مصابتين بالربو ومرض الأقدام المسطحّة، يقاسي الأمرّين مع عائلته حيث تواجهه صعوبات يومية تتمثل في عدم قدرته على توفير حاجيات عائلته، ناهيك عن التكفل بمرض الطفلتين، بعيدا عن التفكير في كراء بيت يليق بعائلته، لأن الكراء أصبح بأسعار باهظة الثمن، ويقول بكل أسف: “نحن نفتقد لأدنى شروط الحياة، لا ماء، لا كهرباء، لا غاز ولا قنوات صرف صحية”.
عبرنا رفقة مرشدنا ممرا حادا نوعا ما وخطيرا وكأنّنا نسير على متن أجنحة باخرة قديمة، يخيّل لنا في كل حين أنّنا بين الفينة والأخرى سنسقط منها في فراغ تتشابك فيه أغصان الأشجار ولوحات خشبية مع صفائح من الزنك، مشدودة بمسامير وبأحبال مغروسة في الأرض أو مربوطة بأعمدة حديدية تتخللها أسلاك صدئة.
يواصل “عز الدين” كلامه دون وضع فواصل، وفي نفس الوقت كان يجيب على أسئلتنا: “نحن بالإضافة إلى كل ذلك نؤمّن جدران وسطوح مساكننا بأحجار ثقيلة نضعها عليها تفاديا لاقتلاعها في حالة هبوب رياح قوّية في أيام العواصف الهوجاء، ونغطّي تراب المنحدر الذي يوجد تحت بيوتنا مباشرة بغطاءات بلاستيكية ثبتناها في الأشجار وفي الأعمدة لكي ننقص من تأثير كثافة سيل الأمطار، ولا تنزلق الأرضية الترابية حتى لا تنجرف بيوتنا بمن فيها نحو الوادي في أيام العواصف القوّية، ونحن بذلك لا يمكننا أن ننام ليلا بتاتا نبقى نتربّص الخطر، وفي معظم الأحيان نأخذ زوجاتنا وأطفالنا إلى بيت أحد الأقارب، خوفا من تعرّضهم لمكروه أو فقدانهم لا قدّر الله”.

لكن لا حياة لمن تنادي

في طريق ضيّقة، وعرة وملتوية حفرتها أقدام نساء، رجال، شيوخ وأطفال على امتداد سنوات طوال، مشينا فقط بضع خطوات لنكتشف بأمّ أعيننا أنّ هذه الفئة الهشّة من المجتمع تعيش حقا في أشباه جحور معلّقة ومربوطة على أطراف وحوافي وادي بوفريزي، الذي بإمكانه أن يصبح في يوم من الأيام طوفانا يجرف معه هؤلاء إلى مصّب وادي قريش. الصّورة لم تكتمل في مخيّلتنا بعد، لم نصدّق أنه بالفعل تتواجد في ذات المكان عائلات بأكملها فرضت عليها ظروف الحياة الصعبة نفسها، يضيف “عز الدين” أيضا إنّه “مثله مثل جيرانه فضّل اللّجوء إلى هذا النوع من الستر من أعين الناس، بدلا من أن يقيم خيمة في وسط المدينة تحت أنظار المارّين تجنّبا للشفقة وقسوة المبيت في الخارج. مأساتنا متواصلة بالرغم من تعاقب اطلاع المسؤولين على طلبات السكن المتتالية والمتعدّدة”. ويضيف “كتبت عنّا وسائل إعلامية عديدة في السنوات الماضية، وصوّرت وضعيتنا الاجتماعية بكل حيثياتها، لكن لا حياة لمن تنادي، لقد قاموا بترحيل سكان الجهة العلوية للحي الواقع على واجهة الطريق، وشيّدت في مكانه بنايات، لكن هؤلاء المرّحلين جزء ممّا تخفيه الغابة، أما نحن فلم نرّحل حيث قاموا فقط بترحيل ذلك الجزء العلوي، الظاهر للعيان من هذا الحي، وكرّرنا طلبنا من السلطات بترحيلنا، قدّموا لنا وعودا في كل مرة، ولحد الساعة لم يسارع أحدهم بتحقيق مطلبنا الوحيد، ولم يوف به منذ ذلك الحين”.  
أمام كل تلك الوعود غير المحققة، واصلنا طريقنا مكتشفين في المكان عينه واقعا مرّا لايزال لحد ساعة زيارتنا له، ففي طريقنا أيضا استوقفنا “عبد الرزاق”، أحد القاطنين في ذات المكان، بنبرات صوت يتخلّله الألم طالبا منّا بإلحاح إيصال صوت السكان إلى أعلى السلطات في البلاد وإلى رئيس الجمهورية: “نريد أن نعرف إذا كنّا حقّا جزائريّون أم من نحن؟ ألا نملك حقوقا مثلنا مثل باقي الجزائريّين؟ أنا جئت إلى هذا المكان مرغما لم أستطع توفير بيت لعائلتي ولم أجد سوى هذا المكان حفاظا على السّتر.. “، ويتساءل بكل حرقة “ماذا ينتظرون لترحيلنا؟ لا أظنّهم ينتظرون حدوث الكارثة؟ فنحن نعلم أنّ رئيس الجمهورية كلّف الولاة بهذه المهمة وهم المسؤولون بالدرجة الأولى على التكفل بمناطق الظل، نحن نمثّل منطقة ظل حقيقية بقلب العاصمة، لا أظن أن مناطق الظل الموجودة خارج العاصمة تشبه هذا المكان الذي نتواجد فيه بكل عناصره، نحن نطلب منهم أن يأتوا إلى هنا ليروا بأم أعينهم حتى يصدّقوا معاناتنا، ويرحّلوننا من هنا، لأن وضعيتنا فعلا حرجة وخطيرة”.

