يمكن لمسار الشراكة بين الجزائر وتركيا أن يحقّق جانبا من التطلعات الاقتصادية في إنجاز معدّلات مقبولة للنمو عن طريق تنويع الاستثمار المنتج، خاصة في قطاعات يمكن للمؤسسات الجزائرية أن تستفيد فيها من خبرة وتجربة نظيراتها التركية. وأظهرت السّنوات القليلة الماضية مؤشّرات إيجابية يمكن البناء عليها وفقا لتوجّهات تستجيب لأهداف الجانبين مثلما أكّدته اللّقاءات التي جرت الأسبوع الأخير بمناسبة زيارة رئيس تركيا إلى الجزائر وخاصة منتدى رجال الأعمال من البلدين، ومن بين المعطيات تسجيل استثمارات بلغت أكثر من 3 ملايير دولار مع الطموح لرفعها إلى 5 ثم 10 ملايير. ولأنّ الرأسمال لا يؤمن بالنّوايا ولا تحكمه انتماءات، فقد بات ضروريا البحث عن أفضل الآليات لاستقطابه واستمالته نحو السوق الجزائرية التي توفر المناخ الناجع والمحفز للاستثمار في مختلف القطاعات الإنتاجية على غرار الصناعات التحويلية الغذائية البتروكيماوية والفلاحة والسياحة، وغيرها من المجالات التي تشهد تنافسية إقليمية وعالمية لما فيها من قيمة مضافة. وفي هذا الإطار يمكن للمتعامل الجزائري أن يستفيد من هذه الشراكة التي تدعّمت بجملة اتفاقيات في أكثر من مجال، وذلك عن طريق تنمية مقاربة الاحتكاك لانتزاع التجربة والاستفادة من الخبرات التي تساعد على تنشيط مسار الاستثمار في السّوق الجزائرية، التي يبدو أن الشريك التركي قد أجاد قراءة مؤشّراتها وأدرك أنّها واعدة حقيقة، ولا مجال للتردد في التواجد فيها، كمنطلق نحو أسواق أخرى.
الأمر الذي يثير التساؤل كيف لرجال أعمال من مختلف جهات العالم استطاعوا تحليل معطيات السوق الجزائرية، وأدرجوها في توجّهاتهم العالمية، فيما لا يزال هناك متعاملون جزائريون في حيرة من أمرهم لتضيع منهم فرص ثمينة كان لزاما اقتناصها وتوظيفها في تنمية القدرات الوطنية لمواجهة التداعيات السلبية للازمة الاقتصادية العالمية؟ والمفروض بدل أن يبادر متعامل أجنبي بالمغامرة نحو إفريقيا من بوّابة الجزائر، حري بالمتعامل الجزائري أن يكون السباق في جلب الشريك الأجنبي والتوجه معا إلى أسواق إقليمية ودولية خاصة في قطاعات تتوفر فيها الجزائر على قدرات وطاقات هائلة تحقق شروط نجاح الاستثمار فيها مثل المناجم والفلاحة الصناعية والسياحة واسعة النطاق.
لو يتخلّص المتعاملون المحليّون من عقدة الانطواء على الذات، وإنهاء ممارسات تجاوزها الزمن مثل الارتباط بالاستيراد في كل شيء والتبعية لأسواق أجنبية تستنزف مواردنا، وإعادة بناء تكتلات اقتصادية وطنية حول فروع تتميز بالنجاعة والتنافسية، يمكن إعادة تصحيح معادلة المؤسسة والسوق بأقل كلفة، بحيث يتنقل المبادرة من الاستيراد المعطل حاليا في بعض المنتجات إلى التصدير الذي يمثل أكبر تحد اليوم وغدا. ويقدّم النموذج التركي مثالا في هذا بحيث تبلغ صادراتها أكثر من 50 مليار دولار منها أكثر من 2 مليار فقط في تصدير مواد فواكه جافة، بينما بالنظر لخصوبة التربة في بلادنا وطاقاتها الطبيعية والبشرية يمكن تحقيق أكثر من ذلك بكثير، سواء باستثمارات محلية حقيقية وذات جدوى أو بالشراكة مع متعاملين لديهم سمعة في السوق العالمية.
ما ينبغي أن يحرص عليه المتعامل وصاحب المؤسسة ليس في تقديم قراءات خارج إطار المصلحة الاقتصادية البحث عن مثبطات الاستثمار بقدر ما يجب أن يسارع إلى جذب مستثمرين لديهم الموارد المالية والخبرة والسمعة لإرساء مشاريع تنتظرها السوق الجزائرية، وتجد لها صدى في أسواق إقليمية إفريقية كانت وعربية ومتوسطية شريطة الالتزام الدقيق بالمعايير والجودة وتنافسية الأسعار. وتلوح في الأفق بعض المبادرات لمؤسسات جزائرية خاصة في الهاتف النقال والمواد الالكترونية التي تشجّع هذا التوجه بالتواجد في أسواق خارجية في القارة السّمراء أو أوروبا، وهذا إن كان يمثّل مؤشّرا إيجابيا فإنّه غير كاف على اعتبار أنّ ترتيب عناصر القوة في التعامل مع أسواق خارجية وإحكام تكاملها يبدأ بالتفاف المتعاملين الجزائريين حول خيارات إستراتيجية منسجمة بدل التحرك بانفراد فتكون القوة ضئيلة والوزن لا يمثّل شيئا أكبر.
ويكفي رصد مراجعة دقيقة للأسلوب الذي يتحرّك به رجال الأعمال ورؤساء المؤسسات الأتراك في شكل كتلة متناغمة على ما فيهم من تنوّع واختلاف، فنجحوا في التوسع عبر الأسواق، ليدرك المتعامل الوطني أهمية الانفتاح على المحيط المحلي والوطني من أجل امتلاك القدرة على مجابهة السوق الخارجية، والفوز بصفقات ومشاريع وحصص في أكثر من وجهة قارية وعالمية. حينها فقط يمكن انتزاع احترام الشّركاء وتعزيز ثقتهم في المؤسسة الجزائرية التي لا مجال أمامها سوى أن تبادر بإعادة قراءة محيطها ووضع التنافسية في الصدارة، وتحويل وقف الاستيراد من مشكلة ظرفية إلى فرصة ثمينة لإعادة انتشار الجهاز الإنتاجي، ذلك أن كل مادة لا تستورد يمكن المبادرة بإنتاجها لارتباطها بالطلب المحلي.