تتوق نفس المسلمين في هذه الأيام المباركة، وتشرئب أعناقهم في استلطاف الحديث، ومتابعة أخبار الحجيج ونسك الحج. يحدث هذا ونحن في 10 الأولى من ذي الحجة، وتجد كبارا وشبابا يتمنون ويدعون أن يكرموا بزيارة البيت وأداء 5 اركان الاسلام، بل منهم من يرجو أن يعيد تجربة ومغامرة قام بها من قبل إلى الكعبة.
زيارة تلك المقدسات الشريفة والحرم المكي والنبوي، والتمتّع بالنظر إلى رهبانية المكان وقدسيته، نعم هذا ما يجول ويصول في مخيلة الكثير منا. من هؤلاء «الحاج عبد الوهاب من عائلة لجدل، والذي إلتقته «الشعب»، فراح يسرد قصة أول تجربة وأول دفعة حجيج بسطيف كانت له برفقة الأصحاب بعد استرجاع الجزائر لاستقلالها في العام 1962. كيف ومتى في هذه الوقفة لصفحة «صيفيات» النافذة المفتوحة على كل المتغير والثابت في خارطة اعلام جواري محطة اهتمام دائم.
النية والعزم وطريق البحر نحو الحجاز..
كان الحاج عبد الوهاب و المشهور بين عائلته الكبيرة وأبنائه وبناته بكنية «عمي»، في مطلع عقده الثالث، يمتلك سيارة أجرة، لا يتوقف عن التجوال والترحال بين المدن، حتى كسب واكتسب ثقافة جغرافية، زادته اطلاعا واهتماما لكل ما وقعت عليه عيناه من جرائد كتب وتراجم سير، وأدب رحلات، يلتهمها مثلما يلتهم الطعام.
الحاج عبد الوهاب، وهو في تلك المرحلة الشبابية، عرف عنه كثرة الحديث مع مقربيه وأصحابه عن القدس والمسجد الأقصى، والحجاز والبيت المعمور.. لم يكن يتوقف عن تمني لزيارة البيت الحرام.. ظلّ على ذلك العزم والامل، ولم يكن وقتها ممكنا له، إلى أن استرجعت الجزائر استقلالها سنة 1962.
هنا أصبح الحلم يراوده، ولم تمرّ إلا أشهر ومع مطلع العام الموالي 1963، حتى استعد لهذه الرحلة خاصة وأن موسم الحج على الأبواب. عقد النية، ووافقه بعض الأصحاب، حمل المتاع والأغراض، ولم ينس حتى «الملح» و»رأس الحانوت» و»القربة للماء»، وتزود بالوقود لسيارته من نوع «بريري»،
وانطلق ورفقته، إلى تونس ثم ليبيا ومصر، ومياه البحر الأبيض المتوسط على شماله، يتبع شاطئه، وهم يهللون ويكبرون «لبيك اللّهم لبيك لبيك لا شريك لك لبيك».
مصر وعبور مياه البحر الأحمر وقناة السويس..
يسترسل «الحاج عبد الوهاب» ولا يتوقف وهو يستلذ لاسترجاعه ذكريات أول دفعة إلى بيت الله الحرام، حجا
وعمرة، قائلا، أن الطريق كان ممتعا، وهم يشقون ويعبرون تونس، ثم الحدود الليبية ومدنها، إلى إلى بوابة مصر ومهبط سيدنا يوسف عليه السلام، عزيزها في زمن حقبة فرعونية ذهبية، تلاقى فيها الإيمان برب الأكوان مع عبدة الأصنام والأوثان «آمون».
توقف الحاج عبد الوهاب لحظة وواصل سرده للوقائع وهو حريص على عدم نسيان أي تفاصيل. قال لنا في هذا المقام: «أن ملامح الروحانية في تلك الرحلة كان عجيبا عظيما، لم أكن نشعر ولا من رافقني، أننا في سياحة الى بلد للاستجمام والإمتاع، بل شعرنا بأن أرواحنا كانت ترتقي وتعلو في فضاء ملهم قدسي روحاني إيماني ساحر».
