رغم أنّ الفظائع والكوارث الإنسانية التي تواجهها الدول التي تعيش حروبا واضطرابات سياسية وأمنية لم تعد تفاجئنا أو تصيبنا بالصّدمة بعد أن باتت مشاهد التّقتيل والتّفجير والتّدمير والتّهجير تتزاحم وتتكرّر أمام أعيننا كلّ ساعة وحين، فقد استوقفني وآلمني كثيرا الرّقم الذي سمعته يصدر عن المفوّضية السّامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاّجئين بخصوص عدد الضحايا المهاجرين واللاّجئين، الذين ابتلعهم البحر الأبيض المتوسط منذ بداية السنة وهم يحاولون عبوره لبلوغ القارة العجوز.
الرّقم مروّع بالفعل، إذ اقترب من أربعة آلاف شخص هلكوا وهم يفرّون من الموت في بلدانهم المتفجّرة، فوجدوه يتربّص بهم في منتصف الطريق وبأبشع طريقة، وليتصوّر الواحد مناّ كيف يقاوم الغريق الأمواج العاتية وهي تملأ أحشاءه بمياهها المالحة وتسدّ أنفاسه، فيحاول المقاومة بعض الوقت لكن المعركة خاسرة لا محالة، فبعد لحظات معدودة تخور قواه ويستسلم لقدره وينزل الى الأعماق ليكون وجبة للأسماك،وفي أحسن الأحوال قد تلفظه الأمواج الى اليابسة لتتاجر شاشات العالم بصورته ومأساته، وتستغلّها الأطراف المتحاربة في معاركها الدونكيشوتية الخاسرة تماما كما فعلت بصورة الرّضيع إيلان قبل أشهر.
4 آلاف مهاجر ولاجئ غرقوا في المتوسّط، الرّقم مخيف وهو مرشّح للارتفاع مادامت دوافع الهجرة واللّجوء قائمة، ولا يوازيه فظاعة غير عدد اللاّجئين والمهاجرين الذين غادروا بلدانهم بسبب الحروب والفقر، والذي وصل إلى أزيد من 65 مليون شخص، وهو الأكبر المسجّل على مرّ التاريخ، ما يعكس حجم الكارثة التي حلّت بشعوب دول «الرّبيع الدّموي» على وجه الخصوص، ومواطني القارة السّمراء الذين يفرّ بعضهم من الاضطرابات والتوترات، ويهيم آخرون على وجوههم هربا من سوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية.
إنّ الإعلان عن هذه الأرقام الضّخمة وسماعها، يجب أن يستوقف الجميع ليدقّ ناقوس الخطر، ويلحّ على الذين بأيديهم القوّة والقدرة للتحرّك الجدّي قصد إعادة الأمن والاستقرار إلى البلدان الملتهبة حتى يتوقّف النّاس عن المجازفة بأرواحهم وتعريضها للخطر والموت المجاني، ومعلوم أنّه حتى الذين يسعفهم الحظّ في بلوغ يابسة أوروبا سالمين، فعلى أبوابها يفقدون كرامتهم وإنسانيتهم، ونحن نشاهد بأسى كيف تحاول القارة العجوز التي تساهم بعض دولها الكبرى في تأجيج الصّراعات وصبّ الزيت على نيران الحروب المشتعلة هنا وهناك، صدّ أبوابها في وجه من فرّوا إليها طالبين الحماية والحياة.
والمفارقة العجيبة والمرارة الكبيرة التي سكنت أفئدتنا، لا تصنعها فقط صور جثث الغرقى وهي تطفو على الماء، ولا حتى زوارق الموت المكدّسة بالحاملين أكفانهم على أكتافهم، بل تصنعها مواقف الغرب المترف المتعالي، الذي ينتقي من اللاّجئين والمهاجرين من يفيده في تنمية اقتصاده، ويلفظ الباقي، بل ويرفع السّوط في وجوههم ويجبرهم على المغادرة إلى جهات أخرى، لهذا فمن مجموع 65 مليون مهاجر ولاجئ لا يأوي الغرب المتغنّي بالدّفاع عن حقوق الانسان غير 10 ملايين، أما الباقي فيتوزّعون على دول بالكاد تستطيع تأمين حاجيات مواطنيها، ما يجعل الضّيوف الذين يحلّون بها يشكّلون عبئا ثقيلا عليها.