أغذية لها تاريخ تأبى النسيان في شهادات حيّة تنقلها «الشعب»
تتقاطع أغلب العائلات الأوراسية في مظاهر الاحتفال بعيد الأضحى المبارك، في الاحتفاظ بعديد التقاليد المرتبطة بهذه المناسبة، حيث يبقى الكثير من السكان في القرى والأرياف والمدن أوفياء لهذا الموروث المرسخ في الذاكرة الجماعية المعبّر عن مدلول حضارة وانتماء.
لا تزال هذه الطقوس تحتفظ بقيمتها ومدلولها الديني والاجتماعي مبقية على نكهتها، صامدة تقاوم الاحتفالات التي فرضتها الحياة المدينة الحضرية بسبب الطفرة التكنولوجية. «الشعب»، تسلّط الضوء على هذه المظاهر الاحتفالية بالأضحى.
تحتفل عائلات باتنة، بحلول عيد الأضحى بطريقة مغايرة لبعض ولايات الوطن حتى المجاورة منها، إذ تتميز وتنفرد باقتناء أضحية العيد ذات الحجم الكبير، خاصة الكبش الذي له قرنين نزولا عند طلبات الأبناء وشروطهم غير القابلة للنقاش. وهي أضحية يوضع عليها الحناء تيمنا بها. كما تتسابق العائلات في اقتناء مستلزمات المناسبة الدينية المقدسة على غرار المشاو والفحم، وتمضية السكاكين، والإكثار من اقتناء التوابل، ناهيك عن عمليات تنظيف المنزل وتعطيره وترتيبه استعدادا لاستقبال الضيوف من الءهل والجيران.
البولفاف.. وقصة عشق للكبد الملفوف بالشحم الطازج الطري
من العادات الراسخة بالأوراس، تحضير بعض الأطباق التقليدية خلال يومي العيد، الذي تستقبله العائلات بالاستيقاظ المبكر لأداء صلاة العيد والاستعداد للنحر ثم عمليتي السلخ والتنظيف، والتي تأخذ وقتا معتبرا، لتتاح بعدها الفرصة للحرائر في إعداد أول وجبة غذائية من هذه الأضحية وهي «البولفاف» أقدم طبق وأعرقه في المطبخ الأوراس .يحضر «البولفاف» من كبد الأضحية، وهو كما أكدته لنا الحاجة حدة البالغة من العمر 85 سنة، القاطنة ببلدية تازولت.
واضافت الحاجة لـ»الشعب»، أن «البولفاف» عبارة عن قطع صغيرة ومربعة من الكبد مشوية وملفوفة بالشحم الذي يغلف أحشاء الأضحية، كونه طازجا وطريا، يتسابق على الظفر به كل أفراد العائلة خاصة وأنه أصبح في هذه السنوات طبق الشواء بلا منازع، حيث توضع العديد من قطع الكبد الملفوفة بالشحم في لواقط الشواء ليصبح متماسكا ويتمّ وضعها على نار هادئة من الأفضل أن تكون تحت الجمر، تذيب الشحم على الكبد ويتم طهيه وسط رائحة زكية تخطف العقل قبل القلب. عن سرّ نكهته الساحرة ومذاقه اللذيذ، أرجعت الحاجة حدة ذلك إلى طريقة تحضيره السريعة والخفيفة وبمواد طازجة، حيث يطهى البولفاف بكل مدن وقرى باتنة بمجرد تنظيف الأضحية واستخراج أحشائها، والهدف تجنب جفاف شحم الخروف الرقيق والذي يكون في تلك الوضعية سهلا للف قطع الكبد.
وبخصوص تسمية هذا الطبق اللذيذ باسم «البولفاف»، أوضح عمي أحمد لنا، انه يرجع للف الكبد بالشحم ليكون الطبق الرئيس في أولى ساعات عيد الأضحى المبارك .ويفضل تناوله ساخنا مع أفراد العائلة والأهل باستعمال قطع من الكسرة التقليدية أو وضعه في وسط الخبز.
ولأن ربة المنزل تحرص على تناول الجميع لـ»البولفاف»، فهي تكون عادلة في منحهم قطعا منه بالتساوي، حسب ما هو متاح ومتوفر فلكل أضحية كبد واحد والمهم هنا يضيف عمي احمد هو سحر «قعدة» البولفاف والحفاظ على هذا التقليد ولمة العائلة في هذه المناسبة العزيزة.
كما يكون من نصيب الأقارب والأهل، قطع من البولفاف، تقدّم لهم عند الزيارة والمعايدة، وتستمر بعدها عملية تنظيف باقي أجزاء الأضحية من بوزلوف ودوراة وغيرها، وهي وظيفة حصرية تمنحها النساء للفتيات الشابات، خاصة المقبلات على الزواج لتعليمهن طرق تنقية وتنظيف أحشاء أضحية العيد لتكون قادرة على العملية ببيت زوجها مستقبلا.