قطعوا في «عبارة « بعد أن ركنوا سيارته على ضفاف ارض مصر، وحملوا الزاد على تلك «العبارة»، ولسانهم لا يتوقف عن التهليل والتكبير، وقلوبهم ترتجف شوقا للنظر إلى بيته العتيق، ولاح بصرهم وتراءت لهم ارض الحجاز.. بعد شهر من الطريق والسفر، كانت الفرحة لا توصف، وهم يستزيدون في التهليل والتكبير والدعاء وقول كل ذكر حميد، وقد لبسوا الأبيض ووضعوا الخيط والمخيط، ورست «العبارة» ونزلوا وقولهم حمد وثناء وشكر في التوفيق.
البيت المعمور والنظر إلى بيت الحرام..
كانت في العام 1963، أرض الحجاز ليست كما هي اليوم، خيم منتشرة في كل مكان، ودور من طوب و بنايات عتيقة، أحاطت المسجد النبوي والبيت الحرام.. كان الناس يترجلون، أو يركبون الجمال والعربات المجرورة، ونادرا ما تصادف حافلة او مركبة. كان «الحج» في تلك الأيام شاقا ومتعبا،
والمقتدر فقط من يستطيع ويحج، و أضفت رهبانية المكان، قداسة فيه وسموا وعلياء في الروح، جعلتهم كمن يرى عالما من الخيال.
يعترف الحاج عبد الوهاب، بأن كل شيء كان بسيطا ولا تعقيدات فيه، ويواصل ويقول أنهم دخلوا الحرم مهللين مكبرين، ونظروا إلى أستاره و لمسوا الحجر الأسود وقبلوه، وطافوا بالبيت، زاروا قبر الرسول العظيم وأصحابه، وجلسوا يمتعون النظر والقلب في كل مقدس، وصلوا وتلوا القرآن وعبدوا وتعبدوا، ودعا لأهله وأقاربه وأحبابه وللجزائر ومواطنيها ولكافه المسلمين، وحمد على التوفيق هو وأصحابه، أن زاروا البيت الحرام، وأشبعوا النظر، إلى أن حان موعد العودة والفراق.
هنا يواصل الحاج في الوصف والحديث، أن الفراق كان كمن يُجتث من الأرض أو يُقتلع، مشاعر لا وصف لها و عواطف جياشة لحد الدموع، و لكن لا بد من الفراق و العودة إلى الأهل و الأبناء، و بدأت رحلة العودة الى جزائر الاستقلال .
إياب إلى بلد الشهداء و لقاء الأهل والجيران ...
ودّع الحاج عبد الوهاب « عمي « البيت و مقدساته، و دعواته و البقية العودة و زيارة قبر الحبيب المصطفى عليه الصلاة و التسليم و الحرمين المكي و النبوي، و ركب البحر مرة أخرى، و زار و هو في الطريق قبر أحد المعارف و ترحم على روحه، و حمل الهدايا و أصحابه و وضعها في سيارته التي تركها مركونة في مصر .
عاد رفقة اصحابه أدراجهم والشوق إلى الأهل كلما قطعوا ميلا ومترا يزداد ويقوى، و لما وصلوا إلى تخوم مدينتهم في مسقط رأسه تحديدا بـعين والمان في سطيف، كان الاستقبال عرسا ولا ينقص عن الكلمة معنى، استقبلوهم في موكب وكأنهم فرسان عادوا منتصرين.
كان لباسهم الأبيض ورائحة العنبر ومسك البيت الحرام، تنبعثان في فضاء رحب، و تعطر كل من اقترب وحىا الحجيج، وختموا الأوبة قبل أن ينصرفوا إلى الأهل والأولاد، بصلاة في مسجدهم العتيق، حمدا وشكرا لمن وفقهم في زيارة بيته العتيق، ووزع الهدايا ونال كل جار وقريب نصيبا منها، وفرح الجميع، وظل الحاج عبد الوهاب، يستقبل الضيوف وهم يباركون تلك الزيارة لمدة شهر تقريبا،
والعرس لم يتوقف، ويتوقف وبسمة ارتسمت على محياه، يستذكر، ويقول كان ذلك منذ ما لا يقل عن 50 سنة، في أول دفعة من الحجيج، و كنت أحد ابطالها الحاج عبد الوهاب «عمي».