صراعات السنوات الأخيرة عرّضت المركب للإفلاس
تحدّيات كبيرة يعيشها مركب الحجار للحديد والصلب، ورهانات أكبر تنتظر الوافدين الجدد على رأس هذا القطب الصناعي، الذي ما فتئ خلال السنوات الأخيرة يواجه عديد المشاكل والأزمات التي تكاد تضع على حافة الإفلاس أكبر مصنع للحديد والصلب في شمال إفريقيا ومن بين أهم 60 مصنعا في العالم، لما يحمله من قيمة رمزية وتاريخية واقتصادية..
بالرغم من الاستراتيجيات والقرارات الهامة التي كانت تتخذ بصفة مستعجلة، لإعادة بعث النشاط الاقتصادي عبر مركب الحجار، والتأكيد على انتهاج أفضل السبل بالاعتماد على حلول جذرية تشكل انطلاقة حقيقية لعملاق الحديد والصلب، القادر على تحقيق أرباح كبيرة، إلا أنه ما يزال يعيش تعثرات جمة يربطها القائمون على المركب أحيانا بتوقف الفرن العالي، وأحيانا أخرى برداءة الفحم ثم أزمة المياه التي تعيشها عنابة.. كل ذلك أثر سلبا على رمز من رموز الصناعة الثقيلة في الجزائر، وتسبب في تراجع إنتاج الفولاذ السائل، الذي يعتبر الركيزة الأساسية لهذا القطب الصناعي.
الأزمات التي يعيشها عملاق الحديد والصلب، جعلت مسؤوليته وعماله يرفعون شعارات تنادي بالتحدي على أمل تجسيد ذلك على أرض الواقع، على غرار مجمع «ايميتال» الذي أكد بأنه يعي بكل نقاط الضعف والقوة داخل مركب الحجار، وبكل تفاصيله الايجابية والسلبية، ما يزيدهم إصرارا على توفير المحيط المناسب لإعادة بعث هذا المركب، الذي يُعوّل عليه لبعث المخطط الصناعي الجديد، والتصدي لكل الصعوبات التي مرّ بها، بدءا من تحديث إعادة هيكلة الشق الإداري وسياسة التسيير، إلى الاستجابة لمتطلبات السوق الداخلي والخارجي.
أزمة تنظيمية، مالية وتقنية
من جهته، يرى الأستاذ الجامعي بجامعة عنابة فؤاد منصوري أن مركب الحجار يعيش أزمة تنظيمية، مالية وتقنية، ما كبّل المؤسسة وجعلها لا تخرج من هذه الوضعية، مشيرا إلى أن أهم ملامح الأزمة التنظيمية هي نمط القيادة للمركب المرتبط مركزيا بالقرارات الوافدة والتي لا تتخذ بداخله، مما يحد من مبادرة الفريق المسير، ويجعله رهينة عوض أن يكون قوّة اقتراح وقوّة اتخاذ قرار بهذا المعنى هناك مشكلة تدبير حقيقية problème de pouvoir décisionnel.
أضاف لـ»الشعب» أن تسارع التغيرات وكثرتها في قيادة المركب ولد حالة لا استقرار، تنعكس بالضرورة على الأداء والمردودية، معتبرا حالة لا استقرار المهني والاجتماعي عمق الأزمة التنظيمية وساهم في توفير مناخ منفر للعمل والإنتاج، في حين أن الأزمة المالية مرتبطة بحجم ديون للمركب لصالح البنوك، مما أدى إلى وضعية غير سوية أو غير متوازنة ماليا، كما أكد الأستاذ الجامعي منصوري أن ملامح الأزمة التقنية تتحدد في قدم المعدات والآليات بالورشات والتي تحتاج إلى تجديد واستثمار حقيقي.
التغيّرات المتسارعة لا تخدم المؤسسة
«للمركب كل المؤهلات البشرية والتقنية التي تعيد له التوازن الاجتماعي والمالي والتقني»، بحسب ما قاله فؤاد منصوري، مع ضرورة الابتعاد عن عقلية الوصاية السلبية وتوحد الجهود في مشروع واضح برؤية واضحة ووسائل تنفيذية ناجعة.
أشار إلى أن «سيدار» هي تراكم تجارب في التسيير وفي النشاط الإنتاجي التقني، ما يؤهلها لاسترداد توازنها التنظيمي، المالي والتقني، مضيفا بأن التغيرات المتسارعة التي يشهدها المركب لن تخدم مصلحة المؤسسة، لأن نجاح المهمة مرتبط أولا ببيئة التسيير التي تتجاوز المؤسسة، لتتصل بالنمط المركزي المعتمد في التسيير، والذي وجب تجاوزه لتحرير الفريق المسير للمركب ليبادر ويجد الحلول، وينفذ ما يراه ملائما لخدمة أهداف المؤسسة.
