كلّما قطع مسار الحلّ السياسي في ليبيا خطوة إلى الأمام، إلاّ وتراجع خطوات إلى الوراء، لتعود الأزمة الى المربّع الأول حيث التجاذبات السياسية واالصدامات المسلحة والتصعيد الذي يحبس الأنفاس وينذر بانزلاق قد يقود - لا قدّر اللّـه - إلى احتراب داخلي، خاصة وأنّ جهات في الخفاء تؤلّب هذا الطّرف ضد ذاك، وتصبّ الزيت لتلهب جمرة الحرب التي تسعى دول الجوار الليبي بكل قوة وعزيمة لإطفائها، ومن تمّ إطلاق قطار التسوية السلمية الذي يحفظ في النهاية أرواح الليبيين ووحدة بلادهم وأمنها.
قبل نحو عام ونصف، توصّلت ليبيا الى اتفاق سياسي رعته الأمم المتحدة أثمر حكومة وفاق وطني لقيت كلّ التأييد الدولي، وقد استبشر الجميع - في الداخل كما في الخارج - خيرا بهذه الحكومة التي تحدّدت مهمتها في لمّ شمل الفرقاء في جهاز تنفيذي واحد تحت قيادة فايز السراج للعمل سوية من أجل حل مشاكل ليبيا، وبناء أسس سلطة جديدة تكون في مستوى تطلعات الشعب الليبي ووفق إرادته وعبر خياراته.
لكن تجلّى منذ البداية أن مهمة حكومة الوفاق لن تكون سهلة، وأمامها جبل شامخ من العراقيل والصعوبات، وأول حجرة تعثّرت بها، هي بلوغ العاصمة وتسلّم مقاليد السلطة فيها، والجميع يتذكّر كيف أنّها اضطرّت لدخول طرابلس عبر البحر، وبدأت مهامها من قاعدة أبو ستة البحرية، و«قاومت» لأجل أن تنتزع الوزارات وتصل إلى مستقرّها الحالي.
لكنّها للأسف، منذ ذلك الوقت وهي تطارد الشرعية دون جدوى، في مسعى حثيث لانتزاعها من قبضة برلمان طبرق الذي رفض منحها إيّاه، مصراّ على تزكية حكومة أخرى منافسة تتجاذب السلطة مع حكومة ثالثة غير شرعية هي الأخرى، ما جعل الجهاز التنفيذي في ليبيا بثلاثة رؤوس، والجيش هو الآخر مشتّت بين هذه الحكومة والأخرى، ولغة الحوار غائبة وصوت السلاح صاخب.
في خضمّ هذا السواد، كبر حجم التهديد الإرهابي والإجرامي، ومعه استفحل خطر الأزمة الأمنية الليبية وباتت تشكّل تهديدا حقيقيا للإقليم والجوار، ما حرّك هذا الأخير للتدخّل بمبادرات للتهدئة أوّلا، ثمّ لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء و إقناعهم بمباشرة حوار ليبي - ليبي يتوّج بحلّ شامل ينهي المأساة.
ورغم التجاوب الذي يبديه الأشقاء الليبيون مع هذه الجهود، إلاّ أن أطرافا مصرّة على إغراق ليبيا في مستنقع الحرب كما فعلت مع سوريا، تتدخل في كل مرة على خط التسويات والمبادرات لنسفها، ومن ثمّ إعادة الأزمة الى المربع الاول.
لكن أمام هذا الوضع، على الشعب الليبي أن لا يترك حفنة من أبنائه الضالين يعبثون بأمنه واستقراره بإيعاز من متآمرين في الخارج، بل عليه أن يكسّر جدار الصمت ويرفع صوته مطالبا بانخراط الجميع في تسوية سلمية تنقذ ليبيا والمنطقة بأسرها.