خيام تنام على أنوار المصابيح، أصوات المذياع، وشحن الهاتف النّقال
وسط زحمة المعاناة التي لازمت البدو الرحل لعقود طويلة، لاح في الأفق، الآونة الأخيرة، بصيص أمل يمهّد لتحول نحو الأفضل وتحسن في وضعهم الإجتماعي والمعيشي، أحدثته ثورة التكنولوجيا والتقنيات الحديثة، التي مكنت من إيصال الطاقة الكهربائية من خلال الألواح الشمسية بسيطة التكلفة وسهلة الاستعمال، إلى العائلات التي باتت خيامها ليلا تنام على أنوار المصابيح، وأصوات المذياع، وشحن الهاتف النّقال، واستخدامه لمختلف الأغراض والتواصل مع الأقارب في الحضر، سواء لقضاء مختلف الحاجيات، أو الإتصال أثناء حدوث إصابات باللسع العقربي أو أمراض مفاجئة، وكل ذلك كان بفضل برامج الدولة في الدعم بألواح الطاقة الشمسية التي أحدثت هذا التحول الإيجابي في حياة البدو المتنقلين بين ثنايا صحاري ممتدة على مساحات شاسعة جدا.
تحظى مناطق الظل، والمناطق المعزولة، والفئات الهشة عموما، باهتمام بالغ، بغية تحسين وضعها الإجتماعي، وتعزيز التنمية المحلية والنهوض بمستوياتها، ومن بين تلك الفئات التي لوحظ توجيه اهتمام خاص بها، هم البدو الرحل، حيث تدعّمت هذه الفئة بولاية الوادي خلال سنتي 2020 و2021 بمشاريع هامة لتحسين وضعها الإجتماعي، أبرزها برامج الدعم بلوحات الطاقة الشمسية للعائلات، وتزويد الآبار الواقعة في العمق الصحراوي بالمضخات الغاطسة، وإنجاز أحواض وسواق قرب تلك الآبار لتسهيل عمليات سقي المواشي وتوفير المياه بالقدر الكافي.
قوافل المرافقة
تجسّد الاهتمام بفئة البدو الرحل أيضا من خلال القوافل الرسمية التي تنظمها سلطات الوادي المحلية والعسكرية وفعالياتها المدنية والاجتماعية على مدار العام، خاصة القوافل الصحية التي تسهر على تنظيمها مديرية الصحة بالتنسيق مع المؤسسات العمومية الاستشفائية، والجمعيات، حيث استهدفت تلك القوافل الصحية علاج وتلقيح المئات من العائلات المتواجدة في الصحاري البعيدة.
مياه تتدفق باستمرار من الآبار
الآبار المنجزة على مسافات متباعدة في الصحاري من أجل توفير المياه للبدو الرحل ومواشيهم، أصبحت أيضا تتدفق باستمرار باستعمال مضخات غاطسة تشتغل بالطاقة الشمسية، حيث لم يعد أفراد البدو يتكبدون عناء سحب الدّلاء الثقيلة من جوف الأرض، لتوفير الماء لمواشيهم واستعمالاتهم اليومية، بل أصبحوا يجدون مياه كثيرة في الأحواض والمشارب القريبة منهم، بفضل تقنيات لوحات الطاقة الشمسية التي وفرت الجهد والوقت، ومنحت الراحة والطمأنينة لهذه الشريحة الهشة، بتوفر أهم عنصر في الحياة ألا وهو الماء.
مشاريع الدولة في ربط آبار البدو بألواح الطاقة الشمسية، شملت أيضا إنجاز أحواض ومشارب وسواق تتدفق فيها المياه بشكل مستمر، لإتاحة مساحة تضمن سقي المواشي خاصة الإبل دفعة واحدة، وفي أقل وقت ممكن.
52 وحدة من صفائح الطاقة الشمسية
كشفت»صبرينة حكار» محافظ الغابات لولاية الوادي في تصريح لـ»الشعب»، أن مصالح المحافظة قامت بتوزيع 52 وحدة من صفائح الطاقة الشمسية على عائلات البدو الرحل المتواجدة على مستوى بلديات الشريط الحدودي، بداية ببلدية الطالب العربي، ثم بلدية بن قشة، والعملية لا تزال متواصلة بالنسبة لبلدية دوار الماء.
وأكدت أن العملية جاءت في إطار تنفيذ صفقة التطبيق رقم 7 المتعلقة بأشغال تهيئة الأحواض السائلة، وحماية المناطق السهبية والصحراوية، الممولة من الصندوق الوطني للتنمية الريفية.
وأوضحت أن هذه العملية تهدف للحد من خطر لسعات العقارب، وكذلك ضمان الإنارة للقيام بالنشاطات الليلية، زيادة على ضمان شحن الهواتف النقالة لاستعمالها في الحالات الاستعجالية الخاصة، حيث يندرج كل هذا تحت غطاء تحسين الوسط المعيشي للسكان، ولمحاربة النزوح الريفي.
