عرفت الجزائر الاستيطان البشري منذ غابر الأزمنة، ومرّت عليها عديد الحضارات، انطلاقا من حضارة ما قبل التاريخ ثم العهد الفينيقي البوني، ثم الحضارة النوميدية والرومانية البيزنطية، تليها الحضارة الإسلامية فالتواجد العثماني بالجزائر.
تركت كل هذه الحضارات، حسب د - بلال ارمولي، أستاذ بجامعة الجزائر 2، تخصّص صيانة وترميم الآثار، ومحافظ للتراث الثقافي العديد من الآثار والمواقع الأثرية التي نجدها اليوم في حاجة إلى العناية والدراسة، والحماية خاصة منها المواقع غير المصنّفة، نظرا لما تعانيه من الإهمال والنسيان والاعتداءات المتكررة التي وصلت إلى حد الحفريات العشوائية غير المصرح بها.
بعض المواقع عرفت استمرارية الاستيطان البشري، إضافة إلى تراكم العديد من آثار ما قبل التاريخ والحقبة البونية والفينيقية والنوميدية والرومانية والإسلامية، إذ تشكّل كنزا بالنسبة لتاريخ الإنسان، وتحتاج حماية وتصنيفا، حسب د - بلال ارمولي.
كشف محافظ التراث الثقافي أنّ «من مواقع ما قبل التاريخ التي تتعرض حاليا للنسيان والإهمال موقع بونورة بمدينة الخروب، الواقع بين الطريق الرابط بين قسنطينة وقالمة، الذي يحتوي مجموعة من المقابر المعروفة باسم «الدولمان».
يقول الدكتور ارمولي إنّ «هذا الموقع يتعرض للأسف الشديد للإهمال وللنسيان المطلق، ويتعرض لعمليات التخريب خاصة من مستعملي مناجم الرمال المتواجدة بكثرة بالمنطقة».
ويضيف قائلا: «يعيش بدوره موقع منطقة الشمرة بمنطقة باتنة نفس الوضع، فقد حوّلت مقابر ما قبل التاريخ التي يضمها إلى مفرغات عمومية للقمامة، بسبب غياب وعي المسؤولين، وانعدام الدراسات والأبحاث العلمية والتاريخية حول هذه المنطقة».
قصر بلزمة أو حصن بلزمة تعرض إلى التخريب، مع تفشي ظاهرة البناء الفوضوي وتشييد السكنات العشوائية فوق المغارات الأثرية التي تعود إلى فترة ما قبل التاريخ، وتحتوي رسومات لم تحظ إلى حد الساعة بأية دراسة أو اهتمام، وبقي هذا الموقع غير معروف وعرضة للتلف والإهمال.
وعرّج د - ارمولي، في سياق حديثه، على موقع ايشوقان بباتنة، «الذي يعود أيضا إلى حقبة ما قبل التاريخ فيه آثار نوميدية ورومانية، إضافة إلى مقابر الدولمان، وأكثر من 6000 قبر من نوع «سوشات «و»بازينات»، وقبور الدولمان، كلّها معرضة اليوم إلى التلف والإهمال.
أنين مواقع أثرية مصنّفة
يقع موقع تيديس الأثري على بعد 27 كلم من مدينة قسنطينة، وهو موقع مستمر أي شهد تعاقب كل الحضارات المذكورة أعلاه، ومصنف وطنيا، خصّصت له دراسة لتزويده بمخطط الحفظ والاستصلاح، لكن هذا المشروع لم يكتمل ليومنا هذا.
ومن المناطق الأثرية المعرضة للتلف والنهب والاندثار، منطقة مراونة أو lambsa، التي عرفت العديد من الحفريات العشوائية وسبق وألقي القبض على مخربين ومهربي آثار بهذا المكان.
ونفس الحالة تتكرر في منطقة واد الماء أو lamsortie التي تحدث عنها المؤرخون، ذاكرين ميثاق تقسيم المياه في المدينة الرومانية، ومنطقة AD SAVA MUNICIPIUM حمام قرقور.
تقع منطقة حمام قرقور على الطريق الرابط بين سيطيفيس وصلداي مرورا بعين الروى HORREA والقصر TUBUSUPTU وصولا إلى بجاية SALDAE.
حسب د - ارمولي، ذُكرت «منطقة حمام قرقور في وثيقة جد مهمة أرّخت أسماء المدن الرومانية في شمال إفريقيا تسمى L’ITINERAIRE D’ANTONIN وهو إمبراطور روماني زار المنطقة ومرّ على سطيف ذهابا إلى بجاية عبر منطقة قرقور، وذكرت جميع المدن التي كانت معروفة والكبيرة بأسمائها، قد سميت هذه الوثيقة بـ «مسار انطونين».
ورغم الأهمية التاريخية والحضارية لمنطقة حمام قرقور، فهي عرضة اليوم للنهب والتلف، على غرار الحمام الروماني الذي حول على مر الزمن إلى مفرغة عشوائية للنفايات.
وقد نظّفت الجمعية الوطنية «تراث جزايرنا» سنة 2019 جزءاً كبيرا منه بالتعاون مع الجمعية الثقافية المحلية «اتسافا»، وطالبت وزارة السلطات المعنية باتخاذ التدابير اللازمة لحمايته، وتحسيس سكان منطقة بوقاعة بقيمته وأهميته.
وتأسّف د - ارمولي لحال قصر مدوكال، «وهو من أعرق المواقع المعبرة عن العمارة التقليدية لمنطقة الاوراس، الذي اندثر كليا رغم أهميته من الناحية التاريخية والحضارية، لاحتوائه آثارا تمتد من الحقبة الرومانية، وكان يسمى Aquavivae، إلى الفترة الإسلامية، أين غيّر اسمه إلى مدوكال وهي تسمية أمازيغية ترمز إلى الأصدقاء».
وقصر بالول -ح سب محافظ التراث الثقافي - نمط من العمارة الإسلامية المحلية، يعود تاريخ تشييده إلى القرنين 12-13 للميلاد، وهو من أقدم المخازن الجماعية في شمال إفريقيا وأوروبا، وهو الآخر يعاني التخريب، الإهمال واللّامبالاة.