أشخاص أسطوريون، عشقوا مهنتهم حتى النخاع، فاختارتهم قبل أن يختاروها، عمي ابراهيم من بين هؤلاء، رجل في العقد الخامس من عمره، تربّع على عرش صانعي أكلة الكرنطيطا أو القرنطيطا، كما يسميها سكان الجزائر العاصمة. «الشعب» ويكاند تأخذ محبيها في رحلة عبر الزمن لاكتشاف كل ما يحتويه محله ومتحفه الصغير، من حكايات وتُحف مليئة بالقيم الإنسانية المؤرخة لحقبة زمنية تقارب الخمسين عاما.
بالجزائر العاصمة، في شارع الشهداء، بأحد أزقّته يتواجد محل صغير وضيّق، يقصده زبائنه الأوفياء لاقتناء «سندويتش قرنطيطا» بالهريسة الحارّة، تعبّقه رائحة الكمّون الزكّية، تطفو فوقه سحابة بخار ساخن تدفئ بطونا كثيرة وتطفئ جوعها.
أُكلة .. محبوبة الجماهير
بالعودة إلى الذاكرة الجماعية التي أرخّت للأكلات الشعبية، نجد أن هذه الأكلة عرفت بمحبوبة الجماهير، منذ السنوات الأولى لانتشارها تحت مسمى كرنطيطا، وهي كلمة أصلها إسباني، اشتق من كلمتي calienteta أو caliente ومعناه باللّغة العربية هو «ساخن» حيث نجد الناس في منطقة الغرب الجزائري بكل من منطقتي تلمسان ووهران يطلقون عليها تسمية كرنتيكا أو كاران أو الحامي، وهي ترجمة لتسميتها الأصلية من اللّغة الاسبانية، ورغم الاختلاف النسبي في التسمية من منطقة إلى أخرى نجدها تختلف أيضا نسبيا في طريقة تحضيرها، إلا أنها تبقى هي نفس الأكلة التي يتهافت على اقتنائها وتناولها كثيرون في كل مناطق بلادنا بشكل عام، وخصوصاً العاصمة الجزائرية والغرب الجزائري.
.. ولكل منطقة حكاية
من بين إحدى الروايات التي تتحدّث عن زمن اختراع هذه الطبخة المشهورة تلك التي رواها لنا عمي ابراهيم، صانع القرانطيطا، بحسبه، وقعت باخرة إسبانية في حصار في البحر، بالقرب من منطقة وهران ولما نفدت مؤونة ركابها ولم يبق لديهم إلا طحين الحمّص، قام البحّارة بخلطه بالماء والزيت وطهيه، مما سمح لهم أن يسدّوا جوعهم لأيام عديدة، ومنذ ذلك الحين تحوّلت مع الوقت هذه الأكلة، التي يقول عمي ابراهيم عنها، إنها أكلة يحبّها كثيرون ويقدّمون للمحل لاقتنائها في كل الأوقات.
إلا أن الروايات اختلفت حول أصلها ومنبعها فقد وردت في السرد الشعبي عدّة روايات أخرى غير التي ذكرها لنا عمي ابراهيم وأشهرها تلك المتداولة على ألسنة أبناء منطقتي الغرب الجزائري بالخصوص بمنطقتي تلمسان ووهران، وتعود بحسب هذه الرواية بدايات القرنطيطا الى مرحلة الغزو الاسباني في القرن السادس عشر، وأوّل منشأ لها هو الحصن الأثري قلعة سانتا كروز، الواقع بأعلى جبل المارجاجو في مدينة وهران، الصامد إلى يومنا هذا كشاهد على تاريخ هذه المنطقة العريق.
