مازلت أذكر ملامح وجهه.. ونبرة صوته.. والتفاصيل الدقيقة التي رافقته أثناء تقمصه دور رأفت الهجان .. الكاريزما التي جعلته محط جميع الأنظار تحركاته على أكثر من صعيد هدوء الرجل العاشق، والعسكري الصامت، التاجر المحنك، السياسي الماكر، السوسبانس الخفي والظاهر .. طريقة شربه ولهفة أصابعه حين يختطف سيجارة كولومبية من علبتها الذهبية.. توجسه من محيطه الغادر والعابر .. الحيطة التي لازمته في أطول مسلسل للجوسسة عرفته الشاشة العربية.
المايسترو محمود عبد العزيز أو «ديفيد شال سمحون» أبدع وحمل هموم قضيته تجاه وطنه إلى أبعد الحدود.. كان الموت يترصده في كل خطوة وفي كل لحظة يخرج فيها من بيته، يعتقد، أنه لن يعود إلى تفاصيل وكره الفخم، بالرغم من أنه يعيش في سجن كبير أبوابه مشرعة، وتارة يخيل إليه كمقبرة ظل موتاها الطريق.. وسرعان ما يعودون إلى قبورهم مكبلي الخطى غير مبدلين.
هذه تفاصيل وكأنك تعيشها اللحظة، حتى العلاقة التي جمعته بـ»أيستر» أو «كليو» كانت دموع العشق حولهما صادقة، لا يحوم حولها الشك وإن كانت المرأة في أكبر قضايا الجوسسة مصيدة أو الفخ الذي نقتص به الفريسة، الأمر لم يكن مع المايسترو محمود عبد العزيز، الكاريزما التي تلازمه سهلت له هذه الأدوار ومنحته الثقة المطلقة على تطويع كل المشاهد في السلم أو في الحرب، وإن كانت هذه الأخيرة تسكن كاهله منذ أن عانق اللعبة وغامر مع تفاصيلها التي لا ترحم.
المايسترو رغم كل العوائق التي طوعها، مازال ذلك الصبي الذي لم يفطم من حليب بلده، عذبته هذه الشجون وأغرقته الغربة في دموع لم تجف أمام جسده وقامته وهندامه، لم تكن دموع الحزن بقدر ما كانت دموع الثقل الذي تحمله وكانت حياته عربون هذا الحمل الثقيل النبيل.
رحيل المايسترو.. هو رحيل لأرشيف ومسيرة حافلة بالعطاء وبالأفلام التي بقيت راسخة في الذاكرة الشعبية. لا يمكن نسيانها أبدا لأنها جزء من هذه الهموم العربية المشتركة، رغم الأدوار التي خلدت اسمه، تبقى التضحية في سبيل الوحدة والأمة والأرض أكبر تحدي يمتلكه المرء في الحقيقة وفي الخيال وليس له غيره، جيل محمود عبد العزيز، جيل المدارس الفنية الكبرى، جيل صنع مجد السينما العربية، وحملها إلى أعلى المراتب، إنه جيل من ذهب.
المايسترو يرحــل
نور الدين لعراجي
13
نوفمبر
2016
شوهد:362 مرة