الخضر يكسبون تعاطف محبي الكرة المستديرة
الروح العالية والتفاني من أجل العلم.. هي الملاحظة التي أجمع عليها أغلب اليوتيوبرز حينما تطرقوا إلى أسباب تألق المنتخب الوطني الجزائري لكرة القدم في كأس أفريقيا التي تجري بمصر.. منتخب فرض نفسه على المتابعين، وأذهل بانضباطه المختصين والمحللين، وكسب تعاطف محبّي الساحرة المستديرة، فتقبّلته العقول أحبّته القلوب. وقد تابع هذه الحركة التي خلقها المنتخب في وسائل الاتصال التقليدية والجديدة، إنتاج مضمون يدور حول ممثلي الجزائر، ويعمل على التقريب بين جماهير كانت، إلى وقت غير بعيد، تتوجس خيفة من بعضها البعض.. ولعلّ هذا هو المكسب الأكبر في هذا الموعد الأفريقي المتميز.
أسامة إفراح
كما هي عادته، لم يكتفِ المنتخب الوطني الجزائري بصنع أفراح الجزائريين فحسب، بل أدخل الفرحة على قلوب أنصاره من مختلف الجنسيات، بل واكتسب أنصارا جددا بفضل جودة أدائه، وروح اللاعبين العالية، التي خلقت الإجماع على أنه صاحب أفضل أداء في الدورة، بغضّ النظر عن المرتبة التي سيحتلها، حيث أننا إلى غاية كتابة هذه السطور، مازلنا نجهل نتيجة المنتخب في المربع الذهبي. وقد حاولنا متابعة هذا الالتفاف حول المنتخب، الذي تجسّد في أشكال عديدة، وإن كنا قد ركّزنا على «يوتيوب» أكبر موقع فيديوهات في الشابكة.
«ديزاد جوكر».. التنافس لا ينفي التآخي
صنع شمس الدين عمراني، المعروف بـ»ديزاد جوكر»، والذي تملك قناته على يوتيوب أكثر من مليونين و100 ألف مشترك، صنع الحدث بإطلاقه كليب أغنية تحت عنوان «رانا جايين»، تحتفي بإنجاز المنتخب الوطني وتشجعه، وتؤكد على أواصر الأخوّة مع الشعوب الشقيقة.
بعد 20 ساعة فقط من نشر الفيديو على يوتيوب، تجاوز عدد المشاهدات 793 ألف مشاهدة، وهو رقم مرشح للارتفاع، ناهيك عن تناقله عبر شبكات التواصل الاجتماعي الأخرى، ليحتل هذا الفيديو الرتبة 21 في الترند الجزائري، وذلك إلى غاية كتابة هذه السطور.
ووصف «ديزاد جوكر» هذا الكليب بأنه «أغنية لتشجيع الفريق الوطني، ورسالة للشعب المصري»، راجيا أن يتم الفيديو مع المصريين. ولعل الجميل في كليب الأغنية أنه يربط بين تمسك الجزائريين بهدفهم الرياضي في تحقيق نتيجة إيجابية في كأس أفريقيا، وبين حفاظهم على أخلاقهم السامية وعلى أواصر الأخوة بينهم وبين الشعوب الشقيقة والصديقة، خصوصا الجمهور المصري، وذلك باستحضار رباطة جأشهم المعهودة، وهو ما نجده في الكليب الذي ينقل صورة محاربين قدامى يخوضون مباراة كرة قدم أشبه بالمعركة في جو أشبه بالفانتازيا، ولكن مقابل كل هذا فإن هؤلاء اللاعبين/المحاربين يؤكدون على تآخيهم مع نظرائهم المصريين، وطيّ صفحة الماضي بما حمله من تشنجات بين جمهوريْ الكرة في البلدين، لتكون الكأس الأفريقية هذه دورة عودة المياه إلى مجاريها، ودورة التنافس الذي لا يفسد للودّ قضيّة.
وتقول كلمات الأغنية: «رانا جايين رانا واجدين كوپ دافريك ان شاء الله رافدين.. رانا جايين رانا واجدين شكون احنا وانتوما مين».