كما قامت محافظة الغابات، حسب المسؤولة، ضمن نفس البرنامج بتجهيز 10 آبار رعوية، و10 أخرى في طور الإنجاز، بمعدات الضخ تشتغل بالطاقة الشمسية، مع إنجاز أحواض ومشارب محاذية للآبار، بغرض تسهيل عملية تربية المواشي والإبل وسقيها، وتقصير المسافات الطويلة المقطوعة لغرض الشرب، نظرا لصعوبة رفع المياه من الآبار التقليدية عن طريق الجهد البشري، وخسارة الوقت سواء لاستغلالها للشرب، أو الماشية الذي يتطلب مجهودات كبيرة.
ونظرا لعدم توفر شبكات الكهرباء التي تعتبر مكلفة في تلك المناطق الشاسعة، يتم استغلال الطاقات المتجددة وبالتحديد الطاقة الشمسية، من خلال تجهيز الآبار بمعدات الضخ عن طريق مضخات غاطسة بمصدر طاقة اللوحات الشمسية، مع محولات تحولها إلى طاقة كهربائية، والذي يجعل عملية رفع الماء وضخه جد سهلة وبتكلفة بسيطة.
لوحات شمسية أقل تكلفة
تعتبر لوحات الطاقة الشمسية ومعداتها المستخدمة للاستعمال العائلي أو ضخ مياه الآبار، من المشاريع الأقل تكلفة ماليا، والأبسط تنفيذا واستخداما، وفوائدها جمة لا حصر لها، متعددة الأوجه، مكّنت في ظرف وجيز، من تحقيق تحول حقيقي في حياة وعيش البدو الرحل المعزولين في المناطق النائية، حيث لا توجد طرق ولا مرافق ولا سيارات، إلا رباعية الدفع منها التي تدخل الصحاري في إطار مهمات لنقل الأعلاف، أو المرضى، أو في إطار قوافل مساعدات صحية، أو تموينية.
ويبلغ متوسط سعر اللوحة الواحدة من الطاقة الشمسية للحجم المتوسط بكل معداتها، المناسب للاستخدام العائلي وللآبار، بين 160000 و190000 دينار جزائري، ويمكن أن تكون أقل من ذلك.
وهي لوحات منشودة ومرغوبة ومطلوبة للرقي بحياة البدو الرحل، ليبقى تجسيدها على عاتق السلطات، ضمن برامج دعم متواصلة، حتى يتم تغطية الغالبية منهم وتحسين وضعهم المعيشي والإجتماعي.
مشاكل لا تزال عالقة
لا تزال عائلات البدو الرحل المتنقلة في صحاري ولاية وادي سوف متمسكة بنمط عيشها القائم على التنقل والإبتعاد لمسافات بعيدة عن الحضر، ما تسبب في عدم تسجيل الكثير منهم في سجلات الإدارة الجزائرية، ترتب عنه بمرور عقود من الزمن والتناسل والتكاثر مشكلات في استخراج وثائق الهوية لهم، وإحصائهم لمتابعة وضعياتهم، بالإضافة إلى انعكاس ذلك سلبيا على وضعهم الصحي والتربوي المرتبطان أساسا بالتوثيق الإداري.
مشكل البدو الرحل في الولاية حسبما وقفت عليه « الشعب»، لا يكمن فقط في الحرمان من ضروريات العيش الكريم، حسبما يرى البعض، بل هناك مشكلة إدارية تتطلب دراسة جدية من الهيئات المعنية، بالنظر لارتباط مسائل الدعم والصحة والتعليم بالتسجيل في سجلات الإدارة المحلية والتوثيق الشخصي، وحل هذا الإشكال في القريب ولو بشكل تدريجي سيترتب عنه حلا لمشكلات أخرى تتعلق بالبدو، منها تعليم أبنائهم، والتطعيم والتلقيح في الأوقات المناسبة لحماية أطفالهم من مختلف الأمراض.
مشكلة التعليم لأبناء البدو تتعلق بها مسألة الإقناع، فقد عُلم أن كثير من عائلات البدو ترفض إلتحاق فلذات أكبداها بمؤسسات التعليم، حتى لو كان هناك تسجيل إداري، وذلك بسبب تباعد المسافات وسط الكثبان الوعرة، والعوز الذي يطال الكثير منهم.
قال «خليفة.د»، وهو أحد أفراد البدو الرحل المتنقلين في الصحراء مع عائلته، جنوب الولاية، أن سبب عدم التحاق أبنائهم بالدراسة هو بعد المسافات، وحاجتهم لكل أفراد العائلة لرعي الماشية وتوجيهها للسقي يوميا للآبار القريبة، وذلك من أجل الحفاظ على ماشيتهم وأرزاقهم وديمومة حياتهم.
وحسبما أكد لـ»الشعب»، المواطن «لخضر.ع» الذي يعيش منتقلا في صحاري الولاية الشرقية رفقة عائلته، فإن الجانب الصحي يبقى هاجسهم الأول، بالنظر لطبيعة الصحراء القاسية شتاء وصيفًا، وتباعد المسافات وسط الكثبان الرملية مع أقرب المناطق الحضرية، وعدم امتلاك غالبيتهم لسيارات رباعية دفع تمكنهم من الوصول إلى القرى التي تتوفر على وحدات علاج، مشيرا أن البعض منهم يلجأ في الحالات الطارئة لاستخدام الدواب لنقل المرضى أو المصابين باللسع العقربي، وذلك يستهلك وقتا للوصول إلى أقرب نقطة.