«المسلان» لجمع العائلة الكبيرة
طبق آخر، يزين المائدة الأوراسية بالعيد الكبير، هو طبق المسلان الساحر الذي يحضر في ثاني أيام العيد، ويطهى خصيصا بهدف جمع أكبر قدر من أفراد العائلة الكبيرة لتناوله في أجواء احتفالية بهيجة.
طبق الكتف المعروف محليا بـ»المسلان»، من الأطباق الموحدة على موائد العائلات الأوراسية في اليوم الثاني، تقليد لا يزال صامدا في وجه الأطباق العصرية محافظا على مكانته العريقة، حيث يتمّ تحضيره كلية كقطعة واحدة دون تقسيمه، مع البربوشة أو الكسكسي على أن يطبخ في قدر كبيرة مليئة بمختلف أنواع الخضار الطازجة خاصة الموسمية كالكوسة الصغيرة التي تقسم إلى قسمين فقط والبطاطا.
كما يدخل كشرط أساسي في تحضير»المسلان»، أن تكون مرقته حمراء من خلال استعمال التوابل والطماطم المصبرة
والحمص ليجزأ بعد طهيه جيدا إلى أجزاء تقدم فوق الكسكسي بالحمص لكل أفراد العائلة وفي الغالب بحضور كبار السن من الوالدين والأقارب.
وفي القدم يحضر هذا الطبق بمنزل أحد أفراد العائلة الكبيرة حيث يتمّ اختيارها مسبقا لاحتضان هذا الحدث الهام الذي يشرف عليه الوالدان خاصة الأم بحضور كناتها مجتمعات ويقدم في وجبة الغداء حصرا، لتتحوّل المناسبة حسب عمار ناشط جمعوي إلى عرس حقيقي يلتقي فيه كل أفراد العائلة بعد غياب في جو أخوي صادق يعكس قيم التكافل الإجتماعي يضفي عليه الأطفال الصغار بمزاحهم ولعبهم لمسة جمالية بريئة وصادقة، تمتزج فيها فرحة العيد بصلة الرحم.
وأشار عمار في تصريح لنا، إلى أن الواقع المعيشي حاليا يكشف تراجع هذا الاجتماع العائلي المقدس في المدن الكبرى واقتصاره على الأرياف والقرى ببلديات باتنة النائية، بعد أن فقد البيت الكبير مكانته في وأصبح بفعل التطوّر المتسارع الذي نعيشه، الناتج عن استقلال الأبناء بمنازل فردية خاصة بالمدن، إلا أن هذه العائلات القاطنة بالمدن حريصة على أن لا تتوانى في الحفاظ على هذا التقليد وهو طهي طبق المسلان لأفراد العائلة الصغيرة.
عادات غذائية لها خصوصيتها وطرق تحضيرها
هذه العادات في طهي البولفاف والبوزلوف مقدسة جدا بباتنة، كونها تعكس قيم الكرم والجود والمحبة، رغم أنها تتعلق بعادات غذائية، إلا أن الاعتقاد بضرورة تقديمها لأفراد العائلة وكذا الضيوف من الأقارب، كأحسن أحسن قطعة في الأضحية هو سبب صمودها رغم تعاقب الأزمان.
العيد مناسبة عظيمة للتصالح والتسامح والكرم والأهم لم شمل الأهل والأقارب وحتى الجيران ومشاركتهم فرحة النحر في أجواء احتفالية لا تخلو من ذكر الله وشكره والثناء على نعمه.
اللافت هذه السنوات الأخيرة مع الجيل الحالي خاصة الشباب هو استحضار تقليد إقامة وجبات غداء الجماعية بين الجيران، خاصة ببعض المناطق الجبلية والقاطنة بالأرياف أو التي لها مزارع وسكنات بالأرياف، في الهواء الطلق أو في بعض بيوت الجيران الواسعة والقادرة على استيعاب أكبر عد من الأفراد.
يحدث هذا بالتجمعات السكنية في إشمول، آريس، تكوت وإينوغيسن المعروفة بجبالها الخلابة وطبيعتها الساحرة، وذلك تعزيزا لروح الأخوة والمحبة وصلة الرحم، من خلال مشاركة الجميع في عملية طهي الشواء، حيث يتكفل كل فرد بإحضار المتاح من لحم الأضحية وشحمها وكذا الطماطم والفلفل الأخضر والمشروبات الغازية والحلويات وغيرها لتحضير مأدبة غداء جماعية يستذكر من خلالها الجميع تعاليم الدين الإسلامي وخصوصية هذه المناسبة وعظمها تختتم بالتقاط صور وفيديوهات تذكارية خالدة.