تضيف: «دزاير مصر والسودان خاوة ولاو عديان.. دارها بيننا الشيطان اليوم يصلحها الإنسان.. لازم تحبس الفتنة قوتنا في وحدتنا.. من عندنا مسامحين واسمحوا لنا إلا غالطين.. نبقاو اخوة ليوم الدين.. كيما رحبتوا بينا لازم تفرحوا معانا.. ماراناش وحدنا.. اليوم راهي جات دالتنا»، ثم تقول: «وانتم تاني تكلوا علينا.. نشرفوكم وتشرفونا»، وأيضا: «خاسرة والا رابحة نشجعوا بحضارة.. نعطوا أحسن صورة في الروح الرياضية.. يلا صفي النية.. ما يهمش انت مين.. كلنا اليوم افريقيين».
كما يمكن ملاحظته، فإن كلمات الأغنية بسيطة للغاية، ولا تشكّل نصا قويا بيانيا أو يحتوي على صور شعرية مثلا، ولكنها تبقى كلمات فعالة، ولعل هذه «البساطة» تسهّل أكثر تداولها بين مختلف شرائح المجتمع الجزائري خصوصا الشباب، كما تفهمها شعوب شمال أفريقيا، وهو هدف آخر من إطلاق الأغنية. أما الملاحظة الأخرى فهي التوظيف المتعمد في بعض المقاطع لكلمات من اللهجات التونسية، المغربية، والمصرية، قبل اختتام الأغنية بالتأكيد على البعد الأفريقي للجزائريين، وفي ذلك رسائل وحدة وسلام، لا فرقة وانتقام.
وفي بعض ردود الفعل الأولى، كتبت الفنانة الجزائرية سهيلة معلم: «نرحب بالشعب المصري وكل الجالية العربية بمصر لتشجيع الفريق الجزائري في كأس أمم إفريقيا 2019.. هذه الأغنية هدية ورسالة من الشعب الجزائري إلى الشعب المصري».
من جهته، قام الموقع الثقافي المصري المتخصص «أويما 20» بترجمة كلمات الأغنية إلى اللهجة المصرية ونشرها على نطاق واسع، في محاولة لتثمين هذه المبادرة، واصفا الكليب بأنه «رائع»، و»هدية من الجزائريين للمصريين». ويأتي هذا الاهتمام بعد أن نشر عدد من الفنانين المصريين، بحر الأسبوع الماضي، تغريدات تشجيع وتهنئة للمنتخب الجزائري.
وسائط التواصل الاجتماعي تشتعل
اليوتيوبرز.. فرضوا أنفسهم كفاعلين جدد في صنع الرأي العام من خلال الفيديوهات التي يشاركونها، والآراء التي ينقلونها أو ينشرونها. اليوتيوبرز، جزائريين كانوا أو عربا، تابعوا عن كثب مسيرة المنتخب الوطني الجزائري، منهم متحدثون جيدون، ومنهم فكاهيون وساخرون، ومنهم محللون رياضيون يضاهون محللي البلاطوهات التلفزيونية، وتلقى حصصهم متابعة تفوق أحيانا متابعة قنوات السمعي البصري التقليدية.
اخترنا لكم، في هذه السانحة، عينة بسيطة من اليوتيوبرز الذي أعلنوا حبّهم للجزائر ومنتخبها.. على غرار المصري علي سعيد، الذي يعرفه الجزائريون ويلقبونه بـ»عاشور العاشر»، هذا الشاب الذي زار الجزائر وأحبها وأحبته، وصار يناصر فريقها جهارا نهارا.
لكن هنالك آخرون قد يجهلهم الجمهور الجزائري: الدكتور ممدوح نصر الله، صاحب كتاب «المدفع» الصادر هذه السنة، الذي يضم مقالات كروية، هو أيضا صاحب قناة على يوتيوب تحمل نفس الاسم «المدفع»، وذلك نسبة إلى فريق أرسنال أو «المدفعجية»، الفريق الذي يشجعه صاحب القناة، وقبل ذلك، هو مؤلف رواية «النهاية» التي نشرها السنة الماضية.
توقفنا عند قناة «المدفع»، لِما لصاحبها من تحليل جيد، ورؤية واضحة، ومتابعة جماهيرية معتبرة، والميل الواضح للمنتخب الجزائري والإعجاب الجليّ بلعبه ومنهجه. وأذكر هنا قناة مصرية أخرى هي قناة «في الشبكة»، التي تشبه بتحليلاتها الجيدة قناة «المدفع»، وتضاهي محللي القنوات الرياضية منطقا ومنهجا.