وبالنسبة للذين لا يستطيعون التنقل بسبب بعد المسافة أو العوز وعدم القدرة على تحمل مشاق السفر وسط الرمال، فينتظرون الفرج من خلال القوافل الصحية، التي تعتمد على السيارات رباعية الدفع للدخول للعمق الصحراوي، وتنظمها السلطات والجمعيات الخيرية على مدار السنة.
الوضعية التعليمية الأكثر تعقيدا
يعتبر تحليل الوضعية التعليمية لأبناء البدو الرحل الجانب الأكثر تعقيدا في حياة هذه الفئة ويتطلب جهدا مضاعفا بين مختلف الجهات المعنية، نظرا للتّراكمات التي حصلت على مدار عقود، دون ظهور مبادرات أو حلول ناجعة لتعليم أطفالهم، مع غياب قوانين ترافق وتنظّم حياتهم وتضمن لهم حقوقهم في شتى المجالات، فمن غير المعقول أن تبقى الأمية تنخرهم من الأقل إلى الأكبر سنا، رغم توفر إمكانات تنتشلهم من وحل الضنك، إلى وضع أكثر أمانا، صحيا وتربويا وتنمويا.
الهاتف النقال تحت الطلب
اعتبر المتابع لشؤون البدو الرحل الهاشمي عويطي رئيس المكتب البلدي للتنسيقية الوطنية للمجتمع المدني ببلدية دوار الماء، الواقعة على الحدود الشرقية ويعيش على إقليمها الآلاف من البدو المنتقلين في تصريح لـ»الشعب»، أن معاناة هذه الشريحة، لم تعد كالسابق، وتحسنت أوضاعهم بفضل التكنولوجيا الحديثة، ووصول الطاقة إليهم عبر اللوحات الشمسية، التي سهلت لهم العديد من الأعمال اليومية، وأصبحت خيامهم مستنيرة في الليل.
كما أتاحت الطاقة المتوفرة باللوحات الشمسية، شحن الهواتف النقالة للاتصال أثناء الحاجة، مشيرا أنه تلقى مرات عديدة اتصالات من البدو بغرض التدخل لنقل مرضى، أو جلب مساعدات غذائية، أو مستلزمات شتوية إليهم، حيث يستخدم أفراد البدو الكثبان عالية المستوى عن السطح لالتقاط الشبكة والتواصل مع الآخرين.
وبخصوص توفر مياه الشرب للعائلات وسقي المواشي والإبل من الآبار، قال عويطي أن البدو الرحل انتهت معاناتهم مع سحب الدلاء الثقيلة جدا من جوف الأرض، وأصبح بفضل تقنيات المضخات المشتغلة بالطاقة الشمسية، الماء متوفرا دائما في الأحواض والمشارب.
وطالب الهاشمي عويطي رئيس المكتب البلدي للتنسيقية الوطنية للمجتمع المدني ببلدية دوار الماء السلطات العليا في البلاد، باستمرار دعم البدو الرحل بمشاريع لوحات الطاقة الشمسية، إلى حين التمكن من تغطيتهم كاملا، مع وضع برنامج لتزويد كل الآبار بألواح الطاقة الشمسية، داعيا السلطات إلى توفير التغطية بشبكة الهاتف النقال في الصحاري التي تتواجد وتتنقل فيها عائلات البدو الرحل.
جزء لا يتجزأ من حياة سكان وادي سوف
حياة البداوة والريف جزء لا يتجزأ من حياة سكان ولاية وادي سوف إلى اليوم، بالنظر لطبيعتها الصحراوية ذات الامتداد الشاسع، وارتباط عمّارها الأوائل، بمهنتي رعي المواشي وزراعة النخيل، في المناطق التي تتوفر على مياه جوفية قريبة من سطح الأرض.
رغم مرور مئات السنين على مجيء الإنسان الأول إلى صحراء وادي سوف والعيش فيها، والتحول التدريجي في الوضعية الإجتماعية للأسرة، من أسرة بدوية متنقلة في البيداء بحثا عن الأكل والماء، إلى أسر حضرية تعيش في رفاه المدن، إلا أن هناك الآلاف من العائلات تمسكت أبا عن جد بالعيش في القفار مثلما كان عليه العهد الأول، وهم فئة البدو الرحل كما يطلق عليهم اليوم سواء في الجزائر أو في باقي دول المعمورة، الذين ظلوا يصارعون لأجل البقاء حفاظا على أرزاقهم من المواشي التي توارثوها، متحملين الحرمان من أبسط الضروريات، والعيش المحفوف بالمخاطر بسبب طبيعة حياتهم وتنقلهم وسط الصحاري القاحلة، والقاسية شتاء وصيفًا.
ويتواجد غالبية البدو الرحل في ولاية الوادي، في الشريط الحدودي الشرقي الذي يضم بلديات الطالب العربي ودواء الماء وبن قشة، والباقي يتوزع شمال وجنوب وغرب الولاية.