يرى الأستاذ بأن هناك حزمة من الحلول من شأنها مساعدة المركب على تجاوز أزمته، من بينها تحرير المركب من التسيير المركزي المرتبط برواسب التسيير الاشتراكي، وإعطاء فريق التسيير كامل الحرية في اتخاذ القرارات المناسبة، ويحاسب فقط على مدى تحقيق الأهداف. إضافة إلى اعتماد مقاربة حديثة في تسيير الموارد البشرية من فريق مؤهل ومكون في هذا المجال، يعتمد على التسيير الاستراتيجي للموارد البشرية وليس التسيير يوم بيوم، من خلال اليقظة الإستراتيجية في ما يخصّ التكوين، ضمان عدم ضياع تراكم الخبرات بالمؤسسة، والتقليل من ظاهرة الدوران، وتشجيع المورد البشري بتوفير بيئة جاذبة و ليست منفرة، فضلا عن تدخل الدولة في مسألة ديون المؤسسة لحلها وتطهيرها نهائيا.. للاستثمار في تجديد المعدات والآليات لورشات المركب لتحقيق النجاعة التقنية.
خيارات لا بديل لها
يرى الخبير الاقتصادي أحمد سواهلية أن موضوع مركب الحجار بات مهما، على اعتبار أن هذه المؤسسة الاقتصادية تعد من أكبر الانجازات والاستثمارات الصناعية التي حققتها الجزائر، في ظل الاستخدام الواسع اليوم لمادة الحديد سواء على المستوى الشخصي أو لاستعمالات الدولة أو للاحتياجات المختلفة، هو ما يجعل ـ بحسبه ـ من هذا الاستثمار مهم جدا.
قال الدكتور سواهلية في تصريح لـ»الشعب» إن مركب الحجار مؤسسة اقتصادية عملاقة، يتربع على مساحة تقدر بحوالي 800 هكتار، حيث الطاقة الإنتاجية المتوقعة له، كانت في وقت ما على اعتبار أنها في كل مرة تتغير هي 2 طن من الفولاذ السائل، وتحويل الحديد الخام إلى حديد صافي.
المركب كان باعتباره مؤسسة عمومية يواجه الطلب الاجتماعي في سنوات الثمانينيات، حيث كان عدد العمال كبير جدا يصل إلى 30 ألف عامل، لكن بعد تسييره ـ يقول المتحدث ـ غير ان الدخول في مسار فتح السوق بعد نهاية التسيير الاداري للاقتصاد والانتقال إلى اقتصاد السوق، مع تداعيات التزامات صندوق النقد الدولي، بداية التسعينات، أدى الى التخلي عن كثير من اليد العاملة في هذا المركب لتصل في سنوات قريبة في 2018 بالضبط ما بين 5 ألاف إلى 6 آلاف عامل، والتي اعتبرها محدثنا بالمنطقية.
إلا أن الاستاذ يرى بأن هذا الصرح من أهم المؤسسات الاقتصادية، حيث كان له دور أساسي في انشاء استثمارات صناعية وتوفير فرص عمل، خاصة وانه يقوم بعملية تحويلية واستثمار جزائري هام، بتحويل الحديد الخام إلى حديد صاف شهد مجموعة من المحطات التي تأثر بها كثيرا، لاسيما في الفترة الممتدة من سنة 1995 إلى غاية 2000، بسبب إجراءات والتزامات مع صندوق النقد الدولي الذي أخد منهم قروض لإنقاذ الاقتصاد الجزائري وتسريح حوالي 7 ألاف عامل طوعيا.
نجم عن الوضع التزامات مالية واجتماعية لهذه الفئة، أدت إلى ارتفاع ديون المركب إلى ما يقارب 70 مليار دينار، مع نهاية سنة 2000، وهو ما جعل السلطات العمومية تفكر في خيارات أخرى لإيجاد حل أنجع لهذا المركب، بسبب التسريح المتواصل للعمال، حيث أصبح عاجزا عن الإنتاج وجعل الدولة تقوم في كل مرة بتمويله، ليصبح بذلك عبء على الخزينة العمومية والتفكير في خيارات أخرى ومحاولة فتح المركب ليقوم بعقد اتفاق شراكة مع الأجانب بهدف إرجاع قوته الإنتاجية وحمايته من الغلق.
7 مليار دينار سنويا للدعم
أضاف أن من بين المحطات التي تأثر بها مركب الحديد والصلب أيضا، سنة 1992 ومحاولة الانفتاح على الاقتصاد العالمي وحرية السوق، والإجراءات التي فرضتها وأملتها علينا الظروف الاقتصادية، حيث لم يشهد المركب ربحية مالية وواصل عجزه المالي ليستنزف أموال الخزينة العمومية التي باتت تدعمه بما يقارب 07 مليار دينار سنويا، في الوقت الذي كان من المنتظر أن تكون هذه المؤسسة ذو إنتاج قوي.