خنازير تقتات من مفرغة عشوائية

 تركنا “عبد الرزاق” خلفنا وتابعنا طريقنا، نزولا وصعودا بين الجبل والوادي لم تكن جولتنا سياحية البتّة، بل سرنا برفقة بعض المواطنين القاطنين في مكان لا يمكن وصفه بالكلمات، لنستكشف موقعا يفوق كل التوقّعات، لأوّل مرّة تطأ أقدامنا مكانا كهذا يمثّل مفرغة عشوائية وسط الوادي والغابة، قاذورات بلاستيكية وبقايا منزلية، بالإضافة إلى ركام ومخلّفات المنازل والبناءات التي توجد بأعلى الوادي في الطرف الأيسر للحي والمقابل له.
 كانت عملية استكشافنا للمكان برفقة “عز الدين” عبر الممرّ الموصل إلى آخر سكنات الحي، التي تتجاور مع مكان به مياه راكدة في الأسفل، اختلطت بمكوّنات مفرغة ومياه صرف غير صحية، كما أخبرنا عن تكاثر قطعان من الخنازير البريّة في ذات المكان، هي الأخرى لديها عائلات تُقيم أوكارا في الجهة المقابلة للسكنات، وتأتي لتقتات يوميا وفي كل الأوقات نهارا وليلا، صباحا ومساءً من هذه المزبلة التي تنذر بكارثة بيئية في عقر الغابة، وأن هذه المخلّفات تراكمت على امتداد سنوات في الطبيعة نتيجة انعدام مفرغة عمومية بالنظر لصعوبة الولوج إلى الحي الفوضوي لرفع القمامة، وبالرغم من انتشار جائحة كورونا لم يشهد هذا الحي أيـّة عملية تعقيم. سألناه مرّة أخرى عن مصدر المياه، لاحظنا أنّها تخرج من زاوية في أسفل الوادي، فقال لنا مرافقنا إنّها في الأصل شلال ومنبع مائي طبيعي وعذب كان الشبان ينتعشون من مياهه صيفا، وكان مكان استجمام لهم لسنوات عديدة إلى أن دفنته مخلفات البناء المتواجدة في الجهة العليا والمقابلة لسكناتهم، ولم يبق منه إلاّ سيلان ضعيف تحوّل إلى مستنقع للمياه الرّاكدة والحشرات الضّارة وجدت فيه خنازير برّية ضالتها المنشودة.

تلاميذ حي الصفيح: “هل جاؤوا لترحيلنا؟..”  