قناة «تكتيكات كرة القدم» للمحلل الرياضي الأردني طلحة أحمد، الذي يقدم تحليلات سواء على الشابكة أو كضيف على مختلف القنوات التلفزيونية، وفاق عدد مشتركيه 428 ألف مشترك، وقد ساهم في أكثر من مناسبة في شرح نقاط تفوق المنتخب الوطني ونشر صورته اللامعة.
الفنانة والمنتجة ذات الأصل الجزائري، نوال مداني، أعادت بعث قناتها اليوتيوبية إلى الحياة، بنشر فيديو يصور تفاعل الجالية الجزائرية بباريس مع لقاء الجزائر ضد غينيا في ثمن النهائي، وبدأت الفيديو بوالدها محمد، الذي تمنى الفوز جزائريا، ثم قامت بجولة على مختلف مقاهي العاصمة الفرنسية حيث يتجمع مناصرو الخُضر من جزائريين ومغاربيين وعرب، ثم انتقلت إلى حي بارباس الشهير، ثم الشانزليزيه وقوس النصر حيث اعتاد المناصرون الاحتفال بانتصارات منتخبهم.
المصري عبد الرحمن طلعت، صاحب قناة «مهندس كورة»، قدم فيديو من نوع «فلوغ» جمع إلى غاية مشاهدتنا له أكثر من 184 ألف مشاهدة، حيث تنقل من القاهرة إلى ملعب السويس، ونقل أجواء مقابلة ربع النهائي من المدرجات رفقة مناصري المنتخب
الجزائري، ونقل قلقهم وأفراحهم وإهداءاتهم وآراءهم في المباراة، كل هذا وهو يشجّع منتخبنا مرتديا القميص الجزائري.
وللنساء نصيب من التحليل الرياضي على اليوتيوب، الذي لم يعد تخصصا رجاليا بحتا، ونذكر هنا كلا من العراقية نبأ الدباغ وقناتها «لغتي كرة القدم»، ويفوق عدد مشتركيها 111 ألف مشترك، والمصرية رشا محمود التي تحمل قناتها نفس الاسم، والتي تعلق على نجاحات منتخبنا بشعار «وعقدنا العزم أن تحيا الجزائر».
صاحب قناة «الكوريجي» المصرية وجد نفسه يدخل سباق الترند الجزائري للفيديوهات الأكثر مشاهدة، رفقة صاحب قناة «تحليلات تولدو» المصرية، وماجد يحيى صاحب قناة «أسرار ومعلومات» أعلن صراحة تشجيعه للخضر، وكذلك فعل اليوتيوبر الشاب أسامة أبو عسل، الذي قال إن ذكريات مقابلة أم درمان وعمره حينها 14 سنة، تحولت اليوم إلى حبّ وشغف بمنتخب وجمهور جزائريين جهل عنهما الكثير.
طبعا، ليس المصريون وحدهم من يلهبون الشابكة بترند المنتخب الجزائري، حيث نجد شبابا مثل المعلق الرياضي خليل جاد الله، والشاب صاحب قناة «قصيص»، وكلاهما من فلسطين، وصاحب قناة «كورة وبس» من مصر، وكريم لغزاوي ورضا لحبيب من المغرب، وقناة «تريزيغول» التونسية، وكذا يوتيوبرز من العراق وسوريا والخليج وأفريقيا وأوروبا، والعديد من القنوات من مختلف الدول والجنسيات.
ويبقى من أجمل الفيديوهات التي شاهدتها، فيديو لكل من «سماعيل ستار» و»خليفة» من مصر، وقد تابع كل منهما المباراة، وخصوصا ضربات الترجيح، مع والده، ولكم أن تتخيلوا فرحة الابن حينما تمتزج بفرحة ودعاء أبيه.
