هذا اليوم الأغر العزيز على الجزائريين المعنون ١٩ مارس ١٩٦٢، هو تتويج باهر لتضحيات شعب أبلى البلاء الحسن في مقارعة استعمار وحشي لم تشهده البشرية جمعاء، أجبره على التوقيع على وثيقة تاريخية تم بموجبها الإعتراف الرسمي بحق استقلال الجزائر بعد ١٣٢ سنة على الإحتلال.
لم يكن الأمر هينا بتاتا خلال المفاوضات التي أفضت إلى هذه النتيجة الحاسمة بالنسبة للجزائريين، كون الطرف الفرنسي حاول بكل ما يملك من حيل تمرير أشياء لم يقبل بها أبدا المفاوض الجزائري، والمتعلقة بالسعي إلى المساس بوحدة التراب أو الرهان على قوى تكون خادمة له فيما بعد ماعدا جيش التحرير الوطني، وقيادته السياسية الحاملة للواء الاستقلال غير المنقوص.
نسرد هذا من باب التذكير أن الثورة الجزائرية كانت مناوئة للنظام الكولونيالي الاستيطاني الرافض قطعا الخروج من هذه الأرض الطاهرة، وهذا عندما إستعمل كل وسائل الإبادة، ولجأ إلى عصابات إرهابية كـ (OAS) المنظمة السرية بالرغم من كل هذا فإن المفاوض الجزائري أظهر كفاءة عالية في إدارة المواقف التي أراد فيها الفرنسيون إحراج الجزائريين كالقواعد العسكرية والأملاك والشركات البترولية، وغيرها من الملفات الشائكة كان يعتقد هؤلاء بأنها في صالحهم.
ونسي الطرف الفرنسي أن القرار السياسي أصبح في أيدي الجزائريين مابعد فترة الترتيبات الأمنية إلى غاية تنظيم الاستفتاء وإعلان الاستقلال يحق لها وضح حد لأي تداعيات.
ومهما قيل عن «إتفاقيات ايفيان» فإن غايتها هو الإستقلال، ولم يكن المفاوض الجزائري يبحث عن التفاصيل التي قد تعطل هذا المسار، أي عدم إعطاء أي فرصة تسمح للآخر أن يجد مبررا كي يتهرب من التزاماته تجاه ما تعهد به، خاصة مع تزايد خسائره المالية والبشرية لم يتحملها ديغول وجماعته الذين رضخوا لكل مطالب الجزائريين في نهاية المطاف، وأرادوا التعجيل بطي هذا الملف مدركين ردود فعل دعاة «الجزائر ـ فرنسية» الذين أنهاروا فجأة لما حدث، وفي المقابل اختاروا خيار العنف، وهذا بتصفية والإعتداء على خيرة أبناء هذا الشعب.
هذا المنعطف الحاسم تعامل معه الجزائريون بكل حكمة، واستطاعوا السيطرة على الأوضاع في المدن الكبرى التي كانت عرضة لإرهاب الكولون.
وما يعرف بالتنسيق الأمني مع الطرف الفرنسي كانت فيه المبادرة لصالح الجزائريين الذين أعادوا هؤلاء المجرمين إلى حجمهم الحقيقي، وهذا بتحييد كل «قيادتهم» آنذاك مما أعاد الهدوء إلى ربوع الجهات التي كانت محل أعمالهم الدنيئة التي غزوا بها الجزائر وخرجوا منها مدحورين يجرون أذيال الهزيمة النكراء.
لذلك، فإن «اتفاقيات ايفيان» قننت لوقائع معينة كان لا مفرها منها.. نتاج لثورة وطنية أسست في المقام الأول للإستقلال الذي لمسه الجزائريون بعد أكثر من ٣ أشهر، أما ما يتعلق بالحيثيات الأخرى فإن التاريخ شاهد على وطنية وثورية الجزائريين، في اتخاذ قرارات غير مسبوقة كتأميم المحروقات واسترجاع المرسى الكبير، ومنع التفجيرات النووية، وإصدار العملة الوطنية وإستعادة الأراضي الفلاحية من الملاك الكبار، وغيرها، كان الطرف الفرنسي يعتقد أن الدولة الجزائرية الفتية لا تستطيع الإنتقال إلى هذا المستوى من الموعد مع التاريخ.
لا يوجد ما يتبادر إلى ذهن البعض بأن هناك بنود سرية.. ما يصدر اليوم عن الأقدام السوداء أو الحركى لا يندرج أبدا في ذلك الإطار السالف الذكر، وإنما هؤلاء تحركهم أطماعهم وشعاراتهم الوهمية التي ماتزال في عقولهم ولم تكن أي إشارة إليهم لمنحهم ضمانات أو امتيازات معينة والجزائريون الذين تضرروا كثير من أفعالهم لن يقبلوا بهم طال الزمن أم قصر، لأنهم يعرفون جيدا ما ارتكبوه، إنه عهد الشهداء الذي مازال قائما إلى الأزل.