تنتشر خيوط كهربائية بطريقة عشوائية ومتشابكة على امتداد الممر الضيّق الموصل إلى بيوت الحي، حيث لا يمكن إبعاد امكانية الاحتكاك بها، وهي في متناول الأطفال الذين التقيناهم وتحدّثنا معهم عن معاناتهم اليومية، حيث قال لنا أحدهم: “أبي يعمل خارج العاصمة وأنا من يساعد والدتي وأتقاسم معها مسؤولية البيت في غيابه”، حيث يقوم بجلب قارورة غاز البوتان في كل مرة عبر كل تلك المنحدرات رغم صغر سنه، وهو لا يتعدى 14 سنة، بينما كنّا نتكلم مع هذا الطفل، لاحظنا علامات استفهام اختلطت بفرحة مبهمة على وجوه بقية الأطفال الذين التفوا بنا، بعدها اتّضح لنا أنهم كانوا يتساءلون حول سبب زيارتنا وألحّوا في طرحهم لسؤال واحد ووحيد: “هل جاؤوا لترحيلنا؟”، لم نجد من جواب صائب يزرع الفرحة والأمل في قلوبهم، سوى القول: “سترحّلون بإذن الله”. حاولنا أن نُغيّر منحى الموضوع، لوقوفنا عاجزين عن الإجابة بصراحة تامة، فسألناهم عن دراستهم والصعوبات التي تواجههم يوميا، فأخبرونا بأنهم ينتقلون إلى أعلى الجبل للالتحاق بمؤسستهم التعليمية التي تحمل اسم أحد المجاهدين محمد مزاحم. تضاعفت لدينا المأساة وشعرنا بأن مستقبلهم في خطر، فتأسفنا حينها دون أن نجد أعذارا لمن يعلمون بوضعية هؤلاء ويتحاشون التحدّث عنها ويتماطلون في إيجاد حل لها. رُبطت على قلوبنا غصّة وضاقت صدورنا، لكن سرعان ما تلاشت قليلا بسماعنا
أخبار طيّبة كون هؤلاء الأطفال من التلاميذ النجباء، يحقّقون نتائج دراسية جيّدة رغم ظروفهم المعيشية التي لا يمكنها أن تتساوى بأيّ حال من الأحوال مع أقرانهم في أحياء أخرى غير بعيدة عنهم والذين يعيشون في ظروف طبيعية.
رافقنا هؤلاء الأطفال في طريق العودة، عبر المسار الوحيد للخروج من هذا الحي، وأخذنا لهم صورا تذكارية في محاولة منّا لزرع الفرحة والأمل في قلوبهم، حيث ارتسمت عبرها ابتسامتهم وتعالت ضحكاتهم التي غمرت المكان، بعدما كان يبدو لنا موحشا، ما لبث أن نفخت فيه روح الفرح في كل أرجائه بفضل أناس مثلهم يحملون قلوبا اجتمع فيها الألم والأمل وللأسف كلاهما يعانقان بعضهما البعض.

مشروع سكني ومصعد هوائي متوقّف منذ 2018

عنوان تحمله وتتقاسمه أكثر من 300 عائلة، تقيم في بيوت غير عادية، تختلف زاوية الرّؤية كلّما حاولنا الخروج منها، إلى أن بدت لنا ساحة كبيرة هُيّئت حديثا بالقرب من الحي، يتواجد بها عدد قليل من السيارات المتوقّفة لتقابلنا من جهة اليسار مجموعة من البنايات المكتملة بنسبة تقارب 10 بالمائة، تمثل مشروع بناء مجمّع سكني راقي غير مكتمل سيضم ٢٣٤ مسكن ترقوي و١٤ فيلا، محاط من الخلف بجدار دعم عالي، ومن الجهتين بسياج يحوي مدخلا موصدا كلية. وبحسب اللاّفتة الموضوعة في مدخل موقع الأشغال مكتوب عليها اسم الشركة المكلفة بالأشغال، وهي شركة وطنية كلفت بإنجاز حي سكني به شقق وفيلات، كما لاحظنا آثار تهديم عند المدخل الرئيسي وكأن السياج غُيّر مكانه تاركا وراءه مساحة واسعة، حيث سجّلنا بحسب المعلومات الموجودة على اللافتة، أن انطلاق الأشغال كانت بتاريخ 08 - 07 - 2018، وحدّدت أيضا مدّة الانجاز بـ 28 شهرا، وهذا ما جعلنا نتساءل عن أسباب توّقف الأشغال.  
في الواجهة الأمامية لاحظنا جزءا منها مكتملا كلية، أثناء تفحّصنا للمكان، التقينا بأحد المارة المدعو “أمين”، واتّضح في ما بعد أنه من بين أحد القاطنين بالحي الفوضوي والذي كان يحمل في جعبته الكثير من المعلومات التي تخصّ الحيّ وبكل ما جاوره بالمنطقة، حيث أخبرنا أن الأشغال في تلك البنايات متوّقفة منذ فيفري 2019 إلى يومنا هذا، أي ما يفوق السنة، وأنه بحسب مصادره الشخصية بخصوص هذا المجمّع السكني، فإن مبلغ الشقة يفوق الثلاثة ملايير ونصف، ويقول معلقا على ذلك: “لسنا في حيدرة لتباع الشقة بهذا الثمن، وإننا نحن في عقر وادي بغابة من غابات بوزريعة”، كما أكد لنا أن الأشغال متوّقفة به، مقترحا علينا زيارة الموقع من أجل التصوير، حينها صعدنا الربوة المحاذية للموقع السكني فوجدنا أن هناك بعض البنايات مكتملة، إلا أنه أخبرنا أنها تأثرت من انجراف التربة من الجهة الأمامية، ويظهر ذلك جليا، لأنها بنيت على أرضية مهدّدة بالانزلاقات، انتابتنا عندها علامة استفهام كبيرة، مادام أنّ صاحب المشروع العقاري متحصّل على رخصة للبناء في هذا المكان من
طرف البلدية، ولا يبعد موقعه سوى بضعة أمتار عن الحي الفوضوي الذي زرناه، هذا ما يجعل من المنطقة صالحة للبناء، وكان بإمكان البلدية أن تشيّد لهؤلاء السكان بنايات على مستوى بلديتهم دون البحث عن حلول تتمثل في أوعية عقارية خارج  البلدية من أجل ترحيلهم.
وما يثير التّساؤل هو أنّ هذه البنايات المتوقفة أشغالها غير بعيدة عن الحي الذي زرناه وذلك من جهة اليسار، حيث بالكاد تظهر لنا بنايات فوضوية مختفية بين فروع الأشجار الكثيفة. وبقينا نفكر مليا في الأمر، إلا أنّنا لاحظنا أنّ البنايات المجاورة للحي الفوضوي تتموقع بالموازاة مع خطوط المصاعد الهوائية من فوقها فالمتوقفة عن الخدمة منذ 2018.