في تلك الفترة الزمنية، وقعت مدينة وهران في معقل الجيوش الإسبانية الغزاة، وخلال معركة من المعارك التي جمعتهم مع المسلمين الفاتحين للمدينة، تم حصار الجيش الإسباني في هذه المنطقة، مما أجبره على البقاء داخل الحصن، إلا أنه بنفاد مؤونته من الطعام في المخازن،
لم يجد سوى مادة واحدة، وهي طحين الحُمّص الذي لم يكن لديه أهمية في ذلك الوقت. حينها تحتّم على الجنود الاسبان أمام الجوع الشديد والحاجة إلى الغذاء، طبخ الحمص بما بقي لديهم من ملح وماء، ليكتشفوا يومها وبمحض الصدفة، أنّها ذات طعم طيّب ومنذ ذلك الحين، بحسب ما يروى انتشرت في بقية أرجاء الوطن، انطلاقا من مدينة وهران العريقة لتمتد شهرتها إلى جميع المدن الجزائرية الأخرى إلى أن يصل بها المستقر أيضا إلى الجزائر العاصمة، أين يتواجد محل عمي ابراهيم وبأحد أعرق أحيائها الشعبية.
قصّة باخرة..
عروس في أعالي البحار
ففي رحلتي الشتاء والصيف، هناك من يتنقل الى محلّ عمي ابراهيم ليس فقط لاقتناء سندويتش قرنطيطا، ولكن أيضا ليكتشف مكانا ساحرا يشبه مغارة علي بابا.. عفوا، بل مغارة عمي ابراهيم والأربعين تُحفة فنيّة، تتزاحم كلها في مكان واحد، تقابلك في واجهة المحل وفي صدارتها باخرة خشبية كبيرة نوعا ما، تُلامس أشرعتها سقف المحل المنخفض، يروي لنا بائع القرنطيطا قصّته معها، فيقول: تمثل هذه الباخرة مجسما للنسخة الأصلية لباخرة تاريخية، أهداه إياها، منذ سنوات، أحد زبائنه من السينيغال، كانت لبحارة غزاة نقلوا فيها سجناء عبيد من إفريقيا ليجلبوا اللؤلؤ من أعماق البحر، وكانوا حينها يلقون بهم في آخر المطاف إلى نهاية مأساوية.. في عرض مياهها لتلتهمهم الحيتان الكبيرة.. من المحتمل أن تكون القصّة رواية شفهية لحادثة تاريخية، ربما تكون سردا حقيقيا امتزج بالخيال في زمن مضى.
ثلاجة وقارورات حليب زجاجية برفقة «القزديرة»
في هذا المكان الذي يقصده محبو أكلة القرنطيطا، تتزاحم تُحف أخرى، نسج معها صاحبها علاقة حب قوّية جعلته لا يصبر على فراقها، تقبع لسنوات ثلاجة فريجيدار بهيكل ضخم وعريض، تمثل إحدى الماركات القديمة المتداول اسمها على لسان العامة إلى يومنا هذا، بعدما خلفت هذه التسمية الكلمة الأصلية كلمة ثلاجة والتي عوّضتها لغويا فأصبحت تدعى فريجيدار إلى يومنا هذا، ويعود إنتاج هذه الماركة إلى سنوات العشرينيات من القرن الماضي، يُقال بحسب بعض المراجع، إنه كان يبث إشهار تلفزيوني رسّخ اسم الماركة في أذهان مقتنيها.
بالإضافة إلى ذلك، على جدران المحل عُلّقت رفوفٌ ووضعت فوقها قارورات زجاجية وحاويات قصديرية كانت تعرف باسم «القصزديرة»، وكأن هذه الأدوات لم تستعمل بعد، وهي باقية في مكانها كدلالة من الدلالات الزماكانية، استخدمت فيها لاحتواء الحليب أو اللّبن، تعود بمن يكتشفها إلى حقبة تاريخية لم يعرفها جيل الحاضر، كانت مادة الحليب في تلك الأيام الجميلة -التي يحّن إليها كل من عرفها- توّزع في قارورات من الزجاج وتحمل تقريبا كلها أسماء شركات وطنية، إلا أنها اليوم في عصر السرعة، وفي زمن التصنيع أصبحت تعبأ في أكياس بلاستيكية أو في علب من الكارتون.
“شخصيات” من الزّمن الجميل
في هذا المكان، رتّب صاحب المحل أيضا طاولات في كل زواياه وحوّلها لمنصّات عرض اصطفت فوقها صور لشهداء الثورة التحريرية ومعركة الجزائر ولممثلين وفنانين من الزمن الجميل، وأخرى لبعض أحياء العاصمة، نجد من بينها شارع باب الوادي العتيق، كما توّزعت صور أخرى على جدران المحل.. شكلت فسيفساء تاريخية تحمل في طيّاتها تاريخ إنسان بكل عفويته وبساطته، وبشغفه بهواية جمع التحف، استطاع بفضلها استحضار جزء من ماضينا وتراثنا الشعبي إلى حاضر تتسارع فيه عقارب الساعة والذي امتاز بإيقافها عند حدود باب محله، ليبدأ حينها زمن لا ينضب ولا يتوقف في قلب الرجل المتفان في عمله والذي يفضل أن يبقى في أحضانه بدل التخلي عن حرفته، بعد أن احتوته بدفئها، خلال كل السنين الماضية.
فأشهر فقيدي أغنية الشعبي حاضرون هم أيضا في هذا المكان، من بينهم دحمان الحراشي والشيخ الحاج امحمد العنقى، والهاشمي قروابي، رحمهم الله، كلهم شخصيات رحلوا عنا، إلا أنّ ذكراهم لا تزال حيّة في محلّ عمي ابراهيم، وبالضبط في متحفه التاريخي، أين تجدهم يقبعون في رفقته الطيّبة، مخلدّين للأجيال المتعاقبة، ومثلما لازال يرافقه عصفور «المقنين الزين» في باب محله الصغير الذي يحمل مسمى «القرنطيطا».
حرفة عشقها حتى النخاع
روى صانع متحف القرنطيطا في آخر لقائنا معه علاقته الوطيدة بحرفته التي عشقها حتى النخاع، كما أنه أبى إلا أن يسرد لنا قصّته مع كل تحفه، بالرغم من أنه في بداية لقائنا معه لم يبدُ من بين الأشخاص الذين يهوون الحديث كثيرا ويفضّلون العمل بصمت، إلا أنه بمجرد سؤالنا عن أشيائه المخزنة وعن حكاياتها وكينوناتها، من أين وكيف بدأت، في البداية كان بالكاد ينطق جملا.. متقطعة، لكن بمواصلتنا الحديث معه وإصرارنا ما لبث أن استرسل في الكلام، أخبرنا حينها أنه التحق بهذه المهنة في عنفوان شبابه وبقي بها لما يفوق 35 عاما، في الأوّل كان لتعلمها، لكن بعدما استقر به المطاف هنا، تأكد له اختياره لها، بعد مرور كل هذه السنوات، زاد تعلقّه بهذه المهنة ما جعله لا يستطيع مفارقتها رغم أنه أشرف على التقاعد، إلا أنه صارحنا أنه لا يمكنه أن يتخلى عن حرفته وصنعته هذه، وهو بالكاد ينطق كلمات «لا يمكنني، لا يمكنني، أن أتخلى عنها»، وعيناه اللامعتان وابتسامته المحتشمة وجسده النحيف الذي يخفيه مئزره الأبيض.. فكل شيء فيه يوحي بتواضعه وعشقه لمهنة مارسها، طوال حياته ولم يعرف غيرها، ومن المؤكد أنه لن يتخلى عنها بكل حيثياتها، لأنها تمثل عالمه الجميل المؤثث بالذكريات، الذي تفانى في صنعه لنفسه ولمحبي أكلة القرنطيطا، كلها شواهد تقف عند تاريخ حقبة زمنية أصيلة طبعت الجزائر العاصمة العميقة عبر يومياتها، أين تعاقبت عليها أجيال وأجيال، لكن أصحاب المهن والحرف الأصيلة لازال عدد كبير منهم يصارع البقاء للحفاظ عليها في زمن الحداثة، بالرغم من كل تعقيداته.
فكل من عرفوا وأحبّوا لذة سندويتش القرنطيطا من يدي عمي ابراهيم يحرصون على الحفاظ على أعزّ ذكراها في قلوبهم، لتكون جزءاً من عطر ذاكرة تاريخنا الأصيل الذي ما زال يعبق في حصن جزائرنا وعلى شواطئ تقاليدنا الشعبية.