كما أثار الدكتور سواهلية الحديث عن التقنيات الأخرى التي عانى منها المركب منذ القديم، وهي صعوبات في وحدات الإنتاج، وتوقفها بسبب المادة الخام والصيانة، ما جعل من الحكومة تحاول إما إيجاد حل أو التخلي عنه نهائيا، وهو الأمر الذي لم يكن واردا تماما، من منطق الحاجة الملحة لهذه المادة والذي توليه الحكومة اهتماما كبيرا، جعلها تسعى للحفاظ عليه حتى وإن كان على حساب نفقات الدولة.
أشار في سياق حديثه أيضا إلى إشكالية استيراد المادة الأولية التي لا تزال قائمة إلى حد الساعة، والتي اعتبرها معضلة كبيرة لمركب ذو حجم إنتاج قوّي يجعله يحتاج إلى نسبة كبيرة من المادة خام، ما يطرح أيضا مشكل التمويل بالعملة الصعبة، حيث لا بد من مرافقة للبنوك العمومية والخاصة، مؤكدا أنه على ضوء عجز المركب وضعف نشاطه جعل من هذه البنوك ترفض عملية تمويله بما يحتاجه من الفحم وقطاع الغيار وصيانة الفرن، والحديد الخام.
ولم يكن من سبيل آخر سوى إشراك الأجانب لإنقاذه والإعلان عن مناقصات، حيث شاركت 03 مؤسسات أجنبية من بينها الشريك الهندي الذي رست عليه هذه المناقصة مقابل حقوق وواجبات للطرفين، على غرار منح امتيازات ضريبية وتخفيضات في بعض الخدمات مقابل دخول الشريك الأجنبي باستثمارات ودعم مالي قارب 200 مليون دولار.
ونبه إلى أنه في الأخير أخلت المؤسسة الهندية بهذا الاتفاق، والذي كان يتضمن 03 بنود يضم برنامج استثمار من خلال التمويل، وتركيبة مالية لمساعدة العمال، الحفاظ على الكتلة العمالية التي كانت تشتغل، إضافة إلى العقد الاجتماعي والاقتصادي والذي يتمثل فيما يدر على الجزائر من ثروة من خلال المادة التي يتم توفيرها.
اهتمام أكبر بعملاق الحديد
أكد الخبير الاقتصادي بأنه حين تمت مراجعة عقد الشراكة مع المتعامل الهندي وتوضيح بعض الشروط، والتي لم تكن في صالح الجزائر والمتمثلة في إضافة شرطين يجب فسخ العقد في حال عدم التزام الشريك الهندي تحت طائلة تحقيق الأهداف المرجوة والمتفق عليها، وعدم تحقيق الإنتاجية، إلى جانب عدم تعويض الشريك الهندي في حال طلب المغادرة والتخلي عن التزاماته قبل 2020.
من هذا المنطلق، اعتبر المتحدث مغادرة الشركاء الأجانب أكبر الإشكاليات التي يعاني منها المركب، إلا أنه تم إنقاذه وتحمل أعبائه، والاكتفاء بالطرف الجزائري والاستغناء عن فكرة الشريك الأجنبي نهائيا، غير أنه يبقى يعاني من العجز المالي والذي يصل إلى حوالي 17 مليار دينار، إضافة إلى استيراد المادة الخام والتمويل بالمادة الأولية.
وأشار إلى أن منجمي الونزة وبوخضرة لم يكونا كافيين لتحقيق التمويل اللازم لهذا المركب، خصوصا وأن الجزائر كانت تعمل على أن لا يكتفي بإشباع السوق المحلية، وإنما أيضا الذهاب إلى تصدير مادة الحديد الخام، لاسيما وأن الجزائر تزخر بطاقات ومخازن منجمية كبيرة، كما أن الأرباح كانت كبيرة جدا، كون تكلفة الحديد والخام قليلة جدا، وتكلفة الحديد الصافي مربحة جدا وهو ما يجعل من الجزائر تستمر في هذا الإنتاج القوّي للحديد.
قال في ختام حديثه، إن الإشكاليات الأخرى المتعلقة بالتسيير والإقالات وصراع النقابات والإدارات وتوقف الفرن بسبب نفاذ المخزون أو التعطلات الإدارية، كلها إجراءات يمكن التكيف معها، داعيا لضرورة الاهتمام أكبر بعملاق الحديد والصلب، وأن يكون من بين الصناعات التي لا يمكن الاستغناء عنها لأنها مدرة للثروة في بلادنا.