 مهمّـشون يطالبون بالسّـكن

لم نتوقّف عن تسجيل كل تفاصيل المعاناة التي كانت مناظرها مؤلمة، ولسان حالنا يكرّر جملة واحدة “لا حول ولا قوّة إلاّ بالله” عبر كل مقاطع الفيديوهات ولقطات الصوّر التي التقطناها في عين المكان دون الانتباه الى ذلك. استوقفتنا في طريق الخروج من الحيّ صور أخرى لم نراها من قبل لتزاحم الصور وتدافعها في مخيلتنا، من بينها تلك التي استخدمت فيها نتيجة انحدار المكان، إطارات مطاطية لعجلات سيارات كأدراج توصل الى مداخل بعض السكنات، التي أقيمت مباشرة على منحدر خطير، بُغية تسهيل عملية الولوج إليها، غُرست في التراب جزئيا لتشكّل عبر كل هذا المزيج مأوى، أقل ما نقول عنه إنّه لا يمّت لحياة بشرية عادية بصلة.
هذا الإحساس عينه الذي شعرنا به، لأنّنا كنّا متواجدين ليس فقط على أطراف الوادي، بل ببطنه وحركة خاطئة من طرفنا تدفننا فيه إلى الأبد، حقيقة كنّا نمشي بحذر شديد، خوفا من الانزلاق نحو الأسفل، بينما كان مرافقونا متأكّدين من خطاهم لاعتيادهم على محاذاة الخطر يوميا.   
التقينا في هذا الحي الفوضوي مجموعة من المواطنين الواحد تلوى الآخر دون موعد مسبق فأدلوا بدلوهم، فكان مرّا كالعلقم، مرارة العيش في مكان كهذا، حقا كل هذه الأشياء لا يمكنها أن تتوفّر في مكان شبيه بما اكتشفناه عند زيارتنا له بشكل عادي، فهي إن توفّرت تتوفر بطريقة عشوائية تعرّض حياة هؤلاء إلى خطر مُميت من الدرجة الأولى.
بالرغم من كل تلك الوعود التي قدّمها المسؤولون المتعاقبون لسنوات، اكتشفنا في المكان عينه إنه حقا، سجّلنا بالخط الأحمر وبالبنط العريض للأسف بقاء دار لقمان على حالها لسنوات عديدة دون أن تؤخذ وضعيتهم على محمل الجدّ، حتى يسارع المسؤولون في منحهم أدنى حقوقهم، وهو السكن والعيش بكرامة في وطنهم الغالي.
على مدار كل هاته السّنوات التي خلت تبقى المعادلة نفسها أسية، بينما كان بإمكانها أن تكون عددية أو غيرها، ليصل بنا المطاف مرّة أخرى إلى ما لا يمكن وصفه وحتى أعيننا لا يمكنها أن تصدّقه. أصابنا الذهول أمام منظر في الطبيعة غير طبيعي أشباه بيوت بُنيت بطريقة لا تمت بصلة لأي نوع من البناء حاول أصحابها أن يرتّبوها، لكن يبدو أن ذلك الأمر مستحيلا، لأنها شُيّدت من قبل هؤلاء على منحدرين خطيرين يشكّلان طرفي الوادي على امتداد مدّة تفوق الخمسين سنة.
(صدر في العدد 02 لمجلة التنمية المحلية شهر مارس)

 

رأيك في الموضوع

أرشيف النسخة الورقية

العدد 19521

العدد 19521

الخميس 18 جويلية 2024
العدد 19520

العدد 19520

الأربعاء 17 جويلية 2024
العدد 19519

العدد 19519

الثلاثاء 16 جويلية 2024
العدد 19518

العدد 19518

الإثنين 15 جويلية 2024