نشير هنا إلى ثلاث نقاط: الأولى هو أن ما ذكرناه عينة بسيطة من القنوات ذات المضمون بالعربية، وغيرها من قنوات المضمون باللغات الأجنبية كثير أيضا. الثانية هي حضور الجزائريين، ليس فقط من خلال قنواتهم، بل أيضا عن طريق تعليقاتهم واشتراكاتهم ودعمهم لهذه القناة أو تلك. النقطة الثالثة والأخيرة هي أن اليوتيوبرز، بمساندتهم فريقنا الوطني، دخلوا علاقة رابح رابح، حيث أننا نستفيد من دعمهم «الإلكتروني»، وتحسين العلاقات بين الشعوب والثقافات، وهم يستفيدون من رفع عدد المشاهدات والاشتراكات، وبعضهم يدخل قائمة الفيديوهات الأكثر مشاهدة، ما يشكل دعما قويا لقنواتهم.
ظاهرة المنتخب الوطني.. من منظور علمي
قبل 26 سنة، حينما تحدث رينغولد لأول مرة عن مفهوم «المجتمع الافتراضي»، كان استعمال العالم لأنترنت يخطو خطواته الأولى، فيما لم تكن منطقتنا تعرفه أصلا. ولكن «المجتمع الافتراضي» صار واقعا اليوم، بحيث صارت قراءاتنا ومطالعاتنا على الشابكة تنحت إدراكنا للعالم، والكمّ الهائل من الفيديوهات التي نشاهدها تشكّل جزءًا كبيرا، بل وكليّا في بعض الأحيان، من أفكارنا وقناعاتنا.
أثارت المشاركة المتميزة للمنتخب الوطني لكرة القدم في كأس أفريقيا بمصر سيلا من الإعجاب، والتعاطف، والتشجيع، على الشابكة عموما وموقع الفيديوهات الشهير «يوتيوب» بشكل خاص.
حالة من التماهي تذكّرنا بتلك التي خلقها المنتخب الوطني قبل خمس سنوات، حينما تألق وتعملق في كأس العالم بالبرازيل، ولكن الفرق الأهم بين 2014 و2019، هو أن الاستعمال العربي للشابكة صار أكبر بكثير، كما أن المضمون العربي اتسع بشكل لافت خلال هذه الفترة، ما يسمح بحالة من الترابط Linkage، تتعدى في أحيان كثيرة تلك التي تخلقها وسائل الاتصال الجماهيري.
هذا أيضا يفسره رينغولد بمفهومه «المجتمع الافتراضي»، الذي هو شبكة اجتماعية لمجموعة أفراد يتفاعلون فيما بينهم باستخدام وسيلة تواصل ما، وهي الشابكة في حالتنا هذه، والأهم من ذلك أنهم يتجاوزون كل الحواجز الجغرافية والسياسية ويسعون وراء الاهتمامات والأهداف المشتركة.. وحينما يتوفر الاهتمام المشترك، وهو هنا نجاح وتميز المنتخب الوطني، ووسيلة التواصل، وهي هنا يوتيوب وفايسبوك وتويتر، وغيرها من شبكات التواصل، فإننا نجد أنفسنا أمام مجتمع افتراضي قد يكون وطنيا، أو مغاربيا، أو شمال أفريقي، أو عربيا أو أفريقيا، أو حتى عالميا، لأن الاهتمام واحد، والوسائل تلغي الحدود والحواجز المادية والمعنوية. هو لا شكّ شكل من أشكال القوة الناعمة، التي تحدث عنها «ناي»، والتي تختلف في وسائلها عن القوة الصلبة التي تستعمل الجيوش والأسلحة، حيث تعتمد القوة الناعمة على الجوانب الثقافية بشكل كبير، وتستثمر فيها كأداة جذب وتأثير بعيدا عن ضروب العنف وأنواع الإكراه.
يبقى السؤال هنا: كيف نوظف هذا الرصيد في الاتجاه السويّ والإيجابي؟ كيف نحوّل هذه القوة الناعمة إلى أداة للتقريب بين الشعوب، وإلى أداة ترويج لصورة الجزائر الحقيقية البعيدة عن الضبابية وبعض الكليشيهات الخاطئة المتداولة هنا وهناك إن عن قصد أو عن غير قصد؟ هنا يظهر جليّا دور المثقفين والمبدعين، وخبراء التراث والتسويق والسياحة، وكل من يملك القدرة على رسم هذه الصورة الجميلة، بريشة تشكلها سواعد الجزائريين، ولوحة ألوان قوامها الأبيض والأخضر